تتجه أنظار العالم هذه الأيام نحو الموصل ثاني أكبر مدينة عراقية، إذ إن العملية التي أطلق عليها اسم “الفتح” بدأت رسميًا في نهاية شهر مارس/ آذار الماضي في منطقة المخمور، بهدف تحرير إقليم نينوى ظاهريًا من “الدواعش”، وقد تشكل لهذا الغرض تحالف قوى دولية متنوعة التركيب، مدعوم بقوى عسكرية تنفيذية عراقية وكردية، إلا أن التساؤلات المتعلقة بتبعات المعركة كثيرة وجوهرية، فالخلافات الكامنة خلف محاربة ما يسمى “تنظيم الدولة” متعددة، تتساوى فيها ضيوم البشمركة الكرد، والميليشيات الشيعية، والجيش العراقي والمقاتلين السنة، ولا يتورع البعض عن القول أن الموصل هي “حلب القادمة”، ولا عن الحديث عن مصير جهنمي تنتظره المنطقة برمتها، لماذا كل هذا؟
إلى أين يسير العالم؟
تاريخيًا، بدأت الألفية الثالثة بالأحداث الإرهابية الفاجعة التي وقعت في نيويورك وواشنطن في الحادي عشر من سبتمبر 2001 ونسبت لإسلاميين؟ ثم توالت الأحداث الكبرى التي هزت العالم، من احتلال أفغانستان تحت دعوى محاربة الإرهاب من قبل أمريكا وحلف شمال الأطلسي، إلى احتلال العراق، وهما البلدان اللذان ارتكبت فيهما جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، إلى الحرب التي شنتها إسرائيل ضد قطاع غزة الفلسطيني على ثلاث مراحل، وإلى العمليات الإرهابية التي حدثت في مواقع شتى من العالم، وإلى ظهور تنظيم ما يسمى “داعش” في عدد من الدول العربية، فمزق العراق وسوريا، بينما وقف العالم أمام هذه الكوارث الإنسانية والحروب المدمرة عاجزًا عن التحرك لإنقاذ شعوب هذه البلدان من الإبادة، علمًا أن تقويم الاختلال الذي يهز استقرار العالم مسؤولية إنسانية جماعية، لكن “على من تقرأ زبورك يا داود”، وبالتالي ما يقع اليوم في العراق والموصل تحديدًا، تتمة لسيناريو تدميري مقصود، لا مثيل له.
الموصل رمز للتعايش الديني وتمازج الهويات والثقافات العراقية
الموصل اسم عالٍ وغالٍ، لمدينة عريقة تقع على ضفاف نهر دجلة، وتتميز بتاريخٍ غني ومتنوع، أطلق العرب عليها هذه التسمية في القرن السادس، بعد إتمام السيطرة على سهول بلاد ما بين الرافدين الشمالية، وكانت المنطقة في سالف العصر مركزًا للحضارات القديمة، تتميز بتراثٍ أثري استثنائي، ثم أصبحت الموصل في القرن العاشر رمزًا لتمازج الهويات والثقافات العراقية، إذ يتعايش فيها العرب والكرد والتركمان واليهود والمسيحيون والمسلمون والإيزيديون، كان الحضور الشيعي فيها ضعيفا دومًا، مما عزز الشعور لدى عددٍ من أهل المدينة أن ثمة “مؤامرة” تحاك ضدهم في بغداد، بهدف إبادتهم.
الموصل مدينة استراتيجية محل أطماع المحتلين والغزاة عبر القرون
على مدى القرون، أصبحت الموصل مدينة استراتيجية كبرى، على مقربةٍ من الحدود التركية والسورية، وتحولت في القرون الوسطى إلى مركزٍ تجاري معروف بالقماش والرخام وبضائع أخرى، كما كانت معبرًا للقوافل، مما أثار أطماعًا عديدة: فالمدينة نهبها المغول، واحتلها الفرس، ثم سيطر عليها العثمانيون، بعد أن كانت إمارة مستقلة في القرن العاشر.
تعاني الموصل من ضياعٍ في المرجعية السياسية، ويشكل هذا التيه صدى مباشرًا لوضع العرب السنة في العراق، والذين حرموا من كل تمثيلٍ سياسي منذ سقوط نظام صدام حسين في عام 2003
في بداية القرن العشرين، كانت الموصل من الناحية الإثنية عربية وكردية وحافظت على هوية خاصة بها، بدليل لهجة سكانها (التي تثير سخرية العراقيين)، وبشهادة النصوص ومذكرات مفكري تلك الحقبة، اتسمت إدارتها، السنية بمعظمها، بلمسةٍ “عثمانية” تطورت إلى قوميةٍ عربية، وكان للقومية العربية وقع قوي خلال ثورة 1959 التي قادها الكولونيل عبد الوهاب الشواف، حين تعرضت الموصل لقمعٍ شديد الدموية من قبل الجمهورية العراقية الناشئة والمقربة آنذاك من الشيوعيين.
اليونسكو تذكر بأن حماية التراث الثقافي جزء لا يتجزأ من حماية الحياة البشرية
بعد إعلان الحكومة العراقية أخيرًا، بدء هجوم كبير لتحرير مدينة الموصل، ذكّرت اليونسكو بمكانة الموصل الثقافية والتراثية ببيان قالت فيه “إن مدينة نينوى (الموصل) واحدة من أقدم المدن في بلاد الرافدين حيث تناقلت الشعوب على اختلاف خلفياتهم وعقائدهم الدينية تاريخ هذه المدينة عبر القرون بوصفها رمز للحوار بين الثقافات وحاضنة لهوية وتاريخ الشعب العراقي”، مطالبة “جميع الأطراف المشاركة بالعمليات العسكرية بحماية التراث الثقافي والامتناع عن استخدام هذه المواقع لأي أهداف عسكرية“، معلنة عن “استعدادها الكامل لتقديم الدعم اللازم، في إطار مجالات اختصاصها، لتعزيز حماية التراث الثقافي خلال وبعد العمليات العسكرية”، مؤكدة أن “الصراع في العراق وحركة التطهير الثقافي التي تقوم بها الجماعات المتطرفة المسلحة خلال السنوات الماضية، لا يمكن فصل حماية التراث الثقافي عن حماية الحياة البشرية، وإن هدم متحف الموصل وتدمير الآثار في نينوى لأحداث ستبقى في ذاكرة التاريخ كأمثلة على الهجمات الوحشية ضد تراث الإنسانية، ويجب ألا تنجو هذه الجرائم من العقاب، أمام العدالة الدولية”.
جوانب متناقضة، لم تذكر في هذه الحرب القذرة
ورغم وفرة التغطية لتلك المعركة، ثمة ـ حسب الخبيرة في الشأن العراقي من جامعة باريس الفرنسية، الدكتورة مريم بن رعد ـ ثلاثة جوانب متناقضة لم تذكر إلا قليلا:
أي مصيرٍ ستؤول إليه الموصل، حين نعلم أن مدنًا كالرمادي والفالوجة آلت إلى الخراب بحكم العمليات العسكرية الفائتة؟
ماذا سيحل بالعرب السنة، لا سيما في نينوى الكبرى؟ إلى أي مدى نستطيع التأكيد أن لمسألة الموصل كلمة الفصل في إنعاش (أو وأد) الدولة العراقية التي تعاني من إفلاسٍ هيكلي منذ سنوات طوال؟
ففي غياب إدارةٍ ملموسة، وطنيةٍ ومحلية، وفي غياب تمثيل سني سياسي فعلي، يبقى الاستقرار بعيد المنال، من هنا، قد يكون من الحصافة بمكانٍ إسماع الأصوات العراقية، لا سيما أصوات الموصل، فقرابة مليون مدني مهددون بالتهجير من جراء هذا الحصار، مما ينذر بحروبٍ أهلية أخرى، بعد الحرب الأهلية التي عاشها العراق منذ سقوط حكم حزب البعث، والأزمات المحلية من نقص المياه وانقطاع الكهرباء الأمر الذي وقف عليه كاتب هذه السطور في زياراته للعراق منذ بضع سنوات خلت، وكتب عنه وعن طيبة شعب العراق المضياف لولا الطائفية المقيتة.
ضياع في المرجعية السياسية للعرب السنة في العراق
وبغض النظر عن الوضع الحالي في المنطقة، تعاني الموصل من ضياعٍ في المرجعية السياسية، ويشكل هذا التيه صدى مباشرًا لوضع العرب السنة في العراق، والذين حرموا من كل تمثيلٍ سياسي منذ سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، “لا لشيء إلا لأن التمثيل السياسي الغائب وحده قادر على إعادة هذه الفئة من السكان إلى اللعبة السياسية الوطنية وتحقيق الاستقرار في المناطق التي تخرج عن سيطرة تنظيم داعش، وقد بنى هذا التنظيم المسلح قوته على هذا الفراغ الإيديولوجي والسياسي والمؤسساتي، كما تأسس على إسقاط اللائمة على نخب البعث، مما أدى إلى تمزيق النسيج الاجتماعي العراقي عمومًا”، كما استنتجته الباحثة.
على مدى القرون، أصبحت الموصل مدينة استراتيجية كبرى، على مقربةٍ من الحدود التركية والسورية، وتحولت في القرون الوسطى إلى مركزٍ تجاري معروف بالقماش والرخام وبضائع أخرى
واليوم، هل ستتمكن بغداد وهي تحت سيطرة الميليشيات الشيعية منذ عام 2003، إلى إعادة الوصل مع الموصل المقطوعة عن سائر البلاد منذ أكثر من سنتين، والتي قلما تحبذ تدخلات العاصمة بغداد؟ هل ستكتب حياة أخرى للعنف الطائفي الذي يدعو له تنظيم الدولة ويحول دون أية مصالحةٍ عراقية؟ هل يجب أن نخشى أن يؤدي تفكك المكون السني إلى هاوية سياسية ستجعل من الموصل ومدنٍ أخرى أراضيًا غير قابلةٍ للإدارة على المدى البعيد؟ “في ظل احتمالٍ كهذا، يبقى طموح الجهاديين مؤهلاً بطريقة لا متناهية لإعادة إنتاج نفسه”، كما تساءلت الخبيرة مريم بن رعد، في دراستها النفيسة.
الميليشيات والقوات الحكومية في العراق، انتهاكات خطيرة وجرائم حرب
من جهتها، قالت منظمة العفو الدولية، في تقرير جديد، إن الميليشيات شبه العسكرية والقوات الحكومية في العراق ارتكبت انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان، بما في ذلك جرائم حرب، وذلك بتعريض آلاف المدنيين الفارين من المناطق التي تسيطر عليها الجماعة المسلحة التي تطلق على نفسها اسم تنظيم “الدولة الإسلامية”، للتعذيب، والاعتقال التعسفي، والإخفاء القسري، والإعدام خارج نطاق القضاء.
كما يكشف التقرير، المعنون بـ “يعاقبون على جرائم تنظيم الدولة الإسلامية”: النازحون العراقيون يتعرضون للانتهاكات على أيدي الميليشيات والقوات الحكومية، أقول يكشف النقاب عن رد الفعل العنيف والمروع ضد المدنيين الفارين من المناطق التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية، وبما يثير المخاوف من مخاطر انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان يمكن أن تقع في سياق العملية العسكرية الجارية لاستعادة مدينة الموصل، التي ما زالت تخضع لسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية.
الاتحاد العالمي يناشد قادة العالم الإسلامي لنجدة الموصل
من جهته طالب الشيخ علي القره داغي، الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، قادة الدول العربية والإسلامية، بالتدخل لـ “دعم المدنيين” في مدينة الموصل حماية لـ “أعراضهم وأنفسهم وأموالهم”، وقال القرة داغي، إن “مشكلة الموصل كبيرة، حيث يسكنها حوالي ثلاثة ملايين نسمة من خيرة الناس تدينًا وخلقًا وشهامة، فأين يذهبون؟ لا سيما وأن الشتاء البارد القارص مقبل، داعيًا المقاتلين في الموصل إلى تسليم المدينة، إثر تحريرها من تنظيم داعش، إلى إدارة مدنية؛ حتى لا تتعرض للدمار والقتل وهتك الأعراض، مؤكدًا أن “المسلمين في كل مكان قلقون جدًا وواضعون أيديهم على قلوبهم خوفًا مما يمكن أن يحدث للموصل مثلما وقع للفلوجة العراقية وحلب السورية”.
مشيرًا إلى أن مدينة نينوى مدينة تاريخية حضارية ذكرت في القرآن، وهي المدينة التي تأسست منها نواة جيش نور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي الذي فتح بيت المقدس، فهي مدينة قديمة كانت على الضفة اليسرى لنهر دجلة قبل أن تندثر، ولاحقًا تم إنشاء مدينة الموصل على الضفة اليمنى للنهر ذاته، خاتمًا بيانه بقوله “رئيس وزراء العراق الطائفي حيدر العبادي أعلن انطلاق معركة الموصل وسط مشاركة من الحشد الشعبي الإرهابي المعروف بارتكابه جرائم حقوقية بحق سنة العراق”، كما وجهت جهات إسلامية وحقوقية أخرى نداءات مماثلة
كذلك قررت مراكز ومساجد أوروبية تخصيص خطب الجمع المقبلة لتحسيس الناس بما يدبر للبصرة وباقي دول المنطقة، مع شرح تاريخي مستفيض لأطماع الغرب الذي يتعامل مع حكامنا وفق مبدأ “فرق تسد”، ولا يسعنا في هذه السانحة إلا أن ندعو الله أن يحفظ الموصل وأهل الموصل شيعة وسنة، عربًا وأكرادًا وتركمانًا ، بل وحتى مسيحييها وإيزيدييها، أنه سميع مجيب، {وَاللَهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَ أَكْثَرَ النَاسِ لا يَعْلَمُونَ}.