جاء إعلان جنوب إفريقيا عن انسحابها بصورة رسمية من عضوية المحكمة الجنائية الدولية، على خلفية التراشق السياسي والإعلامي بين الجانبين خلال الفترة الأخيرة جراء عدم توقيف جوهانسبرج للرئيس السوداني عمر البشير، خلال حضوره قمة الاتحاد الإفريقي العام الماضي، ليضع العديد من التساؤلات حول أبعاد هذه الخطوة، وما يمكن أن تلعبه من دور مؤثر في صورة جنوب إفريقيا دوليًا.
القرار المفاجئ يعد ضربة موجعة للمحكمة المتعثرة منذ إنشائها في 2002، والتي تسعى إلى فرض المزيد من الحضور والاحترام الدولي بعد ما تعرضت له من انتقادات لاذعة بشأن “تسييس” بعض قراراتها ومواقف أعضائها، ما جعل الكثير من الدول الأعضاء فاقدة للثقة فيما يخرج عنها من توصيات وأحكام.
الجنائية الدولية و4 قضايا إفريقية
بدأت الإرهاصات الأولى لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية خلال اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة في إيطاليا في يوليو 1998، فيما عرف حينها بـ “ميثاق روما” والذي أشار إلى أن ملايين الأطفال والنساء والرجال في القرن العشرين – الذي شهد حربين عالميتين – قد وقعوا “ضحايا لفظائع لا يمكن تصورها هزت ضمير الإنسانية بقوة” وأنه شهد “جرائم خطيرة تهدد السلم والأمن العالمي” وأن مثل هذه الجرائم لا يجوز أن تمر دون عقاب، حيث وافقت 120 دولة في الاجتماع على البدء في ترتيبات إنشاء محكمة دولية جنائية، بينما عارض المشروع سبع دول، وامتنعت 21 أخرى عن التصويت
وفي الأول من يوليو 2002، وبموجب ميثاق روما، تأسست المحكمة الجنائية الدولية بصفة قانونية ومقرها مدينة لاهاي الهولندية، لتدخل التنفيذ الفعلي في 11 أبريل من نفس العام، بعد تصديق 60 دولة حينها على إنشائها والذي وصل الآن إلى 108 دول، فضلاً عن 41 أعلنوا موافقتهم على الميثاق لكن لم يصادقوا عليه بعد.
تنظر المحكمة الدولية منذ إنشائها 4 قضايا فقط، جميعها ضد زعماء وقادة ومسؤولين أفارقة
تختص المحكمة الجنائية الدولية بمتابعة الأفراد المتهمين بثلاثة أنواع من الجرائم، أولها: جرائم الإبادة الجماعية، وتعني حسب تعريف ميثاق روما، القتل أو التسبب بأذى شديد بغرض إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية إهلاكًا كليًا أو جزئيًا، ثانيها: الجرائم ضد الإنسانية، وهي أي فعل من الأفعال المحظورة المنصوص عليها في نظام روما، إذا ارتكب بشكل منظم وممنهج ضد مجموعة من السكان المدنيين، مثل القتل العمد والإبادة والاغتصاب والإبعاد والنقل القسري والتفرقة العنصرية والاسترقاق، ثالثها: جرائم الحرب، وتعني كل الخروقات المرتكبة بحق اتفاقية جنيف لسنة 1949، وانتهاك قوانين الحرب في نزاع مسلح دولي أو داخلي، كما يمكن للمحكمة أن تنظر بقضايا أشخاص متهمين بارتكاب هذه الجرائم مباشرة، أو آخرين لديهم مسؤولية غير مباشرة فيها، كالمسؤولية عن الإعداد أو التخطيط، أو مسؤولية التغطية عنها، أو مسؤولية التشجيع عليها.
ويفرض قانون المحكمة على هذه الدول أن تتعاون معها في التحقيقات والمتابعات التي تباشرها، بأن تسلم المتهمين إن كانوا من مواطنيها، أو تعتقلهم وتسلمهم إن دخلوا أراضيها، وبأن توفر كل الوثائق المتوفرة لديها في أي قضية تفتح المحكمة التحقيق فيها، ويمكن للمحكمة أن تتعاون مع الدول غير المصادقة على ميثاقها، وذلك عبر تفاهمات أو اتفاقات منفصلة، كما يربط المحكمة بالأمم المتحدة اتفاق ينظم العلاقات وسبل التعاون بينهما، وبذلك تختلف المحكمة الجنائية الدولية عن محكمة العدل الدولية التي تعتبر ذراعًا تابعة للأمم المتحدة تهدف من خلالها لحل النزاعات بين الدول.
ومنذ إنشاء المحكمة وهي تنظر في أربع قضايا حتى الآن، ثلاثة منها أحالتها دول الكونغو الديمقراطية وإفريقيا الوسطى وأوغندا، تتهم فيها أشخاصًا بارتكاب جرائم حرب وإبادة وجرائم ضد الإنسانية على أراضيها، أمّا القضية الرابعة أحالها إلى المحكمة مجلس الأمن، متهمًا فيها الرئيس السوداني عمر البشير ومسؤولين آخرين بارتكاب جرائم مماثلة في إقليم دارفور غرب السودان، ويعد توماس لوبانجا، زعيم إحدى المليشيات المسلحة في جمهورية الكونغو الديمقراطية، أول شخص تم تقديمه للمحكمة الجنائية الدولية، وذلك بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
المحكمة الجنائية الدولية
جوهانسبرج والبشير
بداية الأزمة بين المحكمة الجنائية الدولية وجنوب إفريقيا تعود إلى يونيو من العام الماضي، حين شارك الرئيس السوداني عمر البشير في قمة الاتحاد الإفريقي التي عقدت في العاصمة جوهانسبرج، بالرغم من صدور أمر اعتقال له لاتهامه ومسؤولين آخرين بارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور، ما يتطلب من أي دولة عضو بالمحكمة تنفيذ هذا القرار وتوقيفه فورًا حال زيارتها تحت أي سبب، وهو ما رفضته السلطات في جنوب إفريقيا، حيث سمحوا له بمغادرة البلاد متوجهًا إلى العاصمة السودانية الخرطوم دون أي ملاحقة، في الوقت الذي أصدرت فيه إحدى محاكم جنوب إفريقيا (بريتوريا) أمرًا بتوقيف البشير تنفيذًا لقرار الجنائية الدولية، وهو ما تسبب في اشتعال الأزمة بين الجانبين، لا سيما بعدما جاء على لسان مثونزي مهاجا، المتحدث باسم وزارة العدل في جنوب إفريقيا، أن بلاده ستطالب برفض طلب الجنائية الدولية اعتقال البشير، قائلاً: “سندافع باستماتة عن رفض التنفيذ”.
في المقابل، علق وزير خارجية السودان إبراهيم غندور على القضية بأن الاتحاد الإفريقي لم يدعم أبدًا الملاحقات بحق البشير، مؤكدًا أن محاولات المحكمة الجنائية الدولية مع حكومة جنوب إفريقيا ضد البشير قد باءت بالفشل”، مشددًا على أن مشاركة الرئيس البشير في القمة طبيعية، فهو تلقى دعوة من حكومة جنوب إفريقيا ولبى الدعوة لأنه لم يتعود أن يغيب من القمم الإفريقية”.
وعلى مستوى الاتحاد الإفريقي، فقد علق حينها وزير خارجية زمبابوي، سيمباراشي موبنغيغوي، الذي تولت بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الإفريقي العام الماضي بقوله: “في كل دول العام، يتمتع رؤساء الدول في منصبهم بالحصانة، وعليه فإن الاتحاد الإفريقي أكد أن أي محكمة في العالم لا يمكنها سحب هذه الحصانة”، لذلك كان من المستبعد أن تقوم السلطات في جنوب إفريقيا بأي إجراء من شأنه منع البشير من الرحيل ضد رغبته.
الرئيس السوداني خلال زيارته لجنوب إفريقيا 2015
جنوب إفريقيا تهدد بالانسحاب
هددت جنوب إفريقيا أكثر من مرة بالانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية بسبب بيانات الإدانة التي أصدرها الأمين العام للأمم المتحدة فضلاً عن هيئة المحكمة، والتي اعتبرتها جوهانسبرج خرقًا للسيادة الوطنية واستقلال قرارها السياسي، خاصة بعد الخلاف الذي حدث بين السلطتين التنفيذية والقضائية على خلفية قضية الرئيس السوداني.
الوزير المكلف بشؤون الرئاسة جيف راديبي، في تصريح صحفي سابق له قال: “يمكن لجنوب إفريقيا أن تدرس الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية، كملاذ أخير، لكن مثل هذا القرار لن يتخذ إلا بعد استنفاد جميع الوسائل المتوفرة لديها في إطار اتفاقية روما”، ملفتًا أن الحكومة ستراجع عضويتها في المحكمة “لأسباب عدة”، لكنه أكد أن الدولة تتعامل مع التزاماتها الدولية بكل جدية.
قرارات المحكمة الجنائية الدولية ليست مستقلة، بل تخضع لإملاءات تقرها وتفرضها القوى الاستعمارية الدولية، لذا كان الهدف هو تركيع جنوب إفريقيا من جهة، وتشويه علاقتها بالسودان من جهة أخرى
ووصل الخلاف الداخلي في جنوب إفريقيا إلى إعلان محكمة بريتوريا نيتها في رفع قضية جنائية ضد 12 مسؤولاً رفيع المستوى بينهم وزراء العدل والشرطة والخارجية والداخلية، اتهمتهم بالتخاذل في تنفيذ حكمها بشأن توقيف البشير، بينما دعا الائتلاف الديمقراطي – أكبر أحزاب المعارضة في جنوب إفريقيا -، إلى فتح تحقيق متكامل بشأن فشل الحكومة في اعتقال الرئيس السوداني.
وفي المقابل شنت “منظمة هيومن رايتس ووتش” في بيان لها هجومًا على حكومة جنوب إفريقيا بسبب التلويح بالانسحاب من الجنائية الدولية، حيث جاء في البيان: إن انسحاب جنوب إفريقيا المقترح من المحكمة الجنائية الدولية يظهر تجاهلاً مذهلاً للعدالة من دولة اعتبرت رائدة عالمية في المحاسبة على جرائم فظيعة، وأضافت “من المهم بالنسبة لجنوب إفريقيا والمنطقة وقف هذا التوجه، والحفاظ على إرث جنوب إفريقيا بالوقوف مع ضحايا الفظاعات الجماعية والذي اكتسبته بصعوبة”.
من جانبه أعلن الأربعاء الماضي وزير العدل الجنوب إفريقي مايكل ماسوتا، أن بلاده قدمت طلبًا خطّيًا رسميًا بشأن انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية، ويدخل القرار حيز التنفيذ بعد مرور عام من تاريخ استقبال الرسالة التي وجهتها جوهانسبرج للأمم المتحدة، بحسب ما أوضح الوزير في مؤتمر صحافي، كما اتهم المحكمة الدولية أيضًا بأنها تستهدف قادة إفريقيا في المقام الأول، في الوقت الذي تستبعد فيه الباقين الذين عرفوا بارتكاب هذه الفظاعات في أماكن أخرى خارج إفريقيا.
إن انسحاب جنوب إفريقيا المقترح من المحكمة الجنائية الدولية يظهر تجاهلاً مذهلاً للعدالة من دولة اعتبرت رائدة عالمية في المحاسبة على جرائم فظيعة
الصحفي الزامبي كابيرو سانيا، المتخصص في القضايا الإفريقية أكد أن هناك تربص دولي بقادة القارة السمراء، وأن المجتمع الدولي ينظر إليهم كونهم زعماء من الدرجة الثانية، في الوقت الذي يتجاهل فيه عشرات القضايا المرفوعة ضد مجرمين دوليين آخرين، لكنه – المجتمع الدولي – لا يمكنه توجيه اللوم إليهم.
سانيا، أشار لـ “نون بوست” أن قرارات المحكمة الجنائية الدولية ليست مستقلة، بل تخضع لإملاءات تقرها وتفرضها القوى الاستعمارية الدولية، لذا كان الهدف هو تركيع جنوب إفريقيا من جهة، وتشويه علاقتها بالسودان من جهة أخرى، لكن السلطات في جوهانسبرج تفهموا هذا الفخ جيدًا، وأرادوا أن يوصلوا رسالة للعالم مفادها أن هناك استقلالية في القرار السياسي، وأن هناك سيادة كاملة لا يمكن لأي جهة أيًا كانت أن تنتقص منها، كما أن الجسد الإفريقي متماسك صعب تمزيقه بقرارات لا تصدر إلا بحق الأفارقة وحسب.