بعد ثورات الربيع العربي، برز بحدة الدور الإيراني في دعم الميليشيا الأجنبية بدول الجوار، القائمة على مفهوم طائفي لتأجيج الصراعات في تلك الدول، ومحاولة منها لتصدير ما تسميه بالثورة الإسلامية “ثورة الملالي”، حتى أن رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الإيرانية، اللواء محمد باقري، صرح علانية مؤخرا وبدون مواربة لموقع Middle East Eye، خلال العرض العسكري الذي أُقيم بمناسبة الذكرى الـ36 للحرب العراقية الإيرانية، بأن طهران تمتلك السيطرة والنفوذ على 5 دول عربية هي لبنان واليمن وفلسطين وسوريا والعراق.
حرب دينية
البعد الديني – الطائفي للسياسة الخارجية الإيرانية لا يخفى على المتابعين، وتؤكده التحركات اليومية على الأرض بدءا من دعم الأقليات الشيعية في الدول العربية والخليجية سياسياً وثقافياً، مرورا بإنشاء أحزاب سياسية أو ميليشيات عسكرية، تعمل على تحقيق مصالحها في هذه الدول، سواء في الضغط على حكوماتها كما هي الحال في حالة “حزب الله” اللبناني، أو في إفشال أي تحركات سياسية لا تتواءم مع مصالحها، مثلما فعلت مع الحوثيين في اليمن، وصولاً إلى تقديم الدعم العسكري اللازم في حال نجحت في تأجيج التوترات، مثل حالة الحوثيين وحزب الله، وميليشيا العلويين الداعمة لبشار الأسد في الحالة السورية، والحشد الشعبي في الحالة العراقية.
عقلية الدولة – والثورة
هذه الحالة يصفها المحللون بأن إيران تدار بعقليتين “عقلية الدولة” و”عقلية الثورة” الأولى تستخدمها في مخاطبة المجتمع الغربي، كالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، والقوى الكبرى كروسيا والصين، وأسهمت في تحسين صورتها دوليا، وفق هذا التوجه ، حتى أنها نجحت في إقناع الغرب للتوصل إلى اتفاق ينهي الأزمة التي استمرت أكثر من عقد من الزمان، بشأن مشروعها النووي، والثانية هي عقلية الثورة، التي تصدرها للدول العربية، مستغلة تكوينها المنوع طائفيا مثل دول الخليج العربي ولبنان وسوريا والعراق واليمن، وعملت على عسكرة الطائفة الشيعية وحولّتها إلى مليشيات ضد مصلحة دولها.
وهم تصدير الثورة
منذ وقوع ثورة الخميني في العام 1979، ودولة الملالي لا تألوا جهدا في محاولات نشر مشروعها الإقليمي التوسعي، ذات البعد الطائفي، واستثمرت الكثير من مواردها وأموال الشعب الإيراني في نشأة أذرع أيديولوجية لها بالعديد من الدول تأتمر بأمر قادة الحرس الثوري الإيراني، بعيدا عن ولاءاتها الوطنية، مستخدمة شعارات فضفاضة من قبيل الدفاع عن المظلومين والمضطهدين، وحماية الأقليات، وهي عقيدة مستمدة من أقوال قائد الثورة الإيرانية، “الخُميني”، الذي قال عام 1980م ما نصه “نحن في جمهورية إيران الإسلامية سوف نعمل بجهد من أجل تصدير ثورتنا للعالم، وأنه بمقدورنا تحدي العالم بالأيديولوجية الإسلامية.. ونحن نهدف إلى تصدير ثورتنا إلى كل الدول الإسلامية، بل إلى كل الدول حيث يوجد مستكبرون يحكمون مستضعفين”!!
أقوال الخميني تضمنها الدستور الإيراني بفصله الأول المعنون بـ”الأصول العامة” في المادة الثالثة بأنه : “من أجل الوصول إلى الأهداف المذكورة في المادة الثانية، تلتزم حكومة جمهورية إيران الإسلامية بأن توظف جميع إمكانياتها لتنظيم السياسة الخارجية للبلاد على أساس المعايير والالتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين، والحماية الكاملة لمستضعفي العالم.. وتعتبر جمهورية إيران الإسلامية سعادة الإنسان في المجتمع البشري كله قضية مقدسة لها، وتعتبر الاستقلال والحرية وإقامة حكومة الحق والعدل حقاً لجميع الناس في أرجاء العالم كافة، وعليه، فإن جمهورية إيران الإسلامية تقوم بدعم النضال المشروع للمستضعفين ضد المستكبرين في أية نقطة من العالم..” .. وهي المبادئ التي لخصتها تصريحات الرئيس حسن روحاني في مارس 2016، والتي قال فيها صراحة: إن “إيران سوف تتدخل في أي مكان توجد به مقامات للشيعة، وتتعرض إلى تهديد من قبل الإرهابيين”.!!
لم يكن الدستور وحده هو من يجيز للحكومة الإيرانية التدخل في شؤون الغير، لكن النظام نفسه وضع في العام 2005 وثيقة تعرف بـ “الخطة العشرينية” 2205 – 2225 والتي وضعت تصورات مستقبلية للدور الإيراني خلال عشرين عاماً، وتهدف إلى تحويل إيران إلى نواة مركزية لهيمنة تعددية داخلية في منطقة جنوب غرب آسيا “أي المنطقة العربية تحديداً التي تشمل شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام”، استناداً إلى تعاليم “الخميني” وأفكاره، وهو ما يتفق مع ما تم صياغته تحت مسمى نظرية “أم القرى”، التي ترى في إيران مركز العالمين العربي والإسلامي.
بشار أول المستضعفين
إذا إيران أعلنتها صراحة ” من حقنا وفق للدستور التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى”.. تحت غطاء دعم ما يسمى المستضعفين، وهو مصطلح فضفاض آخر ضمن مصطلحاتها ومبرراتها للتدخل في شؤون الغير يهدف للتأثير العاطفي على الرأي العام، وبالطبع كان أول هؤلاء المستضعفين وفق التصور الإيراني هو الرئيس السوري بشار الأسد والحوثي باليمن ونصر الله في لبنان والمالكي والعبادي بالعراق.!!
مليشيا ابو الفضل العباس في دمشق
بقراءة تحليلية لكل ما سبق يمكننا الجزم بأن إيران لا تحركها فقط فكرة تصدير الثورة لدول الجوار وفق فكر الخميني، أو الدستور المنبثق عنها، أو حتى وثيقة العشرين عاما، لكنها تنبع في الأساس من فكرة الأيديولوجية التي يعتمد عليها النظام الحاكم في إيران، وتتمحور بشكل كبير حول العنصر البراجماتي، القائم على فكرة “المصلحة الوطنية”، بمعنى أن إيران لا تفعل ما تفعله بدافع الحماسة الأيديولوجية فقط، ومحركها الرئيس مرتبط إلى حدٍ كبير بأمنها القومي، وليس بأحلامها لتصدير الأفكار الثورية إلى جميع دول المنطقة.
الأذرع الطائفية
رؤية أخرى ترسخ لفكرة الطائفية الإيرانية بجانب البراجماتية الخاصة بالأمن القومي، عبر فكرة الأذرع الطائفية التي ترسخ لتوسعها وتمددها الإقليمي، وأول تلك الأذرع هو حزب الله اللبناني
حزب الله اللبناني
الذي كان لإيران دور رئيس في تأسيسه، واستطاعت مساعدة الحزب في الظهور كممثل للشيعة في لبنان، ووفرت له الدعم المادي والعسكري، بحيث تمكنت من تكوين قوة شيعية في المنطقة، وفق نظرة المحيط العربي لإيران، وفي سوريا التي تشكل أهمية جيوسياسية وإستراتيجية كبيرة لإيران، حاولت دولة الملالي استنساخ تجربة حزب الله بعد عام 2011 حينما دعمت قوات بشار الأسد ضد المعارضة المسلحة، وتعمدت إعطاء الحرب الدائرة فيها طابعاً مذهبياً، خصوصاً من خلال إدخال “حزب الله” في المعارك واعتماده خطاباً مذهبياً صافياً، بأنه يدافع عن نظام ينتمي إلى الأصل المذهبي نفسه، وقام النظام الإيراني باستقطاب أكبر عدد ممكن من أبناء الطائفة الشيعية للقتال في سوريا، عبر ترويجه المكثف لما أسماه “الجماعات السنية الجهادية التكفيرية”، بوصفها تهديداً، ليس للنظام السوري “العلوي” فقط، وإنما للهوية الشيعية في المنطقة ككل، وسعت إيران إلى إحداث تغييرات ديموغرافية داخل سوريا على أساس طائفي، فاقترحت نقل السكان الشيعة من قريتي كفريا والفوعة في محافظة إدلب إلى بلدة الزبداني الحدودية، في حين اقترحت نقل سكان الزبداني السُنة إلى المناطق ذات الغالبية السنية مثل حماة، بما أن معظمها تحت سيطرة الجماعات الإسلامية السنية.
الحشد الشعبي
الأمر نفسه نفذته بالعراق عبر تقوية الأحزاب والميليشيات الشيعية بها، عبر الدعم المالي والديني لقوى الشيعة بالعراق، التي تتعامل مع طهران بصفتها حاضنة قم، ومركز التشيع في العالم ، وسعت كذلك إلى إحداث اختراق ونفوذ في الجانب الديني، من خلال ربط شريحة واسعة من العراقيين تحت مسمى التشيع، واستغلال السياحة الدينية للعبث بالتركيبة الديموغرافية والقومية، مستغلة قوات “الحشد الشعبي” الشيعية، التي تم تشكيلها العام الماضي 2015 في إطار الحرب ضد “داعش”، وهي قوات منبثقة عن فيلق القدس الإيراني لقائده قاسم سليماني.
السفن الإيرانية في اليمن
ميليشيا الحوثي
في اليمن تبرز فكرة البراجماتية الإيرانية عبر دعم ميليشيا الحوثي أو قوات أنصار الله كما تطلق عليها، وسعت إلى توظيفهم في الصراع السياسي في اليمن، حيث تعتبر إيران الورقة الحوثية أداة في يدها، وتعتبرها جزءاً جوهرياً لحركتها وصراعها الإقليمي والدولي، على أساس أن اليمن هي امتداد لمشروع إيران الإقليمي، وتمثل البوابة الجنوبية للوطن العربي عموماً، والجزيرة العربية والخليج بشكل خاص، وتحكمها في أهم ممرات الطاقة والتجارة العالمية مثل مضيق باب المندب، الذي يمر خلاله ما يقارب من 3.2 مليون برميل نفط يومياً، وبالتالي فإن وجود إيران في هذا المكان الاستراتيجي يعزز من حضورها الإقليمي، ويساعدها على السيطرة على المداخل والمخارج الرئيسية لتجارة النفط الدولية.
جبهة البحرين
أما البحرين فساعدت طهران على تكوين ما يسمى بـ “الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين”، والتي أصدرت بياناً إبان تأسيسها تبين فيه أهدافها المتمثلة في “تحرير البحرين”، وإقامة نظام موال للنظام الثوري الخميني في إيران، وتحقيق استقلال البلد عن مجلس التعاون الخليجي، وربطها مباشرة بالجمهورية الإيرانية.
وقامت الجبهة بمحاولة انقلاب فاشلة في ديسمبر 1981، وفي منتصف الثمانينات عقد قادة الجبهة اجتماعاً مع المسؤولين في المخابرات الإيرانية، للاتفاق على إنشاء الجناح العسكري للجبهة، وتم حينها تجنيد 3 آلاف شخص لهذا الحزب، على أن يكون تدريبهم في إيران ولبنان.
لم تقف إيران عند هذه النقطة بالبحرين بل قامت بدعم العديد من الحركات السياسية في البحرين، كجمعية الوفاق ذات الولاء للولي الفقيه الإيراني، إلى جانب ائتلاف 14 فبراير ذي السمة السياسية الإسلامية الشيعية الذي تشكل في أعقاب الأحداث التي شهدتها مملكة البحرين في فبراير 2011.
اضطرابات سيهات
يدعم تصورنا هذا القائم على رغبة إيران في تأليب شيعة الخليج ضد أنظمة الحكم بدول مجلس التعاون ما قامت به طهران في أواخر العام 1979، حينما اندلعت الاضطرابات الواسعة في القطيف وسيهات بالسعودية وجاءت متزامنة مع أيام الحداد الديني لدى الشيعة “عاشوراء” واحتجاز الرهائن الأمريكيين في طهران، وأحداث جهيمان في مكة، والتي جاءت بتحريض من إيران، وحاولت التواصل مع الشيعة الموجودين في الكويت خلال السنوات الماضية، خاصة أن قرب الكويت جغرافياً وديموغرافياً من إيران وجنوب العراق والمنطقة الشرقية في السعودية، حيث توجد الكثافة الشيعية في المنطقة، يجعل الكويت على تماس مباشر مع النفوذ الإيراني والنشاط الشيعي.
حرص إيران على البعد الطائف يرتبط طرديا مع حرصها على براجماتية الأمن القومي وفكرة الهيمنة، وتتخذ الطائفية ركيزة حيوية تتيح لها الضغط على دول الخليج العربية، لفرض مشروعها التوسعي الإيديولوجي الساعي للهيمنة الإقليمية، مستغلة تمويلها السخي لتلك الجماعات حيث مولت حزب الله وحده بمبلغ يتراوح بين 100 و200 مليون ، خلال الفترة من ثمانينيات القرن الماضي، وحتى اندلاع ثورات الربيع العربي، فيما قدمت دعماً مادياً لمجموعة من الميليشيات الشيعية في العراق يتراوح بين 10 و35 مليون دولار سنوياً، منذ الغزو الأمريكي للعراق حتى نهاية فترة رئاسة بوش، وارتفع هذا الدعم المادي بعد عام 2009 ليصل لمبالغ ضخمة تراوحت بين 100 و200 مليون دولار سنوياً، وفي اليمن، تلقى الحوثيون منذ عام 2010 أموالاً تراوحت بين 10 و25 مليون دولار سنوياً، بينما كان لسوريا النصيب الأكبر من ذلك الدعم، حيث تلقت القوات الحكومية التابعة للأسد والميليشيات الأخرى المتحالفة معها أموالاً تراوحت بين 15 و25 مليار دولار على مدار السنوات الخمس الأولى من النزاع بمعدل 3 إلى 5 مليارات دولار سنوياً.