قبل أكثر من مئة عام ذهب الكواكبي في جوابه على سؤال عصره الذي ما زلنا عالقين أمامه إلى أن سبب تأخر أمتنا العربية أو الإسلامية هو ما أصابها من استبداد سياسي وراح يعدد تأثيرات الاستبداد على المجتمع والتربية والدين والمجد وغيرها من مظاهر الحضارة في كتابه الشهير طبائع الاستبداد.
بعدما لاحت بشائر تحول ديموقراطي بعد ثورات الربيع العربي ينهي عصور الاستبداد المتعاقبة، ما لبثت تلك الثورات أن تقهقرت، فبين دول دخلت في حروب أهلية وصراعات مسلحة يحتل فيها التحول الديموقراطي أولوية متأخرة كاليمن وليبيا، وبين دول أصيبت بأنظمة حكم ترى في الديموقراطية مؤامرة غربية أو أنها إصدار لا يناسب شعوبنا التي ينهشها الفقر والجهل كسوريا ومصر، وبين دول تتقدم ببطء في مسار الديموقراطية كتونس، أصبح الحال.
في مصر أدى تآمر العسكر على التجربة الديموقراطية الوليدة والذي ما كان لينجح لولا أخطاء وخطايا التيارات السياسية والمجتمعية باختلاف انتماءاتها والإخوان المسلمين في مقدمتها، إلى العودة السريعة لنموذج تقليدي من الفاشية العسكرية يذكرنا بانقلابات أمريكا الجنوبية التي صاحبها قمع دموي خاصة لأنصار التيارات السياسية التي تم الانقلاب عليها وشيطتنها فيما بعد.
دخلنا العام الرابع لانقلاب السيسي الذي يبدو قريبًا من تثبيت دعائم حكمه بقوة تزيد من تكلفة مقاومته بعد ذلك على غرار النموذج السوري، والسيسي رغم تزايد السخط الشعبي بوتيرة سريعة تجاه سياساته الاقتصادية التي لا تفيد سوى الأغنياء وطبقات محددة في الجيش وتزيد من أوجاع الفقراء ومحدودي الدخل وتضع أعباءً إضافية لا يستطيع غالبيتهم تحملها، ما ينذر بزيادة نسب الفقر وما يؤدي إليه من آثار كارثية على المجتمع ككل، إلا أنه استطاع إغلاق المجال العام بأسوأ مما كان عليه الحال قبل الثورة، مستغلاً أيضًا أخطاء خصومه، ومعتمدًا على خطاب تخويف من مصير دول الجوار التي تعانى عدم الاستقرار الأمني والصراعات البينية، كما أنه استغل شعبية الجيش ومكانته في نفوس المصريين حتى وإن تآكلت بمرور الوقت، ولا يخلو من تقديم رشاوى لمسانديه من أصحاب النفوذ في مؤسسات الدولة وعلى رأسها الجيش والشرطة والقضاء، ومن طبقات المنتفعين من رجال أعمال يسيطرون على الإعلام أو مثقفين ونخب، نهاية بسياسيين لا يطمحون سوى في فتات يقتاتون عليه.
غياب الرؤية
استقرار النظام السلطوي ممثلاً في السيسي أو غيره مرتبط بشكل أساسي بفشل خصومه بمختلف أطيافهم الذي يبدو أن أغلبهم يفتقر لرؤية بديلة كاملة يستطيع طرحها وحشد الأنصار حولها والتحرك الجاد لتحقيقها، وهو الأمر الذي قد يكون سببًا في طول عمر الاستبداد، إذ لا يتخيل أحد أن الحل سيأتي من السراب، ولا يراهن أحد على غير عمله وتحركه، بل ولا يعتمد أحد على أخطاء خصمه وسياساته وحدها، إذ إن سخط الناس وتحركهم العفوي لا ينتج ثورة، بل من الوارد أن ينتج فورات عدة لا يلبث بعدها الناس أن يعودوا إلى هدوئهم المعتاد أو يستطيع النظام استيعابها أو حتى قمعها، كما أنه لا ينتج بالضرورة نظامًا ديموقراطيًا نسعى إليه، لكن ما ينتج ثورة ونظام ديموقراطي هو العمل المنظم الممتلك لرؤية بديلة كاملة يستطيع مع ذلك استغلال أخطاء خصمه وجعلها جزء من خطته الكبيرة لإنجاز التحول الديموقراطي الذي هو بداية الحل.
الوحدة
معارضو السيسي يفترض بهم الإيمان والعمل لتحقيق نظام ديموقراطي هو نقيض لحالة الاستبداد، هذا النظام الديموقراطي الذي يرى في التنوع والاختلاف إثراءً للحياة العامة، فلا يقصي أحدًا ولا يمارس القمع على معارضيه هو بداية الحل التي يفترض أن يكون منها الانطلاق لتصويب كافة السياسات الأخرى، وهو ما يغيب عن خصوم السيسى المنقسمين على أنفسهم والغارقين في خلافاتهم الماضية أو قضاياهم الجزئية، عليهم إذن بمختلف أطيافهم الأيديولوجية أن يتوحدوا على رؤية للمستقبل تضمن جانب الحريات والديموقراطية في البداية، ثم تستوعب تلك الرؤية مطالب غالبية فئات الشعب في الجانب الاقتصادي والحياة الكريمة وقضايا التعليم والصحة وخطط محاربة الفقر والبطالة والجهل، لا يتصور أن رؤية كتلك يمكن الاختلاف عليها، ومع ذلك فمطلب الوحدة لا يزال صعب المنال وهو ما نراه من التفاعل الضعيف مع مختلف المبادرات التي صدرت في هذا الاتجاه.
الحقيقة أن حالة الاستبداد مؤهلة للاستمرار مدة طويلة طالما غابت تلك الرؤية وكذلك الحركة القادرة على التلاعب بالنظام وإبطال تأثير قمعه وكسب مزيد من الأنصار على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي بمرور الوقت حتى تستطيع إنجاز ذلك التحول المنشود، وتلك لا شك خطوات صعبة وتحتاج لكوادر ذات مهارات وخبرات خاصة وتستغرق وقت طويل حتى تتحقق، لكن إدراكها والاتفاق عليها هو أول خطوة نحو وضعها حيز التنفيذ ومن ثم الشروع في تحقيقها.
وبالتالي فمعاناة النظام العسكري في الجانب الاقتصادي وفشله الواضح لا يعني أننا قريبون من إنجاز تحول ديموقراطي، وإنما يعني أن لدى حركات التغيير فرصة لكسب أنصار جدد عن طريق التوصل لحلول بديلة وقابلة للتنفيذ لحل تلك المشاكل وجعلها جزء أساسي من رؤية المستقبل المطروحة وليست فقط تكرارًا للحديث عن المعاناة التي يعرفها الجميع، الأمر الآخر هو إحداث تحركات منظمة بأهداف محددة تخدم خطة التغيير الأساسية في مواجهة النظام وليس ترك الأمر عفويًا من أناس ليسوا منظمين وليس لديهم خطط وأهداف طويلة المدى، فتلك التحركات العفوية لن تحقق أهداف التغيير إن لم يتم استغلالها بشكل محكم ووضعها في إطار خطة عامة للتغيير.
من المهم للغاية للحركات التي تنشد التغيير في مصر أن تحسن استغلال تلك الأزمات الاقتصادية، فهي فرصة هامة لإثبات أن مطالبها السياسية ليست فئوية وأن لها مردودًا مباشرًا على حياة الناس ومعاشهم وهذا هو المعنى الحقيقي للسياسة، كما عليهم أن يدركوا أن عزوف الناس عنهم مرده إلى أن الغالبية دائمًا ما تتحرك عند ارتباط الأمر بمصلحة مباشرة تعود عليه وعلى أبنائه، بينما قلة من الناس من تحركهم القضايا الكبرى كأغلب القضايا السياسية في طرحها التقليدي، وكذلك عندما يشعر أن تحركه هذا مأمون المخاطر نسبيًا، فلا يعقل أن يلقي الناس بأنفسهم إلى الجحيم، وبالتالي على حركات التغيير أن تربط شعاراتها وأهدافها بمصالح عموم الناس وكذلك أن تُؤمن لهم وسائل احتجاج قليلة الخطورة ويمكن معرفة ذلك بدراسة أنواع تكتيكات حرب اللاعنف والاستفادة من تجارب سابقة عديدة.
الأمر إذن مرهون بسلوك مؤيدي التغيير، وفي حال عدم نجاحهم فبلا شك سيكون أمام الاستبداد ممثلاً في السيسي أو غيره أفق واسع أن يستمر ويقوي منظومته بحيث ترتفع تكلفة مقاومته مستقبلاً.