تمتلئ آيات القران بالحث على التفكر والتأمل في خلق الله، يقول الله عز وجل:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار﴾ [آل عمران:190و191]
وعلى الرغم من معرفتنا بتلك الآيات إلا أننا لم نترك لأنفسنا وقتًا كافيًا للتفكر والاستماع إلى ما تخبرنا به الطبيعة، لم نفكر في أن كل ما حولنا هو مخلوق مثلنا، جار لنا يشاركنا الحياة على تلك الأرض، يُرسل إلينا رسالات لا يعيها إلا من انتبه لها!
لا تنتظر أن تحدثك الطبيعة إلا إذا أعطيتها كُلك، أصغيت بكلتا أُذنيك وبقلبك إلى همساتها، فتحت أبواب رأسك وروحك إلى إشاراتها، بادلتها أطراف الحديث برقة؛ فحينها قد تبدأ بالاستماع إليها والاستمتاع بما تُخبّرك به، وفي رحلتي الطويلة حاولت الاستماع فسمعت، وحاول قلمي صياغة كلمات ورسائل لم تُكتب بقلم، بلا مُرسل إليه ولكن كل أملها أن تصل.
البحر
حيث يبدأ وينتهي بصرك، موضع قدميك على الشاطئ ومنتهى أفقك البعيد وإن بدا قريبًا، حيث يلتقي البحر مع السماء في مشهد عاطفي ينتهي باحتضان البحر للشمس، أعطت الشمس نفسها للبحر وبادلها البحر شعور الثقة حين قدمت الشمس قرابين الوفاء بإرسال أشعتها على سطحه مضيئة له منها من بداية مولدها إلى موعد التقائهما، فكان حري على البحر أن يثق بها وهذا حال الطبيعة، وفية وإن ظن البعض بغدرها.
حيث الرهبة والراحة، الراحة صباحًا في النظر إليه ومتابعة موجاته تضرب شاطئه حينًا بعد حين، مصدرة سلامها للجالسين الهائمين، ومصدر رهبة بالليل، حطم غرور المتكبرين وطغت موجاته على أحلام الكثيرين.
أن تصادق البحر فيناجيك بأسراره وتكاشفه أنت أيضًا بأسرارك فيحفظها ولا يخبر بها أحدًا.
السماء صديقة للبحر، فالطبيعة تنعكس عناصرها على بعضها البعض، فكما تنعكس الشمس على الأشجار فتنتج ظلالها، تنعكس السماء وسحبها على البحر في تدفقه وموجاته وحركاته وأصواته، فبالرغم من شفافية مياهه إلا أنه تابع لصديقه المنعكس عليه ومتأثر بلونه، وأن بدا لك البحر زاهيًا، فلتعلم أن بباطنه طبقات مظلمة لا تنكشف لكل ناظر بعيد، فقط من يقترب يدري، وهنالك من اقترب وذاب عشقًا، وهناك من اقترب ولم يعد بعد!
الشمس
رغم أنها تعم العالم بنعمتي الضوء والحرارة، إلا أنها رغم كونها واحدة، لها أوجه كثيرة، ورغم وحدتها يستقبلها البشر بأفكار متعددة، منهم من يظنها رمز القوة الطاغي الذي يلفح الوجوه في هيئة نار لا تُرى دون أن يُستطاع الوصول إليه ويُستغاث منه بالسحاب، ومنهم من ينتظرها مشرقة لتعلن مولد يوم جديد بعد غياب دام في ليل طويل، منهم من يحب مداعبتها في يوم ظهرت فيه خجلة ساترة بعض جمالها، ورغم كل تلك الأفكار المتضاربة، لم يستطع أحدهم أن يُمتع عيناه بالنظر إليها براحة، فرغم بُعدها تحرم صاحب الفضول من ملء العين بها، فقد حذرونا صغارًا أنه إذا حدقنا فيها فقد نُصاب بالعمى، فهل ما يحدث حقًا هو عمى أم رفض لرؤية أي شيء آخر بعد رؤية سطوتها!
ولكن على أي حال بلا شك فهي تضحية يأبى كل ذي عقل أن يغامر بها خاصة إذا كان المُخاطب من التحدي طفل صغير رُبي على تلك الأفكار، حين كنا نرسم الشمس صغارًا كنا نرسم لها أشعة ترسلها لتضيء كل جسم مظلم، ولكن حين كبرنا وجدنا أن ذاك الضوء الناتج عن الأشعة إنما هو ناتج من قلوبنا نحن، فالشمس رغم عدلها في توزيع أشعتها، إلا أننا وجدنا أنه رغم كل ذاك الضوء ما زال البعض يتيه في ظلامه! وحين كانت تغرب الشمس كنا نظن ذهابها منتظرين عودتها صباح غد جديد، إلا أننا وجدنا أنها ظلت موجودة دومًا وأننا نحن من كنا نذهب، وأنها هي التي تنتظر عودتنا، وأننا حين غبنا لم تتوقف الشمس عن مهمتها في إرشاد الناس، بل نحن على يقين أنها تُرشد الناس بإشراقها إلى طريقهم في مكان ما في هذا العالم.
الشجر
رمز للخير والسلام بطبيعتنا، وإن كانت الشمس مثال لقوة طاغية، فالشجرة كالأم الحنون التي تعطف على البشر لتحميهم من طغيانها، وهي مثال للرزانة في الطبيعة، فهي متماسكة قوية في جذورها، متزنة في فروعها، ورغم أن ثقلها البصري متمركز في أوراقها الخفيفة من حيث انتشارها المهيمنة على الصورة العقلية، إلا أن ثقلها الحقيقي يكاد يختفي بصريًا، وقد يعلمنا هذا الكثير، أن الباطن قد يكون أقوى من الظاهر، وأن ليس كل مختفٍ عديم القيمة، وليس كل ظاهر هو الأهم، فالمختفى أحيانًا يكثر أهمية عن الواضح أمام بصيرتنا، والظاهر قد يحاول إخبارك بالتعمق فيما ورائه لتفهم طبيعته!
“وحدي، تميل الأشجار لتُعانقني، وتضم الظلال قلبي” كاندي بولجار
ورغم أن الشجر تتنوع أشكاله وألوانه إلا أنها تظل أشجارًا! فالتأقلم مع البيئة المحيطة لا يعني التخلي عن الأصل، قال لي صديقي يومًا ما، لا تفكر أبدًا في التخلي عن أصلك، فالمجاورين لك لن ينزعوا أحكامهم المُسبقة عنك، ولا أنت حتى ستعيش في سلام داخلي مع نفسك، فالأشجار دومًا ترينا اتصالها بجذورها، ويوم أن تُقتلع من جذورها تموت!
حين كنا صغارًا أخبرونا بأن الأشجار تحدث بعضها البعض باهتزاز أوراقها، وقال آخرون أنها تسبح ربها بتلك الطريقة، هذا أمر لا نستطيع ملاحظته ربما ولكن الظاهر أنها ترفع يديها بالدعاء ما دامت ثابتة على الأرض، وبرفع أيديها تحمي مجهولين بظلها فتعطيهم دون أن تعرفهم.
قيل أن الشجرة تعلمنا الصبر، فتلك البذور الصغيرة تكبر مع الزمان وتعلو وكل ما يفصل بين تلك البذرة ونموها هو مسألة وقت! ويمكن أن تكون قد رأيت بعض الأشجار التي تنمو وحيدة في الصحراء أو ما شابه، فهي تنمو بغض النظر عن الظروف المحيطة بها، فكما قال ونستون تشرشل “تنمو الأشجار الوحيدة – إذا نمت – قوية”.