طالت الحرب العظمى، أو العالمية الأولى، معظم المشرق العربي الإسلامي (ما يعرف في الاصطلاح الغربي بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا). كانت السلطنة العثمانية طرفاً أصيلاً في الحرب، وضعت زهاء المليون من أبناء شعوبها المختلفة تحت السلاح خلال سنوات الحرب؛ وبعد هجومين فاشلين على قناة السويس والقوقاز، أصبحت الأرض العثمانية نفسها ساحة قتال. طالت النيران مصر، التي كانت هدفاً عثمانياً مبكراً، وليبيا، التي تنازعتها أطراف الصراع المختلفة؛ وحتى تونس والجزائر، الواقعتين تحت السيطرة الفرنسية، آنذاك، ودعتا الآلاف من أبنائهما إلى ساحة الحرب. وربما يمكن القول أن الحرب العظمى كانت أول حرب عالمية بالمقاييس الحديثة، دارت، بهذه الدرجة أو تلك، في أربع قارات، حتى وإن كانت أوروبا ساحتها الرئيسية. ولم تنقل التقنية الحديثة، تقنية القتل والاتصالات والنقل والتسجيل والتصنيف والبحث والدبلوماسية، مستوى الحرب إلى الدمار الشامل، وحسب، بل ولعبت دوراً رئيسياً في عملية إعادة بناء النظام الدولي، كذلك.
بانسحاب الولايات المتحدة السريع من الساحة الدولية، بعد نهاية الحرب، وانهيار الإمبراطوريات القيصرية ـ الروسية، العثمانية، والنمساوية ـ الهنغارية، وهزيمة ألمانيا، برزت بريطانيا وفرنسا باعتبارها القوتين الرئيسيتين في نظام ما بعد الحرب. ولأن مصير السلطنة العثمانية وضع على طاولة البحث منذ اندلاع نيران المعارك، كان طبيعياً أن تسيطر الإمبرياليتان البريطانية والفرنسية على مقدرات المشرق العثمانية السابقة. تقاسمت بريطانيا وفرنسا الغنيمة العثمانية، ووضعتا أسس نظام إقليمي جديد في المشرق.
خلال المائة عام الماضية، أثار هذا النظام الكثير من الجدل، سواء بين أبناء المشرق أنفسهم، أو بين الدارسين الغربيين للتاريخ الإمبريالي. الذين دافعوا عن نظام ما بعد الحرب المشرقي، يقولون أن ليس ثمة تقسيم وتجزئة تعسفية قد وقع، لأن كيانات سوريا والعراق والسعودية وتركيا، وإلى حد أقل، فلسطين ولبنان والأردن، استندت إلى موروث جغرافي ـ سياسي قديم، وأن تحولها إلى دول أنجز بتعاون حثيث من نخب مدنها وأعيانها. فوق ذلك، يقول هؤلاء، فإن الوجود الأجنبي سرعان ما رحل، وتمتعت هذه البلدان بالاستقلال، وأصبح مصيرها بيد أبنائها وشعوبها.
بيد أن المسألة التي لا يجب أن تغفل أن النظام الإقليمي الجديد صنع بمعزل عن إرادة أبناء المشرق أنفسهم، وأن شعوباً عاشت طوال تاريخها في ظل نظام إمبراطوري وجدت حياتها محصورة، فجأة، في حدود دول قومية ذات سيادة، لم يكن من الواضح تماماً طبيعة الأسس التي استندت إليها. لماذا، مثلاً، كان على قبائل وعشائر وأسر أن تنقسم بين العراق وسوريا، أو بين سوريا والأردن، أو بين جنوب فلسطين وسيناء، وشمالها ولبنان؟ ولماذا أعطي العرب أكثر من دولة، وأعطي الأتراك دولتهم، ولم يسمح للأكراد بإقامة دولة كردية قومية؟ وفي أغلب الدول الجديدة، وفي تركيا والعراق وسوريا، على وجه الخصوص، كانت التعددية الإثنية والدينية ـ الطائفية بمكان بحيث لم تدرك النخب التي سلمت مقاليد الحكم كيف يمكنها التعامل مع هذه التعددية، بخلاف اللجوء إلى القوة المسلحة.
وإلى جانب ذلك كله، زرع في قلب النظام الإقليمي الجديد، ومنذ لحظة ولادته، مشروعاً صهيونياً توسعياً، جعل البحث عن السلم والاستقرار في المشرق، حتى وإن استطاعت دوله التعامل مع القضايا الشائكة الأخرى، نوعاً من العبث.
اليوم، يشهد المشرق انفجاراً متعدد المستويات والأبعاد، انفجارا يعكس عجز نظام ما بعد الحرب الأولى الإقليمي عن البقاء والاستمرار. ويكفي النظر إلى البقعة المثلثة الصغيرة المحصورة بين جنوب تركيا وشمالي العراق وسوريا لاكتشاف التداخل الدموي وبالغ التعقيد للنزاعات الإقليمية وتحت الإقليمية، ليس فقط بين دول المشرق، ولكن أيضاً بين الكيانات دون مستوى الدولة، والقوى الدولية التي لم تزل تسعى للحفاظ على نفوذها في المنطقة.
لم تعد الدولة السورية، منذ ما بعد اندلاع الثورات العربية، قادرة على التصرف كدولة كاملة السيادة، أو بسط سيطرتها الكاملة على شعبها وحدودها. وكانت الدولة العراقية المركزية فقدت سمات الدولة ذات السيادة منذ حرب الخليج في 1991؛ ولم يؤد الغزو والاحتلال الأمريكي بعد 2003 إلا إلى تفاقم أزمة الدولة في العراق. وبالرغم من أن الدولة اللبنانية خرجت من سلسلة حروبها الاهلية محتفظة بصورة الدولة، إلا أنها تقطن منذ زمن غرفة عناية مركزة، تتنازعها تنظيمات مسلحة وانقسامات طائفية وسياسية عميقة.
في تركيا، عادت المسألة الكردية إلى الانفجار منذ صيف 2015، بعد سنوات من مساعي السلم المتعثرة. وقد دفعت طموحات أيديولوجية وطائفية، ومخاوف جيوستراتيجية، إيران إلى تبني سياسات توسعية في جوارها العربي الهش، لم تتجل في العراق ولبنان وسوريا، وحسب، ولكنها عملت، إضافة إلى ذلك، على تشظي الدولة اليمنية. وتجد دول الخليج، سيما السعودية، أن انهيار دول مثل العراق وسوريا ولبنان، من جهة، واندفاعة إيران التوسعية، من جهة أخرى، تشكل خطراً داهماً على وجودها واستقرارها.
لا ينعكس هذا المناخ من تراجع سيطرة الدولة وتشظيها، وتفاقم قضايا المشرق المزمنة، على أزمة كما ينعكس على أزمتي العراق وسوريا، اللتين شكلتا، طوال قرن، قاعدتي نظام ما بعد الحرب الأولى الأساسيتين. وهذا ما يجعل مثلث الحدود السورية ـ العراقية ـ التركية واحداً من أكثر بقاع الأرض تعقيداً وعرضة للانفجار.
تدخلت تركيا في شمال سوريا، بعد طول تردد، ليس فقط لمواجهة الخطر الذي باتت تمثله داعش. ولكن هذا التدخل يستبطن في داخله، أيضاً، مخاوف أنقرة الهائلة من أن يستطيع الحزب الديمقراطي الكردستاني، السوري، وثيق الصلة بحزب العمال الكردستاني، التركي، كياناً في الشمال السوري، يفصل بين تركيا وجوارها العربي ـ السوري. كما تعمل تركيا من خلال تدخلها العسكري على الحفاظ على دورها في تقرير مستقبل سوريا، عقدة عقد الجغرافية ـ السياسية المشرقية. إلى الشرق قليلاً، تبدي أنقرة استعدادها للمشاركة في معركة تحرير الرقة، قلعة داعش الحصينة، للأسباب ذاتها التي دفعت بالقوات التركية الخاصة نحو جرابلس والباب ومنبج. في شمال العراق، تصطف قوات عراقية وكردية وإيرانية وأورو ـ أمريكية استعداداً لمعركة الموصل، مستبعدة المطالب التركية بالمشاركة. للأمريكيين، وحلفائهم الأوروبيين، فقط، تمثل الموصل معركة ضد داعش. أما للقوى الأخرى المختلفة، فتمثل الموصل حلقة أخرى من سلسلة معارك الصراع على المشرق ومصيره.
يرى الأكراد أن مشاركتهم في معركة الموصل ستفتح ملف إعادة النظر في حدود الإقليم على مصراعيه، وتعيد بناء العلاقة بين إربيل وبغداد على أسس جديدة. وتعمل إيران، وحلفاؤها في العراق، على أن توفر الموصل فرصة لرسم خارطة ديمغرافية وجيوسياسية جديدة في شمال العراق، تعزز من الكتلة الشيعية البشرية في شمال العراق السني، وتفتح ممراً دائماً وآمناً، يصل من الحدود الإيرانية إلى ساحل المتوسط السوري.
وبالرغم من أن من التبسيط القول بأن تركيا تريد في الموصل استعادة ما سلبتها معاهدة لوزان، فالواضح أن أنقرة تنظر بقلق شديد إلى الخطر الذي يتهدد سنة العراق، وإلى المطامح التي تحاول طهران تحقيقها في الشمال العراقي. بغداد، من جهة أخرى، التي مثلت من البداية طرفاً ثانوياً في الحرب مع داعش، لم تزل طرفاً ثانوياً في التدافع المستعر حول شمال العراق.
لم تستمر الحرب الأولى أكثر من أربع سنوات، وتطلب الأمر سنوات أربع أخرى لاتفاق الإمبرياليات الغربية على النظام الإقليمي المشرقي الجديد. دور القوى الغربية هذه المرة أقل بكثير من الدور الذي لعبته في القرن الماضي. ولأن القوى الإقليمية الرئيسية تعيش لحظة توازن، ولأنها لم تزل بعيدة عن التوصل إلى توافق حول حدود مصالح كل منها، لم يزل أمام المشرق وشعوبه طريق طويل قبل أن يصل إلى بر الآمن والاستقرار. ولكن أحداً لا يجب أن يكون لديه أية أوهام حول إمكانية إعادة توليد النظام الإقليمي القديم، أو قابليته للبقاء.