كل شيء تحت السيطرة ويتجه للأفضل! هذا هو ملخص الخطاب السياسي الرسمي الذي يحمله الإعلام السعودي للمواطن، بشأن أداء الاقتصاد الوطني.
والمتأمل في الساحة الإعلامية السعودية، يلاحظ أن الهاجس الأهم الآن أمام حكام المملكة، هو طمأنة الجمهور من جهة الأزمة المالية التي أثَّرت على الكثير من أوجه الدولة الريعية التي ظلَّت قائمة لعقود طويلة مضت، وبدت آثارها في تخفيض الإنفاق العام، وفرض المزيد من الرسوم على الخدمات، والرفع الجزئي للدعم عن المحروقات، وكذلك الرسوم المفروضة على حركة الدخول والخروج إلى ومن المملكة.
ولعل أهم هذه الرسوم، والذي يمس صورة وحالة الاقتصاد السعودي أكثر من غيره، ما أعلنه مكتب الخليج للاستشارات “جلف كونسالتينج هاوس”، أن المملكة قد رفعت رسوم تأشيرة الدخول للأعمال لمدة ستة أشهر مع دخول وخروج لعدة مرات، إلى ثلاثة آلاف ريال (حوالي 793 دولارًا) مقارنة مع 400 ريال (105 دولارات) في وقت سابق.
ولعل الأمر لا يتعلق فقط بتهدئة خواطر المواطن السعودي، في ظل توترات إقليمية على خلفية ثورات واحتجاجات اندلعت لأسباب اجتماعية ومعيشية بالأساس، وإنما كذلك السعي إلى احتواء انتقادات متزايدة لآل سعود بسبب سياساتهم الخارجية و”مغامراتهم” فيها، التي كلَّفت الخزانة السعودية مليارات الدولارات، ولا سيما فيما يتعلق بحرب طالت وفشلت في اليمن، ودعم الرياض للنظام الانقلابي المصري، وفي النهاية لم تحصل الرياض على ما تريده منه في أحد أهم ملفات السياسة الإقليمية للرياض.
ومن بين أهم الموضوعات الاقتصادية التي سعت الرياض خلال الفترة الماضية إلى تهيئة الرأي العام السعودي لقبولها، هو موضوع السندات الدولية التي طرحتها الرياض في إصدارات مختلفة، من أجل جمع عشرة مليارات دولار؛ حيث كان ذلك الإجراء أحد أهم العلامات على فشل الإجراءات التي تبنتها المملكة من أجل سد عجز نادر في الموازنة العامة للدولة، والذي وصل هذا العام، إلى مستوى مئة مليار دولار تقريبًا.
قد قُسِّم الطرح السعودي إلى ثلاثة مستويات زمنية، 5 سنوات، و10 سنوات، و30 سنة
وبجانب إجراءات التقشف الحكومي التي أعلن عنها العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز ومجلس الوزراء السعودي، قبل عدة أسابيع، ورفع الرسوم، كانت المملكة تُعوِّل على مؤتمر الجزائر الأخير للدول المنتجة للنفط، داخل أوبك وخارجها، في صدد رفع أسعار النفط المتهاوية، في نهاية سبتمبر الماضي.
وبالرغم من موافقة نادرة وغير متوقعة من جانب الإيرانيين على الاتفاق الذي تم التوصل إليه لتخفيض المعروض من النفط اليومي في السوق العالمية، إلى ما بين 32.5 ملايين و33 مليون برميل يوميًّا، من مستوى 33.5 ملايين برميل يوميًّا قبل الاتفاق.
إلا أنه يبدو أن عصر النفط الرخيص سوف يستمر لفترة طويلة، حيث كان من المرجح أن يقود هذا الخفض النفسي (ما بين نصف مليون إلى مليون برميل يوميًّا) إلى صعود نفسي بدوره لأسعار النفط في الأسواق العالمية، إلا أن ما حدث لم يكن يتوافق مع طموحات الرياض في الوصول بسعر البرميل إلى 60 دولارًا بحلول نهاية العام 2016م، حيث يدور سعر برميل النفط من خام برنت القياسي، حول مستوى 51 دولارًا.
السندات السعودية وسياسات الرياض الخارجية
في ظل هكذا أوضاع، أصدرت المملكة يوم العاشر من أكتوبر الجاري، أول تقاريرها الدورية عن حالة سنداتها الدولية الجديدة.
ومن خلال ما ورد في صحف ومصادر سعودية عدة، فإن هناك عدد من الملاحظات ذات الطابع السياسي في النشرة، وأخرى اقتصادية لا تقول بأن الاقتصاد السعودي بخير.
أولى الملاحظات ذات الطابع السياسي، هي مكان طرح السندات، حيث لم يتم طرحها من خلال بورصة لندن كما أُعلن في البداية، وتم طرحها من خلال السوق الأيرلندية.
وفسَّر مراقبون ذلك، بأن الرياض تعلن بذلك عن غضبها من لندن بعد الانتقادات الكبيرة التي وجهتها دوائر سياسية وإعلامية بريطانية، ومن بينها دوائر حكومية وشبه رسمية، إلى انتهاكات حقوق الإنسان في السعودية، و”الجرائم” التي ترتكبها قوات التحالف الذي تقوده الرياض في الحرب على اليمن، لدرجة وصلت أن دعت بعض الأوساط السياسية والحزبية البريطانية إلى فرض حظر على السلاح المصدَّر إلى السعودية.
يبدو أن عصر النفط الرخيص سوف يستمر لفترة طويلة، حيث كان من المرجح أن يقود هذا الخفض النفسي (ما بين نصف مليون إلى مليون برميل يوميًّا) إلى صعود نفسي بدوره لأسعار النفط في الأسواق العالمية
وكان الرد السعودي في حينه هو التهديد باتخاذ إجراءات تمس القطاع المالي البريطاني، وهو ما تقترب منه الخطوة السعودية الأخيرة بطرح السندات الجديدة من السوق الأيرلندية وليس بورصة لندن، كما كان مقررًا من قبل.
الملاحظة السياسية الثانية التي أبرزتها النشرة، وتقول بأن الرياض بدأت تنأى بنفسها عن المحور الأنجلو ساكسوني بالفعل في سياساتها وارتباطاتها الدولية، هو أن الحكومة السعودية وضعت بعض الاشتراطات للمشترين والمتعاملين على الإصدار، حيث فتحته للمشترين من المؤسسة كاملة الأهلية، والمستثمرين الأفراد، ولكن من غير الجنسية الأمريكية.
العلاقات السعودية الأمريكية شهدت أزمات حقيقية في الأعوام الأخيرة
وشددت الحكومة السعودية، بحسب “الشرق الأوسط” اللندنية، يوم 23 أكتوبر الجاري، على أن السندات لا يمكن بيعها وتداولها في السوق الأمريكية، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، كما أنه لا يمكن بيعها لصالح أشخاص يحملون الجنسية الأمريكية.
بل إن الحكومة السعودية حرصت على ألا يكون هناك أي علاقة للولايات المتحدة، مؤسسات وأفراد بهذه السندات، لدرجة أنها اشترطت بألا يقدم المستثمر الراغب في شراء هذه السندان، في بياناته حتى أي حساب بريد إلكتروني تم تسجيله في الولايات المتحدة.
هذه الاشتراطات تأتي بالرغم من السندات من الأصل معروضة بالدولار الأمريكي، ولكن يبدو أن الرياض – كما في حالة بريطانيا – قد أخذت رد فعلٍ، وإن كان “دفاعيًّا”، إزاء السوق المالية الأمريكية، كما هددت أوساط سعودية قبل وبعد إقرار الكونجرس الأمريكي لقانون “جاستا” الأخير الذي يتيح لذوي ضحايا أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، مقاضاة دول، من بينها السعودية، وطلب تعويضات منها، على خلفية “ارتباطها” بأحداث سبتمبر.
وكالة “بلومبيرج” الاقتصادية المتخصصة، أشارت إلى ما يؤكد أن الإجراء السعودي في هذا الصدد، سياسي الطابع ومقصود.
فبالرغم من أن الرياض تريد تغطية عاجلة لعجز في موازنتها اضطرها إلى التقشف ورفع مستوى الرسوم السيادية، وأن عائدات السندات ضعيفة، في ظل عدم توقع الرياض بتغطية عوائد أكبر لها حتى في فئة طول المدى، إلا أن الرياض فضلت عدم بيعها لهيئات ومستثمرين أمريكيين، بالرغم أنه – وفق “بلومبيرج” – غالبية الطلبات التي وردت على السندات، قد جاءت من مؤسسات مالية أمريكية.
أخبار غير مُطمئنة!
النشرة أشارت كذلك إلى أن هناك مشكلات بنيوية في المالية العامة السعودية، وأن الرياض لا تتوقع معالجتها قريبًا.
فمن توقُّع أولي بإصدار سندات بعشرة مليارات دولار، وصل الطرح إلى 17.5 مليارات دولار، تمت تغطيتها بالكامل وفق صحيفة “الاقتصادية”.
وبشكل عام، فقد قُسِّم الطرح السعودي إلى ثلاثة مستويات زمنية، 5 سنوات، و10 سنوات، و30 سنة، وتشمل الشريحة الأولى من القروض (فئة الـ 5 سنوات)، 5.5 مليارات دولار، بنسبة فوائد سنوية تبلغ اسميًّا، 2.375%، وفعليًّا 2.588%، والشريحة الثانية (فئة الـ 10 سنوات)، قدرها 5.5 مليارات دولار أيضًا بنسبة فوائد اسمية، 3.25%، وفعلية، 3.407%، أما الشريحة الثالثة (فئة الـ 30 سنة)، فتبلغ قيمتها 6.5 مليار دولار، بنسبة فوائد اسمية، 4.5%، وفعلية 4.623%.
والفارق بين معدلَيْ الفائدة الإسمي والفعلي، هو الفارق بين سعر صرف الدولار في الوقت الراهن، والمتوقع خلال فترة الإصدار (5 و10 و30 عامًا)، وهو ما يعني أن السعودية قد تراجعت عما سبق وأن أعلنته بأنها قد تتخلى عن ربط عملتها الوطنية، الريال، بالدولار الأمريكي.
وهي تهديدات كانت قد ظهرت على خلفية التوترات الأخيرة التي تصاعدت بين البلدين بسبب قانون “جاستا”، والسياسات الأمريكية العامة في أزمات المنطقة، ولا سيما الحرب في سوريا؛ حيث تتهم الرياض، واشنطن، بأنها تعمل على إذكاء نيران هذه الحرب وغيرها من الاضطرابات في المنطقة، من خلال تبني سياسات غير حاسمة تطيل أمدها.
إن الحاصل من جانب الرياض في مجال السندات الدولية، إنما هو جزء من ظاهرة عالمية حاصلة في هذا القطاع، شملت حتى أكبر الاقتصادات العالمية، بما فيها الاقتصاد الياباني الذي يتمتع بفوائض نقدية عملاقة
وبالرغم من التحسن الحاصل في أداء سوق المال السعودي على خلفية إعلان الرياض عن “إقبال غير مسبوق” على هذه السندات، إلا أن ارتفاع تكلفة التأمين على ديون السعودية لخمس سنوات، من 60 نقطة في 2015م، إلى 132 نقطة في الوقت الراهن (هذا الرقم يعني أن هناك احتمال 9% لحدوث تخلف سيادي عن سداد الديون من جانب الرياض خلال السنوات الخمس المقبلة)؛ هذا الارتفاع نقول دفع وكالة “فيتش” للتصنيف الائتماني، إلى إعطاء تصنيف “-AA” للسندات السعودية، مع نظرة مستقبلية سلبية، (وكالة “موديز” كانت متفائلة بصورة أكبر؛ حيث أعطت تصنيف “A1″ للسندات مع نظرة مستقبلية مستقرة).
ولكن هناك دوائر سعودية ترى أن الخطوة كانت ضرورية، حيث قادت إلى انتعاش “ضروري” في مؤشر أسهم المصارف السعودية، 3.5%، بعد أن هوى أكثر من 20% منذ شهر أبريل الماضي، وإيجاد مصدر جديد للتدفقات الدولارية، وهو ما قاد إلى نتيجتَيْن أساسيتَيْن، الأولى هي وقف الضغط على الريال السعودي أمام الدولار الأمريكي، وكذلك تقليص الضغوط على الاحتياطي السعودي من النقد الأجنبي.
البورصة السعودية كانت أول من استفاد من تغطية العطاء السعودي المستندي الأكبر في العالم
في القطاع المصرفي كذلك، قادت الخطوة السعودية الأخيرة، إلى تراجع أسعار الفائدة على القروض، بعد إيداع جزء من حصيلة الإصدار في المصارف المحلية.
ولكن ليس القطاع المصرفي فقط هو المستفيد، حيث استفاد قطاع الشركات السعودية من الإصدار، من خلال استخدامه كمرجعية قياسية لها، للحصول على تمويلات من الخارج.
كذلك استفاد قطاع المقاولات، لأن الحكومة السعودية وجهت جزءًا من عوائد السندات لدعم مدفوعاتها المستحقة عليها لشركات البناء والتشييد التي تعمل في تنفيذ عدد من المشروعات الكبرى في مجال الإسكان في المملكة في الوقت الراهن، حيث يُعتبر قطاع المقاولات الأكبر في الإنفاق الحكومي وفي المجال الاستثماري بشكل عام في المملكة.
هذه الإيجابيات في حد ذاتها تشير إلى مناطق سلبية كبيرة في الاقتصاد السعودي، لدرجة أن البعض قال إنها جاءت بمثابة “طوق نجاة” و”متنفس” للاقتصاد السعودي في الوقت الصعب الحالي الذي يمر به في ظل تراجع أسعار النفط وعدم توقع ارتفاعها بالشكل المُرْضي قريبًا.
فإذا كان هذا الإصدار قد قاد إلى هذه النتائج الإيجابية في أهم قطاعات الاقتصاد السعودي، مع توقعات باستمرار عصر النفط الرخيص، فإن هذا معناه أولاً، أن الاقتصاد السعودي في الأصل، يعاني من مشكلات هيكلية جمة، وثانيًا، أن غالبية الجهود المبذولة لتنويع مصادر الاقتصاد السعودي، وتخفيف طابعه الريعي؛ قد باءت بالفشل.
ويمكن كذلك استشفاف هذه النظرة السلبية من خلال تصريحات لوزير المالية السعودي، إبراهيم العساف، في لقاء أجراه معه الإعلامي داوود الشريان، ضمن برنامج “الثامنة مع الشريان” على قناة “إم. بي. سي”، حيث أعلن أن المملكة تعتزم كذلك إصدار صكوك إسلامية لتنويع مصادر التمويل، وعدم جمع الأموال فقط من السوق العالمي، حيث إن هذا الإصدار سوف يتم معه إدخال المواطنين السعوديين في دائرة الدعم المالي للاقتصاد السعودي، من خلال توفير فرص استثمارية منخفضة المخاطر للأفراد، إضافة إلى التنوع في الفرص الاستثمارية التي تٌعتبر ضعيفة في الوقت الراهن في السوق المالي السعودي.
العطاء المستندي السعودي خفف ضغوطًا كبرى على العملة الوطنية السعودية
هذا يعني أن تنويع مصادر الاقتصاد السعودي من خلال قطاعات استحداث قطاعات استراتيجية غير نفطية، أمر بعيد المدى على الأقل، كما أنه يعني أن الحكومة السعودية بحاجة عاجلة إلى تمويلات لإتمام خططها الاقتصادية وتغطيها نفقاتها.
كان هذا، إطارًا عامًّا توضيحيًّا، لأحد أهم ملفات الاقتصاد السياسي في العالم العربي مطروحة في الوقت الراهن، وتمس بتأثيراتها الاقتصاد السياسي والكُلِّي للعالم العربي، وتشغل – على أهميتها – الدوائر الاقتصادية العالمية.
ولكن يبقى الإشارة إلى نقطة مهمة، أثارها خبراء اقتصاديون من بنك سوسيتييه جنرال، ومن بينهم، ألبرت إدواردز، وآلان بوكوبزا، حيث أشارا إلى أن الحاصل من جانب الرياض في مجال السندات الدولية، إنما هو جزء من ظاهرة عالمية حاصلة في هذا القطاع، شملت حتى أكبر الاقتصادات العالمية، بما فيها الاقتصاد الياباني الذي يتمتع بفوائض نقدية عملاقة، تجعله في المركز الثاني في العالم بعد الصين، بأرصدة تبلغ 1.26 تريليون دولار في أرقام أبريل 2016م. (أرقام يونيو الماضي تشير إلى أن السعودية تأتي في المرتبة الرابعة برصيد 562 مليار دولار)، ضمن تحولات كبرى في سياسات المالية العامة على مستوى العالم بأسره