في قديم الزمان عندما كنا أطفالًا لا نخاف إلا الله، ونعلم علم اليقين أن لنا قدرًا مكتوبًا، نلقاه شئنا أم أبينا، لم نخش شيئًا، لأنه لن يصيبنا إلا ما كُتب لنا، ولم نقلق على رزقنا، لأنه مقدَّرٌ لنا ولن يذهب لغيرنا مهما فعل، فلماذا القلق إذن؟ تعلمنا حينها أن عروبتنا شرفنا وعنواننا، والرابط المشترك بيننا، وإسلامنا يجمعنا، يوحدنا يزيل الحواجز بيننا.
حفظنا في طفولتنا:
بلاد العرب أوطاني *** من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمين *** إلى مصر فتطوان
فلا حد يباعدنا *** ولا دين يفرقنا
لسان الضاد يجمعنا *** بغسان وعدنان
تغنينا بتلك الكلمات ببراءة شكلت نفوسنا ومبادئنا وأصبحت جزءًا منا، ولكن بعدما كبرنا، وجدنا واقع العرب غير ما حفظنا ورسخ في نفوسنا وعقولنا، فبلاد العُرب وجدناها تضيق بنا، ولا ترحب بوجودنا فيها، أبدًا لم ولن تغدو بلاد العُرب لنا أوطانًا، فالحدود تفرقنا، وتباعد بيننا وتحول دون أن نشعر بالأمن والأمان في أي مكان من بلاد العرب، فإذا حلت بنا مصيبة اضطرتنا للهروب لبلاد العرب الأخرى خارج الحدود التي ولدنا فيها وحملنا اسمها في بطاقات هوياتنا الشخصية، نُعتنا فيها بـ “اللاجئين” لتصبح صفة اللاجئ ملازمة لأي عربي شُرد من أرضه.
نُبِذنا في بلاد العرب بمخيمات الشتات والبرد والقسوة، والحرمان من أدنى الحقوق، ووُصِمنا فيها بشتى الصفات وألصقت بنا شتى التهم التي لم تكن فقط، فمثلًا نحن الفلسطينيين اتهمنا بأننا “بعنا أرضنا المقدسة للصهاينة وهربنا منها نرتدي ثوب المستضعفين”، فبتنا كعار لطخ البلاد حيث لجأنا، أما الحدود فقد أغلقت دون من بقي مرابطًا منا على أرضه، لم يكن هذا فقط ما حل علينا من بركات إخوة العروبة، بل شاركوا الأعداء في إحكام الحصار حولنا، فأغلقوا المعبر الوحيد بيننا وبينهم، وتركونا نموت فقرًا ومرضًا وجهلًا، ولم يكتفوا بذلك بل أغرقوا الحدود بيننا وبينهم بالمياه عسانا نموت جوعًا وكمدًا فتقف الحدود سدًا منيعًا أمام من يخطر على فكره اجتيازها ولو عبر الأنفاق لالتقاط لقمة عيش أو الحصول على دواء أو طلب علم.
علمتنا تجاربنا أن ما حفظنا في طفولتنا كان محض هراء، فليست بلاد العُرب أوطاني، وليس كل العُرب إخواني، أما الحدود فقد وضعت لتفرقنا، لتشتتنا، لتفتك بطفولتنا، بإنسانيتنا، لتقتل المعاني الجميلة داخلنا، بلاد العرب فتحت لنا مخيماتها في أحسن الأحوال، وفي الحالات الأخرى كانت سجونها ومراكز التعذيب فيها هي المأوى لنا لتمتهن كرامتنا، وتغتال إنسانيتنا، فنختطف بمجرد دخولنا حدودها، وتنكر الدولة وأجهزتها وجودنا على أراضيها، وكأننا لسنا بشرًا، إنما نحن مجرد رقم لا قيمة له، أُسقط من سجلات العرب.
صلاح الدين الأيوبي
نغيب في خيالنا الطفولي، فنرى المعتصم مُهابًا في عباءته، يمتطي جواده العربي الأصيل، مقبلًا يصد جيشًا جبارًا من المعتدين بمفرده، يحرر امرأة مسلمة صرخت مُناديةً: “وامعتصماه”، ونرى البطل صلاح الدين، يقبل من مصر إلى فلسطين يقود جيشًا جرارًا، يحرر المسجد الأقصى، ونشاهد بأم أعيننا التتار يتساقطون بسيف السلطان قطز والقائد الظاهر بيبرس مذبوحين كما الأنعام، ونرى إجلاء يهود خيبر وبني قريظة والنظير من ديار الإسلام، كنا نراهم بمخيلتنا كالشياطين، يلتصق ذيل بأسفل ظهورهم، فنعرفهم، نميزهم عن باقي بني الإنسان، هم الخبث والمكر والغدر وكل معاني الدنو إلى الحضيض، ويؤمن خيالنا الطفولي أن كل من يحبهم ويحرص على مصلحتهم ويمالؤهم هو مثلهم وعلى دربهم يسير، هم العار إذن، فمن سيدنو من الحقير؟
ويخطر على بالنا تلو تلك الصور العصا الضعيفة المحمية بحزمتها، لا تُكسر، ونرى النعجة الحمقاء القاصية وقد استفرد بها الذئب وحيدة عن القطيع، ففتك بها، ولم تسعفها نداءات الاستغاثة أو الصراخ أو العويل، فتستيقظ في ذاكرتنا بعد تلك الصور “لنا مدنية سلفت سنحييها وإن دثرت، ولو في وجهنا وقفت دهاة الإنس والجان”.
تقفز الصور الطفولية لأذهاننا غصبًا عنا، فيصرخ الطفل داخلنا، أنا العربي لا أخجل.. أن المسلم… لا أوجل.. أنا لا أخاف مهما فعلتم يا حكام أمتنا.. كرهناكم.. سئمناكم.. سخرتم من عروبتنا، شتتم طفولتنا، سفَّهتم أحلامنا، صادرتم الكلام من حناجرنا، وحجبتم ضوء النهار عنا، وباعدتم بيننا وبين التطور والتقدم والحضارة، كفرنا بكل معانيكم ومغانيكم ومواقفكم وسجونكم ومشانقكم.. كفرنا بكل العصابات التي تحكم أمتنا.
ارحلوا عنا أيا ظُلَّام أمتنا، يكفينا ما حل بنا على يدكم، فتحرير المسجد الأقصى من بني صهيون ستوحدنا، ستجمعنا، ستجمع العُرب، والمسلمين من الخليج العربي شرقًا إلى المحيط غربًا، فمن مصر والسودان والصومال والمغرب العربي، وتركيا وماليزيا وباكستان وأفغانستان ومينمار، ومن كل مكان على هذه الأرض، ستتغير المعادلة وسيطردون صهيون، سيطردون خيبر والنظير وقريظة، سيطردون الشيطان ذي الذيل من القدس وفلسطين ومصر وسوريا واليمن والعراق، ستتلاشى الحدود، وتنفك القيود، ونعود كما كنا، أبطال كصلاح الدين، وخالد بن الوليد، والمعتصم، ونور الدين زنكي، وغيرهم من أبطال أمتنا.
فبلاد العرب أوطاني، وكل المسلمين إخواني، لهم تأثير كما السيل الجارف، الذي يغسل الأرض ويغسل نفوسنا من ظلم وحرمان وقسوة هذه الفترة اليتيمة من تاريخنا الحالي، فيقبل الغد مشرقًا باسم الثغر يحمل الحرية والتفاؤل والنهضة في ثناياه، فنعود كما كنا في المقدمة، فــــبلاد العرب أوطاني، من الشام لبغدان.