رفعت إيران من حدة الهجوم على المملكة العربية السعودية منذ أغسطس/آب الماضي, وإن كانت تحاول استغلال حادثة “منى” العام الفائت ومقتل حجاج إيرانيين فيه, إلا أن ذلك ليس إلا شماعة تعلق عليها طهران تلك الحالة الموجهة للمواطنين الإيرانيين, فالحقيقة الماثلة أن تدهور موقف أتباعهم الحوثيين في اليمن عسكرياً وسياساً هو السبب الرئيس في ذلك الهجوم, إضافة إلى تدهور موقفها في سوريا على وقع تحرير حلب وارتفاع قتلى الحرس الثوري في سوريا إلى أكثر من 434 قتيلاً.
من هنا تظهر الرغبة الإيرانية باستثمار أمثل لاستمرار الحرب في اليمن، لذا تدفع حلفاءها الحوثيين، وتنظيمات في الحراك الجنوبي إلى استمرار حالة عدم الاستقرار في اليمن، مع إفشال أي تصور لحل سياسي في البلاد؛ ولأن موقف حليفهم الحوثي تدهور بشكل سريع, مع تضييق الخناق عليهم في صنعاء, فقدوا أي تقدم نحو المحافظات الجنوبية منذ أغسطس/آب, مع تواصل فقدانهم للمزيد من الأراضي في المحافظات الشمالية, وصولاً إلى معقلهم في محافظة صعدة، فإن إيران تخشى أن تنتهي الحرب بخسارة حليفها وفقدان كل مصالحها في اليمن.
طوال فترة الحرب تشعر طهران أن حلفاءها يخسرون المزيد من الأراضي، فتزيد من إرسال الأسلحة إليهم، لكن منذ أغسطس/آب فشلت في إيصال أسلحة نوعية للحوثيين، إلا النذر اليسير، فمصدر تهريب الأسلحة من الجزر الارتيرية تم إيقافه بتعزيز الدوريات العسكرية للتحالف في المياه الإقليمية لليمن، وهو ما أدى إلى أن قام الحوثيون بقصف الأراضي الإريترية بقذائف صاروخية في سبتمبر/أيلول الماضي. وقالت صحيفة “فرجية نت” الإرتيرية التي تصنف نفسها على انها مستقلة إن السلطات الارتيرية تفرض طوقاً أمنياً مشدداً في منطقة “عصب” كما تحذر الصيادين والزوارق البحرية المدنية الإرتيرية من وإلى تلك المناطق.
لتستثمر إيران كما يبدو جزراً أخرى في البحر الأحمر, مصرية كما وضحت تقارير أخيرة, رغم تكثيف مراقبته من قبل قوات التحالف, والتي تراقب أيضاً الخط البري الذي يربط سلطنة عمان باليمن، عبر محافظة المهرة وحسب نشرة مخابراتية فرنسية “أنتلجنس أون لاين” نشرت في سبتمبر/ أيلول تقريراً عن وجود “لوبي إيراني” في مسقط إلى جانب تحويل محافظة ظفار على الحدود اليمنية إلى مكانٍ لتهريب الأسلحة إلى اليمن وهي التي تملك ميناء “أم صلالة”، تشير النشرة إلى أن مسؤولين محليين في ظفار (التي دخلت مؤخراً في السلطنة بعد ثورات عديدة) يملكون علاقات ممتازة مع إيران، “وأحد أولئك الذين يميلون إلى توثيق التنسيق مع إيران، هو الجنرال سلطان بن محمد النعماني، وزير مكتب قصر السلطان. وادعت النشرة أن النعماني ينتمي إلى إحدى أبرز الأسر العُمانية، يشرف بشكل رسمي على جهاز أمن الدولة، وهو جهاز المخابرات الداخلية العمانية”، حسب النشرة. وتمر تلك الشبكة بشكل سهل عبر الحدود اليمنية – العمانية لتصل إلى يد الحوثيين متبعة خط (المهرة – حضرموت – شبوة ثم البيضاء حتى صعدة).
إيران تفقد التهريب البري
المنفذ البري الآمن يجري محاصرته بشكل وثيق للغاية، وسبق أن شدد نائب الرئيس اليمني في عدة لقاءات عسكرية على ضرورة وقف تهريب السلاح إلى الحوثيين من المحافظات الجنوبية. وتحدث محافظ مأرب سلطان العرادة في سبتمبر/أيلول على أن الجيش اليمني أمسك بثلاث شحنات أسلحة تحمل لوحات معدنية عُمانية كانت في طريقها إلى الحوثيين. وهي المرة الأولى لمسؤول يمني رفيع يتحدث عن عُمان كمصدر للتهريب.
في بداية أكتوبر/ تشرين الأول الجاري موقع ميدل ايست مونيتور البريطاني قال إن القوات اليمنية ألقت القبض، على خمس شاحنات محملة بالأسلحة كانت في طريقها إلى الحوثيين في محافظة المهرة قادمة من سلطنة عمان. وفي تقرير نهاية سبتمبر/أيلول قال الموقع إن القوات اليمنية ألقت القبض على شحنة أسلحة قادمة للحوثيين في محافظة مأرب قادمة من السلطنة. ولاحظت قوات المقاومة المحلية أن الشاحنة التي أوقفوها للتفتيش يوجد بداخلها صواريخ حرارية، جنبا إلى جنب مع ذخيرة؛ غطيت الأسلحة بأجهزة الإلكترونية في محاولة لإخفاء التسليم. واعترف السائق بتلقي التسليم من ميناء “صرفيت”، في محافظة ظفار بسلطنة عمان. وتشير هذه المعلومات إلى أن تضييق وصول السلاح إلى الحوثيين أصاب إيران بالكثير من التوتر.
اتفاق أمريكي-إيراني بشأن اليمن
اليمن تقع أسفل جدول أعمال وزارة الخارجية الأمريكية، ولولا أن جارتها الأكثر أهمية بكثير، المملكة العربية السعودية قررت أن تقضي على نفوذ الحوثيين؛ ما كانت استجابت لشرعية ولا لأي أصوات في اليمن. وقد تختلف الولايات المتحدة مع الرياض إزاء اليمن، ولكن تؤدي الجاذبية الثقيلة للمملكة العربية السعودية في سياسة الولايات المتحدة إلى مزيج من المواقف المتناقضة, التي تضيف ما وصل إلى نوع من الفشل الواضح في الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية جون كيري للمنطقة. أصبحت اقتراحات كيري لاستئناف المفاوضات السياسية بعد شهر من القتال العنيف غارقة في السياسة السعودية واليمنية، والتي تظهر واشنطن غير قادرة أو غير راغبة في التنقل، من أجل دعم هذا المسار.
لكن البعض يعزوه إلى التحالف الأمريكي- الإيراني في الشرق الأوسط بعد الاتفاق النووي (يوليو/تموز2015)، وهو ما كشفت عن تسريبات لوسائل إعلام إيرانية تتحدث عن طلب أمريكي من سلطنة عمان التوسط مع إيران لإجراء محادثات مع اليمن.
عندما أتى المرشد الإيراني الأعلى في 18 سبتمبر/أيلول على ذكر ما وصفه كمحاولات الولايات المتّحدة المشاركة في محادثات مع بلاده بشأن مواضيع إقليميّة، بدا الأمر تأكيدًا على التقارير الإعلاميّة الصّادرة في 14 أيلول/سبتمبر بأنّ واشنطن تواصلت مع طهران من خلال عمان مقترحة بدء محادثات أميركيّة – إيرانيّة – روسيّة لمناقشة الأزمة في اليمن, وإنّ التّقرير، الذي ورد أوّلاً في جريدة الأخبار اللّبنانيّة ونشرته لاحقًا وكالة أنباء فارس الإيرانيّة شبه الرّسميّة، اقتبس قول “مصدر مطّلع” بأنّ إيران لم ترحّب بالاقتراح ولم تردّ عليه. وذكّر المصدر عينه بحادثة مماثلة جرت أثناء الحرب العراقيّة الإيرانيّة بين عامي 1980 و1988، عندما قيل إنّ بريطانيا العظمى عرضت التّفاوض لكنّ طلبها قوبل بالرّفض من جانب المرشد الأعلى آنذاك آية الله روح الله الخميني.
بغضّ النّظر عمّا إذا كانت الرّسالة المذكورة موجودة فعلاً، لا يمكن فصل تصريحات خامنئي عن التوتّر الحالي المحيط بعلاقات إيران في المنطقة، لا سيّما مع السّعوديّة. وهناك أيضًا سياق الجدل المحيط بالاتّفاق النّووي المبرم في العام 2015، الذي قد يكون في خطر بحسب مصدر إيراني تحدث لصحيفة المونيتور الأمريكية. تعتقد واشنطن أنه منذ العام 2012، أدّى تدخّل إيران في سوريا، والعراق، ولبنان واليمن إلى تمديد حدود أمنها الإقليمي، ما جعل من المستحيل التوصّل إلى تسويات متعدّدة الأطراف في تلك الدّول المتخبّطة بالأزمات بدون موافقة طهران.
لدى إبرام الاتّفاق النّووي في صيف العام 2015، كانت هناك تلميحات إلى أنّ إيران والولايات المتّحدة كانتا متّجهتين نحو فصل جديد من التّعاون في المنطقة. ففي العراق، رأينا مؤشّرات واعدة على إمكانيّة قيام التزام أميركي إيراني، على الرّغم من إصرار الفريقين على رسم خطوط حمر. بالفعل، كان واضحًا للجميع أنّهما كانتا في الميدان يساعدان أحدهما الآخر لكن بدون تنسيق مباشر، كما جرى في المعركة ضدّ تنظيم الدّولة الإسلاميّة في صلاح الدّين شمال بغداد، ولاحقًا في الفلوجة.
في اليمن، لم نر أيّ دلائل تؤذن بالتّغيير نظرًا إلى تعقيد المعركة وكونها بين حليف قويّ للولايات المتّحدة، هو السعودية، ومجموعة مرتبطة بإيران؛ لكن ذلك لا يلغي أن جلسات إيرانية- أمريكية، هي التي أدت إلى تسريبات الرسائل والتي أقنعت واشنطن ببقاء الحوثيين كقوة في المستقبل.
لماذا تريد إيران استمرار الحرب في اليمن؟
تعتقد طهران أن إدخال السعودية في حرب استنزاف طويلة المدى سيعطي الكثير لها للتحرك والسيطرة على المنطقة، حتى أنها أصبحت تطالب -للمرة الأولى- بزعامة العالم الإسلامي وحقها كما تقول في إدارة الحرمين الشريفين.. على هذا النحو من الرؤية الإيرانية سيدفع الحوثيون تكاليف دمائهم من أجل المشروع الإيراني، وسبق أن ساهمت إيران في إفشال أي طريق يؤدي إلى “حل سياسي” سلمي في اليمن، بالرغم من مخاوفها المتزايدة من انهزام الحوثيين في اليمن، وانتصار الحكومة الشرعية.
في الوقت نفسه لا تبحث إيران حل شامل وجذري للأزمة اليمنية-منفردة- دون إيجاد حل يرضيها في سوريا، يشير تعليق جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، على جلسة مجلس الأمن بشأن سوريا إلى ذلك الربط المقصود بحل الأزمتين “السورية واليمنية” مجتمعة في المنطقة، وفق حلول يضعها فريق المرشد الأعلى، والتي لا تعتبر سحب أسلحة الحوثيين وحل تنظيمهم إحدى الخيارات المتاحة، بل إن حصولهم على “الثلث” المعطل، وبقاء الأسلحة بأيديهم بما فيها الصواريخ البالستية التي زودتهم بها مؤخراً، هو ما تريده طهران للحوثيين في اليمن بأي شكل من الأشكال كان باتفاق سياسي أو بضغوط دولية، أو باغتيالات ممنهجه لمعارضي الحوثيين.
والسبب وراء ذلك أن إيران تريد بإبقاء أمن شبه الجزيرة العربية، والمملكة العربية السعودية مهدداً بشكل أسوأ من ذي قبل عبر جماعة مسلحة تنشط على حدودها الجنوبية، وتبتز النظام السعودي، كلما حاولت الرياض الاحتفاظ بدورها في قيادة العالم الإسلامي.
الحلول المسعفة
يقف أمن شبه الجزيرة العربية على مفترق طرق، فتهديدات اليمن على جنوبها هي الأشد وطأة منذ بدء تصدير الإيرانيين ثورتهم عام 1979م، وإن كان لفظ “التخاذل” يسعفنا في توصيف موقف الخليج من “العراق” فقد أحكمت طهران قبضتها على العراق بتواطؤ غربي أمريكي في وقت كانت علاقتنا كـ”عرب” بالأمريكيين في أزهى وقتها.
أعطت قيادة المملكة العربية السعودية لـ”عاصفة الحزم” في اليمن، ذلك التحرر الكبير من سيطرة الرؤية الأمريكية في الشرق الأوسط، لتأخذ الرياض موقعها في القيادة، وهو المكان الذي يظل مشغولاً دائماً إما بها أو بمصر أو العراق أو سوريا، ولعدة أسباب لأوضاع البلدان الثلاثة، تقف السعودية وحيدة بين تلك القوى العربية لمواجهة خطر التمدد الإيراني في بلدان الشرق الأوسط.
لا بديل عن الإسراع بالحسم العسكري، فإطالة الحرب لا يخدم إلا الإيرانيين ومشروعهم، ويتيح لها إيجاد منافذ لتهريب السلاح إلى الحوثيين بما فيها “الصواريخ الحرارية” المضادة للطائرات كما تهدد وسائل إعلام إيرانية بعد ساعات من استهداف سفينة مدنية إماراتية في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بصاروخ “نور” الإيراني؛ ويبدو أن الكثير من تلك الصواريخ تحاول إيجاد ملآذات آمنة للوصول إلى الحوثيين؛ كما أن إطالة الحرب تزيد من تعقيدات السياسة الخارجية ونفوذ إيراني (عبر منظمات دولية) و(مكاتب علاقات عامة) واسعة في دول صنع القرار الدولي قد يسبب بالكثير من المضاعفات لليمن والرياض, وعلى إثر هذا الحسم يتم إيقاف الميليشيات المسلحة وحل تنظيم الحوثيين العسكري وأن يعلنوا تحولهم إلى حزب سياسي بعد أن يسلموا أسلحتهم للدولة اليمنية، يشاركوا في انتخابات كباقي اليمنيين الآخرين بلا عقدة “الحق الإلهي” ولا ولاء لأي جهة خارجية كانت لـ”حزب الله” أو لـ”إيران”، عدا ذلك فهو تفخيخ لمستقبل شبه الجزيرة واستهداف واضح المعالم للمملكة العربية السعودية.
تمكنت إيران من اختراق “المشرق العربي” بتحالفاتها وفي ظل ضعف “مصر” وتحول “العراق” و “سوريا” إلى دولة تحت العلم “الإيراني”، وبما أن “مصر -العراق- سوريا – السعودية” قد مثلت محاور الأحلاف والتعاقدات خلال مراحل الحرب الباردة عقب الحرب العالمية الثانية، فإن من الواجب الإيمان بضرورة الدفع بقوة موازية لقوة “إيران” في تحالف المواجهة مع “إيران” ولتكن القوة “التركية” التي تعاظمت بما يفوق كثيراً قوة “طهران”، فلها مصالحها المترامية مع “العراق” وسوريا، وتحتفظ بحدود تمتد إلى 1900كم، فتحالف من هذا النوع يضعف “إيران”، ويُعجل بإنهاء أطماعها.
باستطاعة الخليجيين تدارك ما تم افساده في “العراق” وتسليمها لإيران وللحرب “الهوياتية”، وباستطاعة السعودية تدارك ما حدث في اتفاق “الطائف” (سبتمبر1989) ببقاء سلاح حزب الله وها هو اليوم أكبر قلق على الأمن القومي للخليج، وأداة إيران الكبرى في البحر الأبيض المتوسط؛ وحتى لا تكون الأداة في البحر الأحمر وعلى مضيق باب المندب، يجب قطع الطُرق المؤدية إلى بقاء سلاح الحوثيين وتكوينهم الميليشياوي وبناء دولة يمنية جديدة تحمي أمنها ويأمن أشقائها من استخدمها قطعة في حرب تديرها إيران ويخذلنا الغرب؛ وحتى لا يخرق السعوديون في عهدهم الجديد، فلم يسبق للرياض دخول تحالف لمواجهة عدو يمثل خطراً على أمنهم الإقليمين وفشلوا؛ فمن مواجهة “عبدالناصر” ومروراً بالتحالف الدقيق مع “العراق” ضد “إيران” و حتى “غزو الكويت” كلها تحالفات منتصرة.
المصدر: مُسند للأنباء