ترجمة وتحرير نون بوست
كانت سنة 2015 سنة مروعة لأوروبا بشكل عام وللاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص. فقد استُهلّت هذه السنة بالهجوم الإرهابي ضد مجلة “شارلي إبدو” في باريس وانتهت بالهجوم الإرهابي الأكثر فتكا في نفس المدينة. وخلال السنة، كان على الاتحاد الأوروبي إيجاد حل للأزمة الاقتصادية في اليونان، والتي تهدد منطقة اليورو بأكملها. كما اضطر الاتحاد إلى التعامل مع التدفق الهائل للاجئين القادمين من منطقة الشرق الأوسط وغيرها من المناطق التي مزقتها الحرب. ولم تكن سنة 2016 أفضل من التي سبقتها. فقد هزت القارة الأوروبية مزيدا من الهجمات الإرهابية. لكن في المقابل، خفت وطأة أزمة المهاجرين، وذلك لأن الاتحاد الأوروبي استعان بتركيا، البلد الذي يعاني بحد ذاته من عدم الاستقرار. هذا إضافة إلى أنه للمرة الأولى في تاريخه، خسر الاتحاد الأوروبي أحد أعضائه، المملكة المتحدة، نتيجة للاستفتاء الذي سمي “البريكسيت“.
ساعدت كل هذه التطورات على دفع الحركات الشعبوية إلى مركز السياسة الأوروبية. فالتهديد الذي يفرضه الإرهاب وموجة المهاجرين من العالم الإسلامي، إلى جانب الاعتقاد السائد أن الاتحاد الأوروبي لا يمثل عاملا مساعدا، بل يمثل عائقا إذا ما تعلق الأمر بمثل هذه الأزمات، مَثلَ العاصفة المثالية من وجهة نظر الشعبويين، خاصة وأن هذه العاصفة عززت مكانة الشعبويين اليمينيين في عدة دول. والجدير بالذكر أن أهم المستفيدين هو رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الذي استغل المخاوف العامة لما قد ينجر عن معارضة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ومعارضة اعتقادها أنه على أوروبا أن تعتمد على “ثقافة الترحيب”. وفي الوقت نفسه، ساعدت أزمة منطقة اليورو على صعود الشعبويين اليساريين مكافحي سياسة التقشف في اليونان وإسبانيا.
لكن على الرغم من أن التهديدات التي استهدفت الأمن والاستقرار الاقتصادي والتي هزت أوروبا في السنوات القليلة الماضية قد تكون حافزا لمزيد انتشار الشعبوية، لكنها لم تنشئها. فأصل الشعبوية يعود لأبعد من ذلك، تحديدا لفترة التحولات الهيكلية في المجتمع الأوروبي وفي السياسة. وقد بدأت هذه التحولات في ستينات القرن الماضي ولأن المهتمين بالشعبوية المعاصرة عادة ما يغفلون عن جذورها التاريخية العميقة، فإن عديد المراقبين يفشلون في تثمين صمود الشعبوية المعاصرة وصمود الأحزاب المبنية على مبادئها.
صحيح أن الشعبويين صارعوا من أجل البقاء في السلطة إذا ما تمكنوا من الوصول إليها. لكن العوامل الاجتماعية والسياسية والاعلامية الموجودة في أوروبا الآن أصبحت في صالح الشعبويين أكثر من أي وقت مضى، خاصة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وبهدف التصدي للمد الشعبوي، على الأحزاب الأوروبية الرئيسية ونُخبها أن تستجيب للتحديات ببراعة أكبر من تلك التي لطالما استخدموها في العقود الأخيرة.
“الشعب النقي“
كما هو الحال مع كل كلمة تنتهي بالأحرف “ية”، يجب أن نقوم بتعريف كلمة شعبوية: الشعبوية هي الإيديولوجية التي تقسّم المجتمعات إلى مجموعتين متجانستين وعدائتين: “الشعب النقي” و”النخبة الفاسدة”. وهي أيضا الإيديولوجية التي تعتبر أن السياسة يجب أن تكون تعبيرا عن “الإرادة العامة للشعوب”. ومع وجود استثناءات قليلة، لطالما كان هذا النوع من التفكير مهمشا في السياسات الأوروبية طوال القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين أيضا. ويمكن أيضا أن نجد جوانب شعبوية في الحركات الشيوعية والفاشية، خاصة كونها حركات معارضة. لكن مثل هذه الإيديولوجيات (والأنظمة التي احتضنهم) كانت نخبوية بالأساس.
زعيم حزب القانون والعدل البولندي في خطاب سابق له في العاصمة وارسو
في العقود الأولى في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد إجماع واسع، تم تركيز السياسية الأوروبية الغربية على ثلاث قضايا رئيسية: الانحياز للولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، والحاجة إلى مزيد من الوحدة السياسية في القارة، وفوائد الحفاظ على دولة قوة ورفاه.
لم يترك الدعم الواسع والعميق لمثل هذه المواقف أي مجال لأي بدائل إيديولوجية بما في ذلك الشعبوية. لكن هذه الإيديولوجية بدأت في ترك بصماتها في ثمانينات القرن الماضي مع ظهور الأحزاب اليمينية المتطرفة مثل الجبهة الوطنية في فرنسا، والتي برزت على الساحة في أعقاب الهجرة الجماعية وارتفاع معدلات البطالة، متعهدة بالعمل على إعادة فرنسا لأمجادها.
أما الآن، يتم تمثيل الأحزاب الشعبوية في برلمانات معظم الدول الأوروبية، وأغلب هذه الأحزاب هي يمينية لكنها ليست كلها متطرفة. وهناك أحزاب يسارية أو أحزاب ذات توجه خصوصي، لذلك يصعب وضعها ضمن مجموعة الأحزاب اليسارية، على سبيل المثال، نذكر “حركة النجوم الخمسة” الإيطالية التي نجحت من خلال مزيج من إيمانها بضرورة حماية البيئة والتصدي للفساد ومعارضة المؤسسات.
وتجدر الإشارة إلى أنه في الانتخابات التي أجريت في الخمس سنوات الأخيرة، تحصل حزب شعبوي واحد على الأقل على نسبة 10 في المائة أو أكثر من الأصوات في 16 دولة أوروبية. وبشكل جماعي، سجلت الأحزاب الشعبوية نسبة 16.5 في المائة من الأصوات كمعدل، ووصلت هذه النسبة إلى 65 في المائة في المجر، لكنها لم تتعدى 1 في المائة في لوكسمبورج.
ويسيطر الشعبويين على أكبر حصة من المقاعد البرلمانية في ستة بلدان هي: اليونان، والمجر، وإيطاليا، وبولندا، وسلوفاكيا، وسويسرا. وفي ثلاثة من هذه (المجر، إيطاليا، وسلوفاكيا)، اكتسبت الأحزاب الشعبوية مجتمعة أغلبية الأصوات في الانتخابات الوطنية الأخيرة، على الرغم من أن الأحزاب الشعبوية الرئيسية في المجر وإيطاليا كانوا خصوما في الانتخابات. لكن الوضع في المجر هو الأكثر لفتا للانتباه، حيث أن الحزب الحاكم (فيدس) وأكبر الأحزاب المعارضة (جوبيك) هي أحزاب شعبوية. وأخيرا، فإنه في كل من فينلندا وليثوانيا والنرويج، تعدّ الأحزاب الشعبوية جزءا من الائتلاف الحاكم.
سياسة “تينا” (لا يوجد أي بديل)
تؤكد معظم التفسيرات التقليدية لهذا الاتجاه على أهمية عاملين اثنين هما: العولمة والأزمات الاقتصادية في أوروبا التي نتجت عن الأزمة المالية لسنة 2008. لكن التيار الشعبوي الحالي هو جزء من قصة طويلة ومتجذرة في فترة ما بعد الثورة الصناعية، والتي أدت إلى تغييرات أساسية في المجتمعات الأوروبية في الستينات. خلال تلك السنوات، أدى تراجع الصناعة والتراجع الحاد في ممارسة الشعائر الدينية إلى ضعف الدعم الذي كانت تتمتع به أحزاب وسط اليسار ووسط اليمين، والتي لطالما كانت تعتمد على الطبقة العاملة والناخبين المتدينين. وخلال الخمسة والعشرين سنة التي تلت تلك الفترة، شهدت أوروبا إعادة هيكلة تدريجية لسياستها، وبذلك، تخلى الناخبون عن دعمهم للأحزاب القديمة التي أصبحت غير إيديولوجية، أو كما كانت تصفها الأحزاب الجديدة: “ذات إيديولوجيات ضيقة نسبيا”.
رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل
وفي وقت لاحق، خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، تجمعت الأحزاب الأوروبية الرئيسية حول توافق على أجندة مشتركة جديدة تدعو إلى التوحد، وإلى إرساء مجتمعات متعددة الأعراق. كما دعت إلى إصلاحات اقتصادية ليبرالية جديدة.
تبني سياسة “أوروبا كقارة عالمية لكل الأجناس” وكقارة ذات حكم تكنوقراطي كانت في الأصل فكرة الأحزاب التي كانت تتبنى فكرة الديمقراطية الاجتماعية، وكثير منها مستوحاة من المفهوم الذي طرحه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير والذي يتعلق بحزب العمال الجديد والمفهوم الذي طرحة المستشار الألماني غيرهارد شرودر المتعلق “بالمركز الجديد”. أما الأحزاب اليمينية الوسطية التقليدية، فقد تجردت من هوياتها التاريخية مع تبني قادة مثل ميركل وديفيد كاميرون نهجا أكثر وسطية وواقعية فيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية والثقافية.
خلق هذا التقارب أرضا خصبة للشعبوية، حيث بدأ الناخبين في رؤية التشابه بين النخب السياسية بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية. وبالنسبة للعديد من الأوروبيين، يبدو أن النخب السائدة في كل الأحزاب تتشارك عجزا لا مفر منه، وذلك لاثنين من التحولات التي وقعت في النصف الثاني من القرن العشرين: من الحكومات الوطنية إلى الكيانات الدولية، مثل الاتحاد الأوروبي أو صندوق النقد الدولي، ومن المسؤولين المنتخبين ديمقراطيا إلى المسؤولين الغير منتخبين، مثل مسؤولي البنوك المركزية والقضاة.
في العديد من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، لم تعد القضايا الحيوية مثل مراقبة الحدود والسياسة النقدية مسؤولية حصرية للحكومة الوطنية، الأمر الذي أدى إلى ظهور ما يعرف “بسياسة تينا” وهو اختصار لعبارة “لا يوجد بديل”، وهي العبارة التي عادة ما تستخدمها النخب السياسية كحجة ليثبتوا أن مسؤوليتهم في الاتحاد الأوروبي أو صندوق النقد الدولي تفوق واجبهم الذي يتعلق بالاستجابة لمطالب الناخبين.
وفي الوقت نفسه، فإن ظهور الانترنت أنتج ناخبين مهتمين أكثر بالنقاشات السياسية وناخبين أكثر استقلالية في التفكير (ليسوا بالضرورة أكثر اطلاعا)، الأمر الذي جعلهم يتوجهون لمزيد من النقد دون احترام للنخب التقليدية. وعلى وجه الخصوص، أصبح الناخبون على بيّنة من حقيقة أن المسؤولين المنتخبين غالبا ما يلقون باللوم على عوامل خارجة عن نطاقهم (كالاتحاد الأوروبي أو العولمة أو سياسات الولايات المتحدة) كسبب لسياساتهم التي لا تلقى استحسان الشعوب، لكنهم عادة ما يتباهون بالسياسات التي أُثبتت نجاعتها.
هذا بالاضافة إلى أن الانترنت جعلت مهمة وسائل الاعلام في حراسة البوابات الإعلامية أمرا صعبا. وبذلك، أصبحت الخطابات الشعبوية، التي تحتوي على نفحة من الإثارة والاستفزاز، أمرا جذابا خاصة بالنسبة للمؤسسات الإعلامية. كما فتحت هذه التحولات الخفية والعميقة المجال لانطلاق الشرارة التي سببت الأزمة المالية العالمية والصراعات في الشرق الأوسط وتعزيز نمو الشعبوية.
سلطة المجر
كان لانتشار الشعبوية عدة عواقب مهمة بالنسبة لوضعية الديمقراطية الليبيرالية في أوروبا، على الرغم من أن الشعبوية ليست بالضرورة معادية للديمقراطية، لكنها ليست ليبيرالية، خاصة فيها يتعلق بتجاهلهما لحقوق الأقليات ولسيادة القانون. وعلاوة على ذلك، وكما يبينه الحال في المجر، فإن الشعبوية ليست مجرد استراتيجية حملة أو نمط من التعبئة السياسية. فمنذ سنة 2010، بدأ فيكتور أوربان في تنفيذ ما صرّح به سنة 2004 خلال خطاب له “محاولة جعل المجر دولة جديدة غير ليبيرالية تقوم على أسس وطنية”. وبذلك، قامت الحكومة عمدا بتهميش قوى المعارضة من خلال إضعاف مؤسسات الدولة الحالية (بما في ذلك المحاكم)، وإنشاء هياكل حكومية تتمتع بحكم ذاتي. وعلى الرغم من أن الوضع في المجر يعتبر استثنائيا، فإن نجاح أوربان ألهم وشجع عددا كبيرا من اليمينيين الشعبويين في الاتحاد الأوروبي، مثل مارين لوبان في فرنسا وياروسلاف كاتشينسكي في بولندا. وتجدر الإشارة إلى أن صعود التيار الشعبوي الليبيرالي لم يلق معارضة شديدة من الأحزاب السائدة التي فضلت البعض منها عدم التعليق بينما أشادت أحزاب أخرى بهذا التوجه.
زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان أثناء حملتها الانتخابية في باريس، 2015
في الحقيقة، لا يمكن مقارنة نجاح الشعبويين اليمينيين بنظرائهم اليساريين. ففي اليونان وتحديدا سنة 2015، كانت لمحاولات ائتلاف اليسار المتطرف لتحدي الاتحاد الأوروبي وفرض سياسات التقشف تنائج عكسية، واضطر رئيس الوزراء ألكسيس تسيبراس في نهاية المطاف إلى قبول سياسات التقشف والإصلاحات الهيكلية التي كان يحاول تجنبها ومنعها. ومنذ ذلك الوقت، لم يحاول أي حزب شعبوي يساري النجاح على المستوى الوطني باستثناء حزب “بوديموس” (نقدر) في إسبانيا. وعلى الرغم من أن اليساريين الشعبويين عادة ما ينتهجون سياسات أقل إقصائية من نظرائهم اليمينيين، إلا أن الاستقطاب السياسي في اليونان تزايد بشكل ملحوظ منذ دخول ائتلاف اليسار المتطرف السلطة في كانون التاني/يناير من سنة 2015. والجدير بالذكر أن العديد من المعارضين للحكومة يشعرون أنهم غير مرحب بهم خاصة من خلال الخطاب الرسمي للحكومة الذي يصفهم بأنهم أعضاء في “الطابور الخامس”. وكان تسيبراس قد اقترح العديد من القوانين التي يمكن أن تحد من إمكانيات المعارضة من خلال سيطرة الحكومة على التعليم وعلى وسائل الإعلام.
وحتى في الدول التي لا يوجد فيها حكومات شعبوية، فإن الشعبوية تعتبر روح العصر. وفي كثير من الحالات، قام الشعبويون بوضع جداول أعمال وأصبحوا من المسيطرين على النقاش العام، وذلك وسط صمت تام تقريبا للأحزاب الأخرى التي قد تعتمد في بعض الأحيان عناصر من الخطاب الشعبوي الذي عادة ما يحتوي على عبارات تشير إلى “الشعب” وإدانات “للنخب”.
حقبة شعبوية جديدة؟
يؤكد عدد كبير من العلماء أن الشعبوية هي ظاهرة عرضية، وأنه على الرغم من تولي الشعبويين السلطة إلا أنهم لطالما فشلوا بعد توليهم إياها، وذلك باستثناء أوربان الذي تولى السلطة منذ ستة سنوات ولازال قائدا للحزب الأكثر شعبية في المجر. وتجدر الإشارة إلى أن سلوفاكيا تشهد انتشارا واسعا للشعبوية التي أصبحت تسيطر على السياسية منذ سقوط الشيوعية. وفي الوقت نفسه، تستعد النمسا لتصبح أول دولة أوروبية في فترة ما بعد الحرب تنتخب رئيسا شيوعيا يمينيا وهو نوربرت هوفر من الحزب الحر. وقد تصدر هوفر كل استطلاعات الرأي إلى حد الآن.
أنتجت تغييرات هيكلية عميقة في المجتمعات الأوروبية موجة الشعبوية الحالية. ومن غير المرجح أن يكون لهذه التغييرات أية تنائج عكسية، لذلك، فإنه لا يوجد أي سبب يجعلنا نتوقع تلاشي الشعبوية في المستقبل القريب. علاوة على ذلك، فإن الأحزاب الشعبوية ما تنفك تنمو، في الوقت الذي أصبحت فيه أحزاب أخرى دون جدوى. وعلى الأحزاب الأخرى أن تعتمد استراتيجيات قصيرة وطويلة المدى للتعامل مع الواقع الجديد الذي فرض انقسامات داخلها. هذا بالإضافة إلى أنه أصبح من الصعب توقع استمرار حكومات الائتلاف مثل تلك القائمة في بلجيكيا والتي تسعى إلى استبعاد الأحزاب الشعبوية.
تجبر الحكومات في العديد من الدول التي تمثل فيها الأحزاب الشعبوية ثاني أو ثالث أكبر حزب، كل الأحزاب على أن تحكم معا، الأمر الذي يؤدّي إلى ظهور العديد من العوامل التي أدت إلى صعود الشعبوية الأوروبية. وفي الوقت نفسه، فإنه سيصبح من الصعب أن تحكم الأحزاب غير الشعبوية جنبا إلى جنب مع الأحزاب الشعبوية.
في السنوات الأخيرة، أبدت الأحزاب الشعبوية استعدادها للعمل كشركاء صغار في التحالفات الحكومية. لكن هذه الأحزاب أصبحت أكبر بكثير من شركائهم المحتملين. ومع ذلك، فإن الأحزاب الشعبوية تخضع لنفس القوانين السياسية الأساسية التي تعيق منافسيها. فبمجرد وصولهم إلى السلطة، عليهم أن يختاروا بين الاستجابة والمسؤولية، بين فعل ما يريده ناخبوهم وما يفرضه الواقع الاقتصادي وما تمليه مؤسسات الاتحاد الأوروبي. لكن أوربان على سبيل المثال أثبت أنه ناجح في القيام بكل هذه المهام في الوقت ذاته. لكن تسيبراس تعلم التعامل مع ضغوط المسؤولية وعانى أيضا من انخفاض كبير في شعبيته.
هذه المعضلة التي يواجهها الشعبويون تقدم فرصا للأحزاب الليبيرالية الأخرى، سواء كانت جديدة أو قديمة، لكن عليهم أن لا يهاجموا الرؤية الشعبية وأن يوفروا بدائل واضحة ومتماسكة. ويبدو أن بعض الشخصيات العامة قد فهموا هذا الأمر. على سبيل المثال، قدم آلان جوبي، المترشح للانتخابات الفرنسية، نفسه على أنه “نبي السعادة”، وقدم رؤية إيجابية لبلد أكثر تجانسا، وذلك على عكس صورة الخوف والسلبية التي قدمها منافسه الجمهوري نيكولا ساركوزي والشعبوية اليمينية قائدة الجبهة الوطنية مارين لونان التي قدمت خطابا يدعو للانقسام. أما في ألمانيا، فقد تجنبت ميركل ردة فعل عنيفة من القوى الشعبوية، على الرغم من الإحباط الكبير والنكسة داخل وخارج حزبها، وذلك من خلال الاعتراف بالعضب الشعبي. بينما تمسكت ميركل بأجندة سياسية واضحة ورسالة إيجابية “بإمكاننا أن نفعل هذا”.
باختصار، فإن صعود الشعبوية هي استجابة ديمقراطية غير ليبيرالية لعقود من السياسات الليبرالية غير الديمقراطية. لوقف المد الشعبوي، على السياسيين الاستجابة للنداءات التي تدعو إلى إعادة تسييس القضايا الحاسمة في القرن الحادي والعشرون، مثل الهجرة والاقتصاد الليبرالي الجديد، والوحدة الأوروبية، وإعادة هذه القضايا إلى العالم الانتخابي وتقديم بدائل متماسكة للعروض التي يقدمها الشعبويين والتي عادة ما تكون قصيرة النظر.
المصدر:فورين أفيرز