على مر العصور، لم تكن الشعوب في حاجة إلى قائد أو زعيم يلهمها ويحركها، فهو موجود دائمًا، وذلك لأن الشعوب تصنع هذا الزعيم أو الديكتاتور بسرعة تتناسب مع شدة الحاجة إليه، ولا تستطيع أن تحيا بدونه كالماء والهواء، وتتسم الفترات ما بين سقوط زعيم وظهور غيره بالفوضى والاضطراب الشديدين، مما يجعل مساحة الاختيارات ضيقة للغاية.
فلا تجد زعيمًا أو قائدًا من رجالات الفكر أو أصحاب الرؤى بعيدة المدى المترددين والمتشككين دائمًا، ولكنك تجدهم دائمًا من أصحاب الحناجر القوية، المتهورين والسطحيين، الذين تلين آذان الناس عند انطلاق كلماتهم البسيطة السهلة غير المترابطة وغير المنطقية والغبية والمتطرفة في أحيان كثيرة، وكلما زادت الخطابات حدة، وكلما زادت المواقف دقة، كلما كانت الجموع المحتشدة على أتم الاستعداد للانسياق خلف الزعيم الملهم الذي يفرض سطوته وإرادته على هذه الجماهير التي صارت فاقدة لكل إرادة أو ذرة شك في أي مما سوف يملى عليها أو أي مما قد يعيق الطاعة المطلقة، فكيف سيطر عبد الفتاح السيسي على الجماهير من بعد الثالث من يوليو؟
النسق الوهمي
الشعوب ليست نفعية، وعلى الرغم من ذلك فهي لا تكف عن التطلع إلى الجنة الأرضية والحياة الرغدة السهلة، ولكن ليس على حساب القيمة الإنسانية، ولذلك فإن أي من الفلسفات المادية التي تحط من قدر الإنسان وتعامله معاملة الأشياء لا تلقى قبولاً واسعًا لدى الأمم، إلا أن تغلف هذه الأفكار بغلاف قيمي يدعو إلى الفضيلة والمثل، أما الأديان، والعصبيات العرقية، والقوميات المتنوعة، فحدث ولا حرج، هذان العنصران ليسا متناقضين، ولكنهما يشكلان معًا نسقًا وهميًا، ولا شك أن تمام الفضيلة على الأرض سوف يتبعه مباشرة تحقيق الرفاهية الفردوسية كمكافأة بسيطة من السماء على صلاح هذه الأمة، هذا النسق لم يكن على السيسي تشكيله أو طرحه على المصريين كما حاول سالفه بشكل أو بآخر، بل كان عليه مجاراته وتحسينه وتعزيزه في نفوس الأمة وقطع الوعود بتحقيقه.
كما ترى أن نواة هذا النسق، والذي تتبلور حوله مجموعة الأفكار والتصرفات المصاحبة له، هي الإيمان الغيبي، والإيمان لا يجب أن يتمركز على براهين عقلية أو منطقية، بل إنه يفقد هيبته بالكامل عند أي مناقشة أو تشكيك، ومهما كانت هذه العقيدة المتبعة سافلة ومنحطة، إلا أنها لا تخاطب إلا النفوس الخيرة، وتقنعها بأنها هي الفضيلة المطلقة، وأنه ما اجتمع الأعداء والحاقدون إلا لأنهم باعوا أرواحهم إلى الشيطان وسقطوا في هوة الخطيئة وعجزوا عن الخروج منها ويريدون أن يلقوا بكم إلى الجحيم، هكذا تحافظ على أتباعك من التفرق، وأي محاولة منك لمسح الغبار أو تحكيم العقل ستكون نتيجته وخيمة عليك بكل تأكيد.
وذلك يفسر كيف عاش المصريون الأعوام الخمس الماضية في ترديد الشعارات الواهية وإلقاء الاتهامات جزافًا بشكل يناقض العقل والمنطق أساسًا، إن البذرة القومية التي طرحت شجرة الكراهية تلك قد أحسن السيسي بذرها في نفوس المصريين، وقد قامت مشاعر الحقد والكراهية والتعصب القومي واستعداء فئة من الناس بدور الوقود الذي يغذي الآلة العسكرية الغاشمة التي فرضت رؤاها السلطوية على الشعب، فلا يشعر الصحفي وهو يكتب خبرًا، أو المذيع وهو يكذب على الناس، بالحرج عندما يقول بأن الإخوان يعقدون تحالفات سرية أو علنية مع إيران وتركيا وأمريكا وحزب الله وحماس وقطر وكل الفرقاء الذين لم يتفقوا إلا على تخريب مصر الآمنة المطمئنة، لا بأس إذن في القول أن الإخوان لهم كرة أرضية تحت الأرض، فإذا كان ذلك من الصعب تحقيقه، فمن السهل تخيله، فهذه الجماهير متحفزة ضد أي ممن قد يخرب عليهم أحلامهم وتطلعاتهم إلى المستقبل المشرق ولا يستبعدون شيئًا على الإطلاق.
الهيبة الشخصية
كما أن الفكرة يجب ألا تقبل الشك لدى معتقدها، فإن كذلك يجب أن يكون الزعيم والقائد، إن القائد الذي لا يقنع الجماهير بطلعته وهيبته ليس جديرًا بنشر هذا النسق الوهمي، أو مجموعة الأفكار هذه بين الناس، أو بمعنى الآخر ليس جديرًا بالحفاظ على أمن هذه الأمة وتقاليدها وهويتها، فالجماهير ليست متدينة، ولكنها محافظة، أيًا ما كانت تحافظ عليه سواء من تعاليم دينية سمحة أو عبادة الأصنام، ولذلك فإن الجماهير تحبذ كل ما هو بعيد عن العقل، وتفضل الإيمان على الشك، فيجب أن تشعر بالطمأنينة تجاه هذا الرجل الذي سيؤتمن على حاضرها وماضيها ومستقبلها.
البذلة العسكرية والنظارات الشمسية والبيان الحاسم الذي أطل السيسي بهم جميعًا في الثالث من يوليو أعطوا انطباعًا أوليًا لدى الجماهير عن السيسي بأنه رجل الدولة القوي المنشود، الوحيد القادر على انتشال مصر من غيابات الجب وحسم كل المسائل التي عجز الإخوان فعلاً عن حسمها، ثم تحول إلى كلماته البسيطة السهلة وخطابه المعسول التافه في أحيان كثيرة، ففهمته الجماهير واندمجت به فصار جزءًا منها وصارت جزءًا منه، ولا يمكن التعبير عن روح الجماهير أو الأفكار التي تتبناها إلا من خلال كاريزما مميزة وشخصية ذات هيبة وهما ما امتلكهما السيسي في بادئ أمره، وأسر بهما نفوس الجماهير وارتكب باسمها أبشع الجرائم الإنسانية، ولطالما كانت الجرائم البشعة مرتكبة باسم الجماهير ومرتكبوها آمنون من العقاب.
لحظة التنوير
تلك الهيبة التي تحلى بها السيسي هيبة مصطنعة، أي أنها انخلعت عليه من خلال منصبه العسكري الرفيع وبذلته العسكرية، وكذلك انتمائه للجيش الذي ظل المصريون يعتزون به وبانتصاراته – ولا أعرف ما هي – دهورًا مديدة، وقبل المصريون أن ينحنوا أمام هذه البذلة وأمام هذه الفكرة، وراقتهم الوعود وقبلوا بالتضحية وارتضوا الخسارات المتتابعة في سبيل تحقيق الحلم الطوبوي المصري القومي المنتعش اقتصاديًا والمتقدم سياسيًا، وهذا كله.
ولكن كان عليه أن يدرك بأن الغضب الجماهيري لا يتوقف، فإنه وإن كان يومًا موجهًا إلى الإخوان أو بعض الناشطين السياسيين الذين ألقى عليهم أسباب الاضطراب والفوضى الحاصلة في البلاد، فـإنه سوف يرتد إليه، خاصة وأن هذا النوع من الهيبة تكون مؤقته، تكفي لتهييج الجماهير تجاه نظام معين أو جرهم إلى حرب مع أو ما شابه ذلك مما يتطلب موقفًا آنيًا وحاسمًا، وذلك لأنه خاض معهم هذا التحدي على أمل أن يخلصهم من هؤلاء المخربين ويحقق لهم السعادة المنشودة.
وإن كان اقتناع الجماهير بأن الإخوان أو من شابههم هم من جلبوا الخراب لمصر أولاً ما زال قائمًا وليس لديهم ما يدعوهم لتغيير هذه القناعات، كما قلنا فإن الجماهير لا تقبل أبدًا كل ما هو عقلي أو منطقي، إلا أنها سوف تعود للترحم على أيام ما قبل السيسي، أما الغضب تجاه السيسي فسيكون أضعاف الغضب الذي كان تجاه الإخوان ومرسي، وذلك لأن هذه الجماهير قبلت يومًا الانحناء أمامه والقبول بطاعته طاعة مطلقة، ومهما كان الإرهاب الذي تمارسه السلطات، أو القبضة الأمنية التي يحكم بها البلاد، فإنها لن تفوق قوة وسطوة روبيسبيير الذي تم إعدامه أمام الجماهير وهو في قمة سلطته وقوته المتنامية يومًا بعد يوم، ولن يفوق إرهاب السيسي الإرهاب الذي مارسه روبيسبيير على زملائه أو حتى على الجماهير، ولا موسوليني ولا سافونا رولا ولا أي من الطغاة الذي لم يستطيعوا مقاومة الغضب الشعبي لا بالمواءمات السياسية ولا بالقبضة الأمنية.