في عصرٍ تعيش فيه لعبة التنس أبهى أوقاتها، مع تواجد أساطير سطّروا أسماءهم في تاريخ اللعبة بماء الذهب، ونتحدّث هنا عن الثلاثيّ الرهيب المكوّن من: المايسترو السويسري روجر فيدرير، والماتادور الإسباني رافائيل نادال، والإعصار الصربي نوفاك دجوكوفيتش، والذين فرضوا سطوتهم على جلّ منافسات الكرة الصفراء في السنوات ال10 الأخيرة، وسحقوا أغلب منافسيهم وأبناء جيلهم من لاعبين موهوبين، فشلوا في تحقيق أيّة ألقاب، فقط لأنهم جاؤوا في زمنٍ ساد فيه أساطير اللعبة!
في هذا الزّمن الصعب على أبناء الساحرة الصفراء، ظهر نجمٌ رفض أن يرضخ لسطوة الثلاثيّ الأسطوري، فقاومهم بما أوتي من صبرٍ وجلدٍ واجتهاد، مستغلًّا فترات اهتزازهم وتراخيهم وابتعادهم عن مستوياتهم الخياليّة، لينحت اسمه في سجّل عظماء اللعبة كمن ينحت في الصخر، من خلال إحرازه 41 لقبًا مختلفًا منذ احترافه، منها ألقاب 3 بطولاتٍ كبرى (غراند سلام)، و13 بطولة أساتذة (ماسترز)، إضافةً إلى ذهبيّتين أولمبيّتين غاليتين أحرزهما خلال دورتي لندن وريو دي جانيرو الماضيتين.
إنّه بطل التنس البريطاني الرائع أندي موراي، الذي استطاع إعادة بلاده إلى خارطة التنس العالمي، من خلال قصّة نجاحٍ تُروى، نجا خلالها من الموت بأعجوبةٍ، ورفض مزاولة لعبة كرة القدم، مفضّلًا إكمال مشواره الصعب في ملاعب الكرة الصفراء، ذلك المشوار الذي ما كان ليصل إلى برّ الأمان لولا مساندة والدته وملهمته، التي أثبتت أنّ وراء كلّ رجلٍ ناجحٍ أمًّا أحسنت توجيهه وتربيته.
الطفلان أندي وجيمي موراي
في إحدى أحياء مدينة غلاسكو الاسكتلنديّة، ولد أندرو بارون موراي، يوم 15 مايو 1987، وهو الابن الثاني لأسرةٍ قوامها الأب ويليام والأمّ جودي، اللذان انتقلا بعد فترةٍ وجيزةٍ من ولادة ابنهما إلى مدينة دانبلين الصغيرة، حيث نشأ أندي إلى جانب شقيقه جيمي الذي يكبره بعامين، تحت رعاية أمّهما لاعبة التنس السابقة جودي إرسكاين، والتي دأبت على تدريبهما على حمل مضرب التنس منذ نعومة أظفارهما، فكان أندي يضرب الكرة الصفراء وهو ابن 3 سنوات!
وشبّ الطفل على عشق اللعبة، فكان يمارسها داخل مدرسة دانبلين الابتدائيّة التي قضى فيها سنوات طفولته، والتي كانت شاهدةً على حدثٍ جللٍ ومأساةٍ مريعةٍ جرت صبيحة يوم ال13 من مارس عام 1996، عندما اقتحم أحد المهووسين المسلّحين ردهات المدرسة الآمنة، وفتح النّار على صفوفها وقاعاتها كيفما اتّفق، ليهرع أندي وأخوه نحو غرفة الإدارة، ويختبآن تحت إحدى مقاعدها وهما يرتعدان رعبًا وهلعًا، قبل أن تنتهي المذبحة التي اعتبرت الأسوأ من نوعها في تاريخ المملكة المتّحدة، بانتحار القاتل الذي يُدعى توماس هاملتون، مخلّفًا وراءه 17 ضحيّةً منهم 16 تلميذًا ومعلّمة.
أندي موراي مع والدته جودي وأخيه جيمي
تلك الحادثة حفرت عميقًا في نفس الطفل أندي، الذي عاش تجربةً مريرةً أخرى، تمثّلت بانفصال والديه قبل أن يكمل العاشرة من عمره، ليجد في الانغماس في أجواء لعبة التنس ملاذًا له وملتَحدًا، وسط تشجيعٍ ودعمٍ منقطع النظير من والدته، التي عنيت بموهبته ورعتها، ولم توفّر سنتًا واحدًا في سبيل صقلها وتنميتها، فانتقلت بولديها إلى العاصمة الاسكتلنديّة أدنبرة عام 1998، ليتدرّب أندي في أكاديميّة صغار التنس بالمدينة على يدّ المدرّب ليون سميث، والذي لاحظ موهبته وتوقّع له مستقبلًا باهرًا، وخاصّةً بعد مشاركته في إحدى بطولات الصغار بمدينة فلوريدا الأمريكيّة عام 1999، وإحرازه لقب فئته السنيّة.
وخلال إحدى حصصه التدريبيّة عام 2002، زاره أحد كشّافي نادي غلاسكو رينجرز الشهير، ودعاه للانضمام إلى فريق كرة القدم الخاصّ بالنّادي، مبديًا إعجابه بلياقته العالية واجتهاده الواضح، ولكنّ أندي رفض العرض الثمين، مفضّلًا التركيز على معشوقته التنس، والتي ازداد تطوّره وارتقاءه فيها، عندما أرسلته والدته إلى أكاديميّة التنس الشهيرة بمدينة برشلونة الإسبانيّة عام 2003، ليتتلمذ على يد كبار المدرّبين، كإيميليو سانشيز وباتو ألفايز، الذين طورا من مهاراته على مدى 18 شهرًا، أثبت خلالها أنّه أحد أهمّ المواهب القادمة في عالم الكرة الصفراء، بإحرازه لقب بطولة أمريكا المفتوحة على مستوى الناشئين لعام 2004.
موراي إلى جانب الأسطورة فيدرير خلال نهائي أمريكا المفتوحة عام 2008
وفي شهر أبريل من عام 2005، استهلّ موراي مشواره الاحترافيّ بمشاركته في بطولة بارليتا الإيطاليّة للكبار، ثمّ سجّل أولى مشاركاته في البطولات الكبرى، من خلال ظهوره في بطولة ويمبلدون وبلوغه دور ال32 منها، كما بلغ في العام ذاته نهائي بطولة بانكوك، قبل أن يحرز أولى ألقابه الاحترافيّة مطلع عام 2006، بفوزه بلقب بطولة سان خوسيه الأمريكيّة، ليصبح اللاعب البريطاني صاحب التصنيف الأعلى على سلّم محترفي التنس، متخطّيًا المخضرمين تيم هنمان وغريغ روزيدسكي.
ولم يستغرق الأمر أكثر من عامٍ آخر، حتّى استطاع موراي دخول قائمة المصنّفين ال10 الأوائل للمرّة الأولى، وذلك في 16 إبريل 2007، إثر فوزه بلقبٍ آخر في سان خوسيه وبلوغه نهائيّ بطولة الدّوحة، التي عاد إليها في العام التالي ليحرز لقبها، قبل أن يحقّق لقب بطولة مدريد للأساتذة، وهو أوّل ألقابه في سلسلة بطولات الماسترز ذات ال1000 نقطة، والتي أضاف موراي إلى رصيده فيها لقبًا ثانيًا في سينسيناتي الأمريكيّة، في ذات العام الذي شهد ملامسته قمّة المجد، ببلوغه نهائيّ بطولة أمريكا المفتوحة، حيث خسر أمام أسطورة التنس عبر العصور روجر فيدرير.
موراي حاملًا كأس بطولة ويمبلدون عام 2013
وشهد العام التالي صعود موراي إلى المركز الثاني في جدول تصنيف محترفي التنس العالمي، وذلك في 17 أغسطس 2009، إثر فوزه بلقبي بطولتي مونتريال وميامي للأساتذة، قبل أن يبلغ نهائيّ بطولة أستراليا الكبرى مطلع عام 2010، حيث خسر مجدّدًا أمام فيدرير، وأعاد المحاولة في العام التالي ونجح في بلوغ نهائيّ البطولة ذاتها، دون أن يُكتب له تحقيق اللقب، بسبب خسارته أمام عملاقٍ آخر هو الصربي نوفاك دجوكوفيتش.
ولم تفتر همّة موراي إثر هزائمه المتلاحقة في نهائيّات البطولات الكبرى، بل زاده ذلك تصميمًا على كسر حاجز النحس الذي يلازمه، والذي تأصّل مع خسارته نهائيًا رابعًا في البطولات الكبرى، وكان على يدّ فيدرير في نهائي الويمبلدون عام 2012، لتشرع بعدها أبواب التاريخ والألقاب الكبرى للنجم المجتهد، بدايةً بفوزه بذهبيّة أولمبياد لندن عام 2012، ومرورًا بأوّل ألقابه الكبرى، الذي جاء في أمريكا المفتوحة عام 2012، ووصولًا إلى نصره المبين في بطولة ويمبلدون عام 2013، والذي أدخله تاريخ بلاده من الباب الواسع، كونه أوّل بريطانيٍّ يفوز بالبطولة المرموقة منذ 77 عامًا!
موراي متوّجًا بذهبيّة أولمبياد ريو 2016
ومنذ ذلك الحين، والبطل البريطانيّ ثابتٌ في مراكز التصنيف ال4 الأولى، إلى جانب الأساطير ال3: فيدرير ونادال ودجوكوفيتش، حيث استطاع رفع عدد مرّات بلوغه نهائيّ بطولات الغراند سلام إلى 10، قبل أن ينجح بإحراز لقبه الكبير الثالث، بفوزه ببطولة ويمبلدون هذا العام، والذي أضاف إليه ذهبيّةً غاليّةً في أولمبياد ريو الماضي، كما رفع عدد ألقابه في بطولات الماسترز إلى 13، مع فوزه بلقب بطولة شنغهاي للأساتذة قبل أيّام، وهو اللقب السادس له هذا العام، والذي قرّبه كثيرًا من إزاحة الصربي نوفاك دجوكوفيتش عن صدارة تصنيف لاعبي التنس المحترفين، والذي يعتليه منذ أكثر من عامين!
موراي مع أعضاء منتخب بريطانيا الفائز بكأس ديفيز عام 2015
وإضافةً إلى ألقابه الفرديّة، يمتلك موراي لقبًا جماعيًّا غاليًا على قلبه، هو لقب كأس ديفيز للمنتخبات، والذي أحرزه رفقة المنتخب البريطاني عام 2015، وذلك للمرّة الأولى في التاريخ الحديث لبلاده، كما تعجّ خزائن النجم البريطانيّ بالعديد من الجوائز الخاصّة، أبرزها جائزة شخصيّة العام الرياضيّة من قناة BBC، والتي تحصّل عليها عاميّ 2013 و2015، إضافةً لجائزة لوريوس الرياضيّة العالمية عام 2013، وجائزة الدكتوراه الفخريّة التي تحصّل عليها من جامعة (ستيرلينغ) الاسكتلنديّة عام 2014.
موراي يوم زفافه
وفي ختام حديثنا عن نجم التنس البريطانيّ أندي موراي، لابدّ أنّ نذكر سببًا آخر من أسباب نجاحه، والذي يُضاف إلى اجتهاده ودعم والدته، ألا وهو استقراره العاطفي، حيث يرتبط أندي بقصّة حبٍّ طويلة الأمد مع فتاةٍ تُدعى (كيم سيرز)، التقى بها في بداية مشواره الرياضي، وتحديدًا عام 2005 حيث كانت متواجدةً لحضور بطولة أمريكا المفتوحة إلى جانب والدها (نايجل) مدرّب التنس، ومنذ ذلك الحين وهي لا تكاد تفوّت مباراةً لنجمها وحبيبها أندي، لتتوَّج قصّة حبّهما بالزّواج في أبريل 2015، ويرزقا بطفلةٍ مطلع العام الحالي سمّياها (صوفيا).