ترجمة وتحرير نون بوست
ولد عصر البيانات الضخمة أدوات وأفكار جديدة في نطاق كبير جدا، مع انتشار لتطبيقات تسويق وتطبيقات خاصة بوول ستريت والموارد البشرية والقبول في الجامعات والتأمين إلخ… وفي الوقت نفسه، فتحت البيانات الضخمة عديد الأبواب أمام فئة جديدة من اللاعبين والمتلاعبين المحترفين الذين يستغلون الناس من خلال استخدامهم لقوة الإحصائيات.
علي أن أدرك أنني كنت واحدًا منهم.
في سنة 2007، كنت أعمل في شركة “دي إي شو”. وقد تم تدريبي على توقع ما يفعله الآخرين لكي أتمكن من فعل العكس. فقد كانت مهمتي أن أتلاعب بالنظام. هل تم للتو التحدث عن هذه الأسهم؟ يجب إذا طرح الرهان. هل يجب على صناديق الاستثمار المشتركة أن تسوي وضعية حساباتها قبل نهاية هذا الربع من السنة؟ يجب وضع الرهان على التأثير على تجارتهم التي يمكن التنبؤ بها في السوق. هل يقوم الكل باستخدام نفس نموذج المخاطر؟ يجب توقع النتائج. كان هناك مال يجب ربحه من خلال إيجاد أنماط واستغلالها. وقد يكون مصدر هذا المال إما صناديق التقاعد أو ال”410كاي” ويمكن أن يكون مصدره أكوام الثروة العالمية المجهولة الهوية.
كنا نظن أننا نستحق ذلك لأننا كنا نملك التكنولوجيا ولأننا كنا أسرع وأكثر براعة عند التعامل مع الأرقام. ولم يكن الأمر متعلقا بكفاءة السوق، بل كانت مواجهة بين الأموال “الذكية” والأموال “الغبية”، ونحن عادة ما نستغل ذلك كلما سنحت لنا الفرصة. وهذا السلوك ليس مرتبطا بالتمويل.
من بين أوائل الخوارزميات وأكثرها تأثيرا هو نموذج ترتيب الكليات الأمريكية في “يو آس نيوز إند وورد ريبورت”. وفي الحقيقة، كان لذلك تأثير كبير. فقد تغير دور العديد من مسؤولي الكليات من مجرد محاولاتهم لتحسين ظروف الدراسة إلى محاولاتهم لتحسين ترتيب الكلية مهما كان الثمن. وبما أن نموذج “يو آس نيوز” لا يهتم بالكلفة، فإنه كلما تم استعمال النموذج أكثر، كلما أصبحت الكليات أكثر كلفة. ومع مرور الوقت، أدى هذا الوضع لارتفاع كلفة الرسوم الدراسية ولتضخم الإرادات. كما لم يعد بإمكان الطلاب اختيار كلية ثانوية يلجئون لها في حال لم يتم قبولهم في الكلية التي يريدونها وذلك لأن ارتفاع معدلات الرفض قد يؤدي إلى تراجع في الترتيب العالمي.
تعمل آخر مجموعة من البنايات الضخمة المتعلقة بالكليات بإتباع أساس “كل طالب على حدة”. وداخل الكلية، تستعمل مكاتب القبول الخوارزميات لتقييم كل طالب وتقييم احتمال قبوله ومتطلبات المساعدة المالية. أما خارج الكليات، فإن الاستشاريين يطلبون من الآباء مبالغ قد تصل إلى أكثر من 25 ألف دولار لمساعدة أبنائهم على الحصول على عرض من جامعة نيويورك مثلا، وذلك بالاستناد على الخوارزميات. لذلك، فإن المنافسة شديدة ولها ضحايا. وهؤلاء الضحايا هم الطلاب الذين ينتمون للطبقة المتوسطة الذي لا يستطيعون توفير نفقات الكلية ومتطلبات عملية القبول.
المعلومات هي القوة، وفي عصر مراقبة الشركات، فإن لمحات عن المستهلك الأمريكي النشط تعني أن النظام يميل لصالح أولئك الذين يملكون البيانات. تساعد هذه البيانات على بناء ملفات شخصية يمكن أن تستخدم لصالح أو ضد شخص ما في حالات معينة. فشركات التأمين مثلا، والتي لطالما كانت تبيع بطاقات التأمين بناء على سجلات القيادة، بدأت في الآونة الأخيرة في استخدام أساليب التنميط التي تعتمد على البيانات. فعلى سبيل المثال، تبين أن شركة تأمين في ولاية فلوريدا تجعل أولئك الذين لهم سجلات قيادة جيدة يدفعون أموالا أكثر من أولئك الذين سجلت ضدهم مخالفات بسبب القيادة في حالة سكر. وقد أصبحت ممارسة عادية لشركات التأمين أن يدفع أولئك الذين لا يمثلون خطرا مبالغ أكبر من التي يدفعها أولئك الذين بإمكانهم الإفلات من العقاب. وبالتالي، فإن الضحايا في هذه الحالة هم الذي ليسوا قادرين على تحمل التكاليف الإضافية لكنهم يحتاجون لسيارة للذهاب إلى العمل.
ليست كل الألاعيب التي تحتوي على بيانات ضخمة واضحة للجميع، ففي بعض الأحيان، ما يبدو لنا معقولا من الخارج، قد يكون له جزءا مخفيا. وفي بعض الأحيان، قد لا يدرك المتلاعبون حقيقة تلاعبهم.
فلنتحدث عن اختبارات الشخصية على الانترنت، والتي يطالب بها أكثر من 60 في المائة من العمال الأمريكيين المحتملين. قد يصعب التلاعب بهذه الاختبارات: فهم يسألون أسئلة ليست لها أجوبة واضحة ولا يمكن للموظف الإطلاع على النتائج. وإن فشل الموظف في الإجابة على أسئلة الاختبار، فإنه لا يتم استدعائه لإجراء مقابلة عمل. الآن فلنعتبر وجهة نظر المشغلين الذين يستعملون مثل هذه الاختبارات لاختيار الموظفين. فهذه الاختبارات رخيصة الثمن، لكنها توفر أموالا طائلة بالنسبة لتعيينات الموارد البشرية، لكن ذلك لا يمنع حقيقة أن هذه الاختبارات تعد مبهمة بصفة كلية تقريبا. بعبارة أخرى، يتم التعامل مع اختبار الشخصية على أساس أنه صندوق أسود لتوفير المال، لكن وظيفة ذلك الصندوق الأسود ليست واضحة، ومن غير الواضح أيضا ما إذا كان استخدامه يمثل ممارسات تمييزية خلال عملية اختيار الموظفين. وتجدر الإشارة إلى أنه يتم الآن مقاضاة سبعة شركات من تلك التي استعملت اختبار الشخصية التي تقدمها شركة البيانات الضخمة “كرونوس” وذلك لأن الاختبار يحتوي على اختبار للصحة النفسية، وهو أمر يعتبر غير قانوني بموجب قانون “الأمريكيين ذوي الاحتياجات الخاصة“.
كما تستعمل تقنيات التنميط في عالم السياسة أيضا. وتشير التقديرات إلى أن أكثر من مليار دولار ستنفق على الإعلانات السياسية الرقمية في هذه الانتخابات، أي ما يقارب 50 ضعف ما تم إنفاقه سنة 2008. ويعتبر هذا المجال جزءا من ميزانية الحملات الانتخابية. وتقوم هذه الحملات ببناء نظام تقييم خاص بالناخبين المحتملين، ومدى إمكانية تصويتك لحزب معين، وموقفك من قضية معينة ودرجة تأثرك بتلك القضية، ويمكن للسياسيين استعمال ما يعرفونه لكي يتلاعبوا بصوتك أو بتبرعك.
بعد إصدار فيلم “وول ستريت” في سنة 1987، اعتقد بعض الناس أن “جودرون غيكو” كان شريرا بينما اعتبره آخرون نموذجا يحتذى به. تلك هي نفس الأفكار الموجودة في عالم البيانات الضخمة التي تجمع الأموال الذكية مسلحة بالبيانات الضخمة في رحلة بحث مستمرة عن فرص لاستغلال المال الغبي. وتتواصل إمكانية التلاعب بالناخبين وبالديمقراطية نفسها، طالما أن الناس يثقون في موضوعية النماذج الإحصائية وطالما أن هذه النماذج تستعمل كأداة تخويف.
في سنة 1945، كتب داريل هوف كتابا بعنوان “كيف تكذب من خلال استعمال الإحصائيات؟”، وهو كتاب توجيهي موجه للمسوقين حول كيفية تضليل الناس والتلاعب بهم لجعلهم يصدقون أي شيء من خلال استعمال الرسوم البيانية المناسبة. وقد تقدمنا شوطا طويلا في ميدان الحوسبة منذ 1945، لكن هناك شيء واحد لم يتغير: هناك فرصة هائلة للتلاعب بالبيانات الضخمة، لذلك علينا أن نواصل التشكيك وأن نتوخى الحذر.
المصدر: وايدر