قديمًا قالوا إن “كل ممنوع مرغوب”، وربما كانت هذه هي الخطيئة التي ترتكبها الحكومات عن غير قصد، حين تُقرر حظر نشر عمل أدبي ما، فما إن ينتشر خبر منع نشر إحدى الروايات، وحظر تداولها، حتى تنتشر نسخة منها، بسرعة البرق، بين القراء الذين يُثيرهم الفضول، ويريدون الوقوف بأنفسهم على سبب حظر النشر.
ولا يخرج سبب المنع – دائمًا وأبدًا – عن واحدٍ من الثالوث المحرم (الدين – الجنس – السياسة)، فالتجرؤ على الدين، أو الكتابة عن الجنس، أو الهجوم على الأنظمة الحاكمة، كفيل بقرع جرس الإنذار عند الرقيب، ليهرع من أجل منع انتشار هذه الأفكار الهدّامة – من وجهة نظره -.
دون أن يُدرك أن المنع، هو الدعاية الأقوى على الإطلاق، فالتاريخ يذكر أن العديد من الأعمال الأدبية والروايات أو حتى قصائد الشعر، التي مُنعت من النشر لفترة وحُظر تداولها، كانت على قائمة الأكثر مبيعًا، والأكثر قراءة، سواء بلغتها الأصلية أو بعد ترجمتها للغات عديدة.
وفي هذا المقال نستعرض بعض هذه الأعمال الأدبية، التي مُنعت من النشر، لكن لم يمنعها ذلك من الانتشار.
مزرعة الحيوانات
غلاف رواية مزرعة الحيوانات لجورج أورويل
تعد رواية مزرعة الحيوانات، التي صدرت عام 1945، واحدة من أكثر الروايات شهرة في التاريخ الأدبي، وسبب بقائها إلى الآن، هو أن جورج أورويل كتب رواية تصلح لكل زمان، ولكل مجتمع إنسانى، حيث إن الرواية تتعلق بالذات الإنسانية.
وواجه “أورويل” صعوبات جمة، عند محاولات طباعة مخطوط الرواية، حيث رفضها أربعة ناشرين منهم الشاعر “ت. إس. إليوت”، وحُذفت مقدمة المؤلف في جميع الطبعات تقريبًا، كما رأت قوات الحلفاء في أثناء الحرب العالمية الثانية أن الرواية بأكملها تمثل نقدًا للاتحاد السوفيتي، الذي كان دولة حليفة آنذاك، مما جعلها رواية غير صالحة للنشر في زمن الحرب، فأحجم الناشرون عن طبعها، وسحبت نسخها من المكتبات، وبعد نشر الرواية، مُنعت في الاتحاد السوفيتي وغيره من الدول الشيوعية، وتم منعها من قِبل الحكومة الكينية سنة 1991 ورفض مسرحية مأخوذة من الرواية لانتقادها القادة السياسيين الفاسدين، كما منعت الرواية في مدارس الإمارات العربية المتحدة سنة 2002 بدعوى احتوائها على نصوص أو صور مخالفة للقيم الإسلامية والعربية، وما زالت الرواية محظورة في كوبا وكوريا الشمالية.
ورغم ذلك، اختارت مجلة تايم سنة 2005، الرواية، كواحدة من أفضل مئة رواية بالإنجليزية، وجاء ترتيبها الـ 31 في قائمة أفضل روايات القرن العشرين التي أعدتها دار النشر Moden Library، وفازت عام 1996 بجائزة “هوگو” بأثر رجعي، وضُمِّنت في مجموعة “ذخائر كتب العالم الغربي”.
ولم تتعرض الرواية إلى فساد الثورة، على أيادي قادتها وحسب، بل إلى كيف يدمر الانحراف واللامبالاة والجهل والطمع وقصر النظر أي أمل في اليوتوبيا، وتبين الرواية فساد القادة كنقيصة في الثورة، وتبين كيف يمكن للجهل واللامبالاة بالمشكلات في الثورة، أن يؤدوا إلى وقوع فظائع، إن لم يتحقق انتقال سلس إلى حكومة الشعب.
وتعد الرواية مثالاً من الأدب التحذيري على الحركات السياسية والاجتماعية التي تطيح بالحكومات والمؤسسات الفاسدة وغير الديمقراطية، إلا أنها تؤول إلى الفساد والقهر هي ذاتها، بسقوطها في كبوات السلطة، فتستخدم أساليب عنيفة ودكتاتورية للاحتفاظ بها، وقد ضربت أمثلة واقعية من المستعمرات الإفريقية السابقة مثل جمهورية الكونغو الديموقراطية التي تولى عليها رؤساء محليون كانوا أكثر فسادًا وطغيانًا من المستعمرين الأوربيين الذين كانوا قد طردوهم.
فئران أمي حصّة
غلاف رواية “فئران أمي حصّة” لـ سعود السنعوسي
ما عادت الفئران تحومُ حول قفص الدجاجاتِ أسفل السِّدرة وحسب. تسلَّلت إلى البيوت. كنتُ أشمُّ رائحةً ترابية حامضة، لا أعرف مصدرها، إذا ما استلقيتُ على أرائك غرفة الجلوس. ورغم أني لم أشاهد فأرًا داخل البيت قط، فإن أمي حِصَّه تؤكد، كلما أزاحت مساند الأرائك تكشف عن فضلاتٍ بنيةٍ داكنة تقارب حبَّات الرُّز حجمًا، تقول إنها الفئران.. ليس ضروريا أن تراها لكي تعرف أنها بيننا! أتذكَّر وعدها. أُذكِّرها: “متى تقولين لي قصة الفيران الأربعة؟”. تفتعل انشغالا بتنظيف المكان. تجيب: “في الليل”. يأتي الليل، مثل كلِّ ليل. تنزع طقم أسنانها. تتحدث في ظلام غرفتها. تُمهِّد للقصة: “زور ابن الزرزور، إللي عمره ما كذب ولا حلف زور..”.
(اقتباس من الرواية)
بعد أيامٍ قليلة من صدور رواية “فئران أمي حصة” في فبراير 2015، للكاتب الشاب “سعود السنعوسي”، الفائز بجائزة البوكر العربية، عن روايته “ساق البامبو”، تم رفع النسخ من رفوف المكتبات في الكويت وتحويل الرواية إلى لجنة رقابة المطبوعات في وزارة الإعلام، حيث بقيت قرابة خمسة شهور قبل البت في قرار منعها من التداول لأسباب لم يُفصِح عنها الجهاز الرقابي، ولكن تناثرت شائعات، أن السبب الرئيسي لحظر النشر، هو تناول الرواية، المسألة الطائفية وتاريخ العلاقة السنية الشيعية في الكويت، ورغم أن قرار المنع تسبب في لغط عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مما دفع بعض أعضاء البرلمان الكويتي لتوجيه سؤال إلى وزير الإعلام عن أسباب المنع، فإن كل تلك المحاولات لم تنجح في إجازة الرواية رقابيًا.
وأعلنت الدار العربية للعلوم، الصادرة عنها الرواية، احترامها لهذا القرار، مؤكدة على أنها لن تتخذ أي إجراءات حيال قرار المنع؛ لأن لكل دولة قوانينها وهي تحترم القوانين، فمثلما تم منع الرواية في الكويت تم نشرها في السعودية ولكل دولة معايرها.
وجاءت “فئران أمي حصة”، نصًا واقعيًا من صميم الحياة، هَنْدَسه الروائي، على هيئة أحجية تناثرت في أروقة الماضي، كما جاء في شعار الرواية “الفئران آتية، احموا الناس من الطاعون”، مشيرًا إلى هذه الآفة الطائفية، التي تمددت وانتشرت، فطالت نقمتها كل شيء، مع الحروب التي مرت على المنطقة منذ الثورة الإيرانية عام 1979، مرورًا بالحرب العراقية الإيرانية 1980-1988، ثم اجتياح القوات العراقية للكويت 1990، ثم الغزو الأمريكي للعراق 2003 وصولاً إلى الزمن الافتراضي الذي تتحرك فيه الرواية عام 2020.
كما قسّم الروائي روايته إلى نوعين من السرد: النوع الأول ما رواه تحت عنوان: “يحدث الآن” من خلال الدقة في تحديد الزمن بالساعة والدقيقة، والنوع الثاني ما رواه تحـــت عـــنوان: “إرث النـــار”، مقــسمة إلى أربعة فئران، كل فأر يتألف من عدة فصول، في الفأر الأول، استخدم الكاتب في سرده ضمير المتكلم، أما في الفأر الثاني فاستخدم ضمير المخاطِب لنفسه وللآخرين، ثم عاد في الفأرين الثالث والرابع إلى السرد بضمير المتكلم.
الخبز الحافي
غلاف رواية الخبز الحافي لـ محمد شكري
حين نشر الأديب المغربي “محمد شكري”، عمله الاستثنائي “الخبز الحافي”، هاجمه الكثيرون بسبب اللغة السوقية الوضيعة وكم البذاءة التي حفلت بها أحداث هذه الرواية، دون أن يتداركوا أنه لم يدّع شيئًا ولم يختر أن يكتب ببذاءة لكسر “تابو” ما، كل ما في الأمر أن هذه الرواية كانت الجزء الأول من سيرته الذاتية، فدوّن فيها ما مرّ به دون أي مبالغة، في الفترة من 1935 وحتى 1956، ليُصبح كل ما فعله هو التعري – فقط – ووصف الحقيقة كاملة دون كذب أو تجميل.
وبالرغم من أن شكري كتب “الخبز الحافي” باللغة العربية عام 1972، إلا أن أول نسخة منشورة منها، كانت المترجمة للغة الإنجليزية على يد “فريدريك بول بولز” عام 1973، ثم ترجمها “الطاهر بن جلون” إلى الفرنسية عام 1981، وتُرجمت تباعًا في 38 لغة أجنبية، وقوبلت بترحاب شديد وحفاوة كبيرة في الأوساط الأدبية الغربية، حتى عُرف شكري كأديب عربيّ دون أن يُنشر له عمل بالعربية.
أقول: يُخرج الحي من الميت. يُخرج الحيّ من النتن ومن المتحلِّل، يُخرجه من المتخم ومن المنهار.. يُخرجه من بطون الجائعيـن ومن صُلب المتعيّشين على الخبز الحـاف!
اقتباس من الرواية
وبعد عشر سنوات من نشر الرواية بترجمة إنجليزية، نشرها شكري على نفقته الخاصة في المغرب، فأثار ضجة كبيرة ما بين إعجاب شديد ورفض كبير، وصل إلى حد المنع والقمع وحظر التداول، حيث رأى النقاد أنها رواية جريئة خارجة عن أعراف المجتمعات العربية ولا تتوافق مع تقاليدها، بالرغم من أن شكري لم يتجن على التقاليد العربية ولم يدّع شيئًا غير حادث، بل قصّ على القراء بكل أريحية قصة حياته منذ مولده وحتى بلوغه العشرين من العمر.
الدكتور زيفاجو
رواية الدكتور زيفاجو لـ بوريس باسترناك
“الدكتور زيفاجو”، رواية للكاتب والروائي الروسي الحاصل على جائزة نوبل “بوريس باسترناك”، تدور حول الطبيب زيفاجو الواقع بحب امرأتين خلال عقود الثورات والقمع الشيوعي، وقدَّمها المخرج ديفيد لين، في فيلم بنفس الاسم، وحصد به خمس جوائز أوسكار، تم منع الرواية وحظر تداولها من جانب الاتحاد السوفيتي منذ 1958 وحتى عام 1988، لانتقادها للبلاشفة وللشيوعية.
وقالت صحيفة “واشنطن بوست” إن هذه الرواية، كان لها دور في تغيير ساحة الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفيتي سابقًا، حيث أوضحت الصحيفة أن استخدام الرواية في الحرب جاء بعدما بعثت المخابرات البريطانية نسخ عديدة من الرواية إلى المخابرات الأمريكية.
وكشفت إحدى الملاحظات التي أرسلتها مخابرات الولايات المتحدة الأمريكية إلى أحد فروع أجهزتها المخابراتية المسؤولة عن مراقبة الوضع في الاتحاد السوفيتي أن هذه الرواية “ستساعد في خلق فجوة ثقة بين المواطنين الروس وحكومتهم، وذلك ليس فقط لأنها رواية مبهرة وكتبها الشاعر بوريس باسترناك بذكاء واتقان، بل لأنها أيضًا ممنوعة من النشر بأمر من الاتحاد السوفيتي”.
ومن هنا، بدأت المخابرات الأمريكية، في سرية شديدة، بطبع نسخ عديدة من الرواية لتوفيرها للقراء في الاتحاد السوفيتي بشكل سري، وبدأ القراء يتناقلونها بينهم حتى وصلت إلى أيدي القراء في موسكو وغيرها من المدن في شرق الاتحاد السوفيتي.
ونسقت المخابرات الأمريكية مع نظيراتها من المخابرات الهولندية والبريطانية والفرنسية والألمانية والبلجيكية لتوزيع الرواية في بلادهم دون ذكر لدور أمريكا السري في المساعدة على انتشارها، وبالرغم من خوف قراء الرواية الذين كانوا يفعلون ما بوسعهم لإخفائها بعد شرائها، إلا إنها انتشرت سريعًا حتى أعلنت المخابرات الأمريكية أن عمليتها “تمت بنجاح” في العاشر من ديسمبر 1958.
وجدير بالذكر أنه بعد فوز كاتب الرواية بجائزة نوبل للأدب، أرغمت السلطات الروسية كاتبها على رفض الجائزة، واعتبرت حصوله على الجائزة مناهضة لمصلحة الاتحاد السوفيتي، وشككت في وطنيته.
وتصدّرت الرواية قائمة أكثر الكتب مبيعًا لمدة ستة أشهر في صحيفة نيويورك تايمز.
المسخ
غلاف رواية المسخ لـ فرانز كافكا
“المسخ” أو “التحول”، رواية قصيرة كتبها الروائي التشيكي “فرانز كافكا”، وتُعد واحدة من أشهر أعمال القرن العشرين وأكثرها تأثيرًا، وتُدّرس في العديد من الجامعات والكليات في العالم الغربي، ووصفها الكاتب البلغاري إلياس كانيتي، بكونها أحد الأعمال القليلة الرائعة، وأحد أفضل أعمال الخيال الشعري المكتوبة في هذا القرن، بالرغم من أن النازيين والشيوعين منعوا نشرها إبان فترة صدورها، بسبب كآبتها وسوداويتها.
وتبدأ القصة التي نُشرت لأول مرة عام 1915، بتاجر مسافر اسمه “جريجور سامسا”، يستيقظ من نومه ليجد نفسه قد تحوّل إلى حشرة بشعة، ويصدم كافكا القارئ بهذا التحول الرهيب.
“استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نفسه قد تحول في فراشِه إلى حشرة هائلة الحجم”.
ليُجري كافكا هذا الحدث غير الواقعي، وغير محتمل الوقوع، في مجاري واقعية تمامًا، موهمًا القارئ بصدق هذا الكابوس، والذي تمنَّى “جريجور/ المتحول” أن يكون هذا مجرد حلمًا مزعجًا سرعان ما يستيقظ منه، لكنه أيقن بتوالي الأحداث استحالة تحقق أمنيته.
وأرهق كافكا القارئ بالتفصيلات الحياتية اليومية الكابوسية، التي تؤكد أن مجرد البقاء على هذه الصورة أمرًا مرعبًا وغير محتمل، وأن الانتحار هو الحل الوحيد الممكن.
وتعرضت رواية “المسخ” للكثير من النقد، وعلق روجيه جارودي على كافكا وعالمه السوداوي قائلاً: “إنه خلق هذا العالم بمواد عالمنا مع إعادة ترتيبها وفقًا لقوانين أخرى تمامًا كما فعل الرسامون التكعيبيون في نفس الفترة”.
وتنتمي رواية “المسخ” إلى المذهب العبثي في الأدب، وتعالج موضوعات مرتبطة بالحداثة كالاغتراب الذي يعد من أهم سمات المجتمع الحديث الرأسمالي.