حين تطالعنا مراكز الأبحاث والتقارير الدولية عن ارتفاع نسبة تعاطي الخمور في الدول الأوروبية والآسيوية غير المسلمة، قد لا يمثل هذا الأمر أهمية لدى قطاع كبير من المهتمين، خاصة وأن هذا الشيء طبيعي جدًا في ظل عدم تحريم الخمور بكافة أنواعها، لكن الأمر قد ينقلب رأسًا على عقب حين يخرج علينا من يقول إن إدمان بعض الشعوب العربية المسلمة للخمور يفوق في بعض الأحيان شعوبًا أوروبية عُرف عنها كثرة استهلاكها لهذه المواد، بل وصل الأمر أحيانًا إلى أن نسبة إنفاق العرب على الخمور تخطت بمراحل ما ينفقه الغرب العلماني غير المسلم.
في هذه الإطلالة نطوف سريعًا بين جنبات هذه الظاهرة، للوقوف على حجم إدمان الخمور في الدول العربية، وما أكثر الشعوب العربية تعاطيًا لها، إضافة إلى قراءة مقارنة بين العرب وغيرهم في هذه الجزئية، للوصول إلى قاعدة ثابتة مفادها أن التحريم الديني وحده ليس كافيًا لتحجيم ظاهرة ما، فضلاً عن التفاوت الهائل بين طبقات المجتمع الواحد، ففي الوقت الذي يقبع فيه الملايين تحت خط الفقر ولا يجدون قوت يومهم، هناك من ينفق آلاف الدولارات كل ليلة على مزاجه الشخصي بكل مغرياته من خمور ومشتقاتها.
الدول النامية الأكثر استهلاكًا
بداية تفند الإحصائيات والتقارير الواردة من منظمة الصحة العالمية المقولة التي تربط بين مستوى الرفاهية ومعدلات استهلاك الخمور، حيث كان يعتقد أن الرفاهية في الدول المتقدمة تؤدي إلى مزيد من استهلاك الكحوليات بصفة عامة، وهو ما كذبته تقارير المنظمة الدولية والتي كشفت أن الاستهلاك الأكبر للخمور يوجد في الدول الفقيرة والنامية في القارتين الأوروبية والأمريكية.
والعجيب أنه بالرغم من تراجع المستوى المعيشي لغالبية دول القارة الإفريقية إلا أنها تتصدر قائمة الدول الأكثر استهلاكًا لهذه المواد، حيث جاءت تشاد في المرتبة الأولى عالميًا بنسبة 33.9 لترات لكل مواطن يتعاطى الكحوليات بأنواعها، يليها غامبيا بمعدل 30.9 لترات، ثم مالي بمعدل 29.3 لترات، ثم نامبيا بمعدل 27.7 لترات، بينما تصل في الولايات المتحدة الأمريكية إلى 13.3 لترات لكل مواطن، وفي ألمانيا تبلغ 14.7 لترات لكل مواطن، وفي روسيا تبلغ 22.3 لترات لكل مواطن، وفي إسرائيل تبلغ 5.4 لترات لكل مواطن، علمًا بأن متوسط استهلاك الكحوليات في العالم يبلغ 6.2 لتر لكل شخص.
تقرير الصحة العالمية الصادر في 2014-2015 أشار أيضا إلى أن حوالي 48% من سكان العالم لم يتعاطوا الكحوليات مطلقًا، بينما يكون الاستهلاك في المتوسط في مناطق غرب المحيط الهادي، ويصل لأقل مستوياته في مناطق شرق المتوسط وجنوب شرق آسيا.
معروف أن الكحوليات ليست متساوية في الاستهلاك والتأثير، فما يقرب من نصف المستهلك من الكحوليات في العالم يأتي في صورة مشروبات روحية، تليها البيرة بنسبة 35%، ثم النبيذ بما يعادل 8% فقط.
تونس تتصدر والسودان (المفاجأة)
صدق أو لا تصدق: العرب يتصدرون قائمة الشعوب الأكثر إدمانًا للخمور! قد تكون هذه الجملة عند الملايين من العرب ليست أكثر من نكتة ساخرة لا ترتقي حتى لدرجة الاهتمام والعناية، وكيف لا وهناك عشرات الملايين من الشعوب العربية تحت خط الفقر، كيف لا وما يزيد عن نصف العرب يعانون من الجوع وتردي في مستوى المعيشة، كيف لا وأثرياء العرب في السنوات الأخيرة قد كشفوا عن صعوبة الوضع الاقتصادي فما بالك بفقرائهم.
تقرير منظمة الصحة العالمية في 2014 كان صادمًا للجميع، فحين يتصدر التونسيون قائمة الشعوب العربية الأكثر استهلاكًا للخمور في الوقت الذي يعاني فيه الشعب التونسي من أزمات اقتصادية طاحنة دفعت الحكومة إلى اتخاذ حزمة من الإجراءات التقشفية فلا بد من وقفة، وحين يتفوق السودان على دول مثل لبنان ومصر في معدلات تعاطي الكحوليات بالرغم مما يعانوه من مجاعات وأزمات فلا بد من وقفة.
وبحسب التقرير، يبلغ معدل استهلاك الكحوليات بتونس 1.5لتر لكل مواطن قياسا بإجمالي عدد السكان، بينما يصل إلى 26.2 لتر لكل مواطن من بين المتعاطين للكحوليات، 35.1 لتر للرجال ولترًا بين النساء، كما تبلغ نسبة عدد السكان التي لم يسبق لها تناول الكحوليات 86.3% من إجمالي السكان، وتتصدر البيرة الكحوليات الأكثر استهلاكًا بنسبة 68% يليها النبيذ بنسبة 28%، علمًا بأن نسبة الأجانب في تونس لا تتجاوز 2% من إجمالي السكان مما يجعل المواطن التونسي في مقدمة استهلاك الكحوليات في الوطن العربي.
التونسيون يتصدرون قائمة الشعوب العربية الأكثر استهلاكًا للخمور في الوقت الذي يعاني فيه الشعب التونسي من أزمات اقتصادية طاحنة دفعت الحكومة إلى اتخاذ حزمة من الإجراءات التقشفية
ثم تأتي دولة الإمارات العربية المتحدة في المرتبة الثانية من حيث استهلاك مواطنيها للخمور، وبالرغم من أن معدل استهلاك الكحوليات بها 32.8 لترات لكل مواطن من بين المتعاطين للكحوليات، بما يزيد عن معدلات الاستهلاك في تونس، إلا أن معظم من يتعاطون الخمور في الإمارات هم من الأجانب، والذي تبلغ نسبتهم 84% من إجمالي السكان، ومن ثم يبلغ معدل استهلاك الكحوليات 4.3لتر لكل مواطن قياسا بإجمالي عدد السكان، كما يبلغ معدل الاستهلاك بين الرجال 34.4 لترات و17.8 لترات بين النساء، بينما تبلغ نسبة السكان غير المتعاطين لأي من أنواع الخمور نسبة 84.4% من إجمالي عدد السكان، لتتصدر المشروبات الروحية قائمة الكحوليات بنسبة 87% ثم البيرة 10%.
وفي مفاجأة من العيار الثقيل، يحل السودان ذا الدخول المتواضعة في المركز الثالث بين الشعوب العربية الأكثر إدمانًا للخمور، بمعدل استهلاك يبلغ 24.1 لتر لكل مواطن من بين المتعاطين، بينما تصل إلى 2.7لتر لكل مواطن قياسا بإجمالي عدد السكان، 33.5 لترات بين الرجال، و7.1 بين النساء، بينما يبلغ عدد السودانيين غير المتعاطين للكحوليات 75.9% من السكان، متقدم على دولة لبنان التي جاءت في المركز الرابع بمعدل استهلاك 23.9 لترات لكل مواطن، 30.9 بين الرجال، و11.1 بين النساء، بينما تبلغ نسبة اللبنانيين الذي لم يسبق لهم تناول الكحوليات 78.8% من إجمالي السكان.
أمّا المركز الخامس فكان من نصيب دولة قطر، صاحبة المستوى الاقتصادي المتقدم، والدخول العالية، حيث يبلغ معدل استهلاك المواطن فيها للخمور 1.5لتر إجمالا لعدد السكان، و 22.7 لترات لكل مواطن من بين المتعاطين، 24.1 بين الرجال، و11.1 بين النساء، بينما يصل عدد القطريين غير المتعاطين للكحوليات إلى 88.7% من إجمالي السكان، علمًا بأن نسبة الأجانب في قطر تصل إلى 88% من عدد السكان، بما يعني أن الغالبية العظمى من شاربي الخمر ليسوا من القطريين الأصليين.
ثم تأتي البحرين بمعدل استهلاك 21.2 لتر كل مواطن من بين المتعاطين بينما تبلغ 2.1لتر لكل مواطن إجمالا لعدد السكان، يليها المغرب بنسبة 17.1 لتر لكل مواطن من المتعاطين بينما تصل إلى 0.9 لتر إجمالا لعدد السكان، ثم سوريا بنسبة 16.3 لترات لكل مواطن من بين المتعاطين، بالرغم مما تواجهه من أزمات، يليها سلطنة عمان بنسبة 15.5 لترات لكل مواطن متعاطي، ثم الأردن بنسبة 15.2 لتر، ثم الجزائر 10.9 لترات لكل مواطن، يليها الصومال بنسبة 9.2 لترات، ثم العراق 9.1 لتر، ثم اليمن 6.1 لتر لكل مواطن، لتأتي بعدها مصر في المركز السادس عشر بنسبة 6 لترات لكل مواطن، ثم موريتانيا 4.8 لترات، والسعودية 3.9 لترات، وأخيرًا ليبيا بنسبة 2.5 لترات لكل مواطن.
وفي المقابل وبحسب دراسة قدمتها وكالة رويترز العام الماضي بشأن استهلاك الخمر في المملكة المغربية، فإن المغاربة يستهلكون الخمر أكثر من الحليب، حيث يتناولون 131 مليون لتر في العام الواحد، تشمل 400 مليون قنينة بيرة و38 مليون قنينة نبيذ، و1.5 مليون قنينة ويسكي، ومليون قنينة فودكا، و140 ألف قنينة شامبانيا، عوضًا عن أن المغرب هو أكبر مصدر للخمور في العالم العربي، بحسب التقرير.
شيزوفرينيا العرب
أمام هذه الأرقام الصادمة التي أوردها تقرير منظمة الصحة العالمية، توجه “نون بوست” إلى الخبير الدكتور عادل صادق، أستاذ الاجتماع بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، والذي أكد بدوره أنه – أي التقرير – يعكس حالة من فصام الشخصية عند الشعوب العربية، ففي الوقت الذي تحيا فيه الغالبية العظمى من العرب في ضنك وسوء معيشة نجد الملايين منهم يهرولون إلى الحانات والبارات لتعاطي الخمور بشتى أنواعها، بصرف النظر عن مسألة التحريم والتي باتت محل نقاش في ظل ارتفاع بعض الأصوات التي تقول بأن القرآن لم يحرم الخمر.
صادق أشار إلى أن المتابع لحال العرب أمام بارات الفنادق وفي الملاهي الليلية لا يمكنه أبدًا أن يصدق الأرقام التي يصدرها البنك الدولي بشأن تراجع المستوى المعيشي لملايين العرب، ملفتًا أن المواطن العربي أسير كيفه ومزاجه، وأن هذا يرجع إلى تردي المستوى التعليمي والقيمي لديه، فضلاً عن حالة الإحباط التي يعاني منها؛ ما دفعه إلى محاولة الهروب والنسيان بتعاطي الخمور، وهو ما ينطبق أيضًا على إدمان المخدرات ولجوء البعض إلى الاقتراض وبيع أثاث البيت والقتل والسرقة لأجل أن ينفق على المواد المخدرة.
المتابع لحال العرب أمام بارات الفنادق وفي الملاهي الليلية لا يمكنه أبدًا أن يصدق الأرقام التي يصدرها البنك الدولي بشأن وجود ملايين العرب تحت مستوى خط الفقر
وبالانتقال إلى شريحة المواطنين، فتقول اللبنانية هيام صافي، إن الخمر بالنسبة للمواطن اللبناني مثل المياه والطعام لا يمكنه الاستغناء عنها، مشيرة في حديثها لـ “نون بوست” أن الغالبية العظمى من اللبنانيين يتعاطون الكحوليات بمختلف أنواعها، وإن كانت النسبة الأكبر منهم يشربون المواد الروحية والبيرة أكثر من النبيذ.
أما الصحفية التونسية ريم العلالي فتشير إلى أن أغلب التونسيين يتناولون البيرة وليس النبيذ كما يروج البعض، مشيرة إلى أن مثل هذه المشروبات صارت وردًا يوميًا في ظل حالة الإحباط التي يعاني منها التونسيون لا سيما في الفترة الأخيرة.
العلالي أكدت لـ “نون بوست” أن الشريحة الأكثر استهلاكًا للخمور هي النخبة وأصحاب رؤوس الأموال والثراء الفاحش، فضلاً عن المقيمين في دول أوروبا خاصة فرنسا، حيث يقسمون محال إقامتهم ما بين دولتهم الأم وأوروبا، ومن ثم نقلوا هذه الثقافة إلى مجتمعاتهم بصورة كبيرة، ملفتة أن هناك شريحة كبيرة والنسبة الأكثر من التونسيين لا يتعاطون أي خمور على الإطلاق، ليس بسبب المستوى المعيشي فحسب، بل أيضًا للوازع الديني.
الخمور تنافس السلاح
أرقام صناعة الخمور واستثماراتها في الدول العربية تضع العديد من علامات الاستفهام لا سيما وهي تنافس صفقات السلاح في المنطقة حسبما أشارت شركة Diageo في لندن التي تصنع ويسكي Jhonnie Walker وفودكا Smirnoff، والتي كشفت عن زيادة في أرباحها نتيجة مبيعاتها من الخمور للمنطقة العربية بنسبة 16% استهلكت 44% من إنتاج الشركة في المنطقة، بالأخص في السوق اللبنانية والإماراتية.
ميليشيات ومافيا صناعة الخمور في الدول العربية والإسلامية تتنامى بصورة غير متوقعة، بالرغم من وجود المواجهات الدينية الشرسة، إلا أن ذلك لم يمنعها من فتح العشرات من النوافذ الخلفية التي تستطيع من خلالها التحايل على قوانين الدول والحكومات التي تمنع صناعة الخمور بشكل مباشر، لإنتاج الأنواع المختلفة من الخمور إرضاءً لبعض مواطني هذه الدول أو الأجانب المقيمين بها.
وتتصدر المملكة العربية السعودية قائمة الدول الأعلى سعرًا لمنتجات الخمور، حيث يصل سعر الزجاجة الواحدة فيها 250 دولارًا، يليها ليبيا بـ 93 دولارًا، ثم المغرب والإمارات العربية المتحدة.
مما سبق يتضح أنه وفي الوقت الذي تعاني فيه شعوب المنطقة من شبح المجاعات والموت، هناك الملايين من أبناء هذه الشعوب يتسكعون ليل نهار على بارات الملاهي الليلية، وفوق أرصفة الحانات ينفقون مئات المليارات، ومن ثم فقد تحولت صناعة الخمور في العالم العربي إلى سوق هائلة يسيطر عليه مافيا وميليشيات عالمية تحقق من ورائها المليارات من الأرباح، وكالعادة يقدم العرب أنفسهم للغرب سوقًا لا يمكن تركها حتى وإن كان المنتج في نظر عقيدة هذه الدول حرامًا.