“صناع السينما على دين ملوكهم”، مقولة أثبتت صحتها ومدى صدقها على مر التاريخ، منذ نشأة السينما المصرية بل والعالمية، حتى ظهور قانون الرقابة الفنية لأول مرة في مصر عام 1947، على غرار القانون الأمريكي الصادر عام 1946، والذي كان يمثل أكبر صور لوصاية الدولة على الإنتاج الثقافي بحجة الأمن والنظام العام، والجريمة، والجنس، والدين.
سطحية التناول
ومنذ بداية الثلاثينات من القرن الماضي، كانت السينما المصرية دائمًا في خدمة السلطة، ترسخ للوضع القائم، واقتصرت معالجتها.
لقضية استئثار فئة قليلة من الناس بمعظم ثروات البلاد، بقدر كبير من السطحية وبقصص حب ساذجة، تنتهي بزواج ابن الأكابر من الفتاة الفقيرة، أو العكس دون مشكلات، باستثناء عدد من الأفلام والكتاب والمخرجين غردوا خارج السرب، وانحازوا للشعب، وحرضوا على الثورة بدءًا من العام 1938 بفيلم “لاشين”، قبل أن تظهر بعدها موجة من الأفلام الناقدة للسلطة، بدأهما صلاح أبو سيف، ثم يوسف شاهين وكمال الشيخ وحسين كمال وتوفيق صالح وعلى بدرخان.
لاشين ونبوءة الثورة
كانت البداية كما قلنا بفيلم “لاشين” في العام 1938، من إخراج الألماني فريتز كرامب، وبطولة الشاب حسن عزت، الذي تعلم التمثيل في فرنسا، ولم يقف أمام الكاميرا إلا في هذا الفيلم، الذي كان بمثابة بدايته ونهايته معًا، وهو الفيلم الذي يمثل بداية دخول السياسة للسينما المصرية كإحدى البشائر الأولى للثورة، حيث تناول قصة حاكم متعدد العلاقات النسائية، ينشغل عن إدارة شؤون الرعية، ليولي الأمر لرئيس وزراء فاسد، قبل أن يحاول قائد الجيش لاشين التعرض له وإثبات فساده، فيتم إيداعه السجن، قبل أن يثور الشعب الذي كان قد ضاق ذرعًا بأفعال رئيس الوزراء الظالم، واستغل المجاعة للاستيلاء على السلطة، ليتم الإفراج عن لاشين بأيدي الشعب، وتعم العدالة في البلاد.
الفيلم طرح للعرض في العام 38، وبعد العرض الأول له في سينما ديانا تم منعه من العرض في السينمات، حيث اعتبر الملك فاروق الفيلم يلمح إلى شخصه، ولم ير النور بعدها إلا في منتصف الخمسينات بعد نجاح ثورة يوليو.
احتوت النسخة الأصلية للفيلم على نهاية غير التي تعرض الآن، تنتهي بخلع الملك “حسين رياض” وقتله، لكن الرقابة اعترضت على النهاية، فقام صانعو الفيلم بتغييره للنهاية التي هي موجودة الآن.
أفلام الثورة
بعد منع فيلم “لاشين” واعتزال منتجه الفن لخسارته الكبيرة في الفيلم، لم يجرؤ أي من صناع الأفلام في تلك الفترة على التعرض ولو من بعيد لفكرة الثورة، وعادت أفلام الرومانسية الركيكة والكوميديا، لتسيطر على دور السينما حتى قيام ثورة يوليو في العام 52 بعد 14 عامًا فقط من نبوءة “لاشين”، وقدم الكثير من المخرجين، عددًا كبير من الأفلام يبشرون فيها بجيل الثوار الجدد ضد صورة باشوات ما قبل الثورة، أشهرها فيلم “رد قلبي” وأخرى تفضح دور البوليس السياسي، مثل “غروب وشروق” و”في بيتنا رجل” و”لا وقت للحب” و”الأرض” و”القاهرة 30″، بالإضافة لسلسلة كوميديا إسماعيل ياسين في الجيش، وفي البحرية، وفي الطيران، وبعد العدوان الثلاثي تم إنتاج فيلم “بورسعيد”.
“شيء من الخوف”.. عبد الناصر وعتريس
بعد نكسة يوليو 67، حاول البعض التفريغ من كبت الشارع المصري، بأفلام تنتقد السلطة ومراكز القوى بصعوبة، خصوصًا وأن الدولة وقتها كانت قد أممت معظم شركات الإنتاج، وظهر فيلم “شيء من الخوف” في العام 69، من إخراج حسين كمال وهو مأخوذ عن قصة قصيرة للكاتب الكبير ثروت أباظة، ولكن الفضل الأكبر في الإسقاطات السياسية هي نتيجة التعديلات التي أدخلها عبدالرحمن الأبنودي على السيناريو.
الفيلم به الكثير من الرمزية، فعتريس يرمز للحاكم الديكتاتور، وأهل القرية يرمزون للشعب الذي يقع تحت وطأة الطاغية، بينما ترمز فؤادة لمصر، التي لا يستطيع الديكتاتور أن يهنأ بها!
لاقى الفيلم الكثير من الانتقاد وقت عرضه، وتم حظره نظرًا لما لمحت فيه الرقابة من تلميح لشخص جمال عبد الناصر، إلا أن جمال عبد الناصر قام بمشاهدته أكثر من مرة، قبل أن يجيز عرضه وقال عنه: “لا يمكن أن يكون الفيلم يقصدني فلو كنت بهذه البشاعة حق للناس أن يقتلوني”.
“ميرامار” والقرارات الاشتراكية
بعد هذا الفيلم ظهر فيلم “ميرامار” في العام 69، الذي هاجم بشدة القرارات الاشتراكية وقتها، والفيلم مأخوذ عن رواية نجيب محفوظ التي تحمل نفس الاسم، ويُعدّ من أوائل أفلام النقد السياسي لأوضاع مصر المعاصرة، رغم اختلافه مع نص الرواية الأصلي، فقد جاء الحوار مباشرًا وانتقد “الثورة”، بعكس ما جاء في الرواية التي كانت تحصر هذه الآراء على لسان الطبقة الرجعية، أو تحديدًا في هؤلاء الذين تضرروا من تلك القرارات، مما أثار الرقابة التي تعنتت في عرضه بحجة إسقاطاته الجنسية، حتى وصل الأمر إلى الرئيس عبد الناصر فشاهد العمل بنفسه مع أسرته، وطلب السماح بعرضه.
السادات ومراكز القوة
بعد وفاة عبد الناصر، سمح السادات للعديد من المنتجين والمخرجين بأفلام تنتقد الفترة الناصرية، في محاولة لمسح تلك الفترة بكاملها من تاريخ مصر، بدعوى القضاء على من أسماهم بـ “مراكز القوة”، وعمدت السينما وقتها إلى التركيز على كشف خفايا الاستبداد السياسي، والقمع الأمني في عهد عبد الناصر، في مقابل الحريات المتاحة في عهد السادات، بدأت بفيلم “الكرنك” ثم “إحنا بتوع الأتوبيس”.
زوار الفجر
https://www.youtube.com/watch?v=8DqU0gSxCss
هجوم السادات على عهد عبد الناصر لم ينتظر كثيرًا، وبدأت السينما في العام 71 بإنتاج أفلام تهاجم الحقبة الناصرية، ودور الفساد في نكسة يونيو، وكانت البداية بفيلم “زائر الفجر”، في العام 71، وحاول أن يفنّد الأسباب التي أدت إلى هزيمة 1967 بينها حالات الاعتقال والسجن لعناصر وطنية مخلصة، كانت تحاول إلقاء الضوء على عناصر الضعف والسلبيات التي أصابت أجهزة الدولة، وفق تصور السادات لمصطلح “مراكز القوة”.
الفيلم أثار ضجة كبيرة وقت عرضه، ومنع من العرض العام بعد أسبوع من عرضه، بسبب قوة تأثيره وحساسية الفترة واهتزاز الوضع السياسي وقت عرضه، وكانت تتردد فيه عبارات تقول على سبيل المثال: “البلد دي ريحتها فاحت.. عفنت.. بقت عاملة زي صفيحة الزبالة.. لازم تتحرق”!
“العصفور” ونكسة يونيو
https://www.youtube.com/watch?v=DGO6iRzFpIA
كان فيلم “العصفور” أحد أهم أفلام سينما السبعينات التي تناولت نكسة يونيو، من خلال التركيز على فكرة سرقة القطاع العام، يتناول الفيلم هزيمة 1967 من خلال مجموعة من الخونة وأصحاب مراكز القوى الذين يقودهم أحد المسؤولين السياسيين والذين ينهبون أقوات الشعب ليحققوا لأنفسهم الثراء الفاحش، باشتراكهم في سرقة معدات أحد مصانع القطاع العام في قرية بالصعيد.
من أهم المشاهد الدلالية التي تضمنها الفيلم وترتبط بهزيمة 1967، حينما يلتفّ الجميع حول أجهزة الراديو ليستمعوا إلى البيانات الكاذبة عن إسقاط طائرات العدو، حتى يظهر عبد الناصر في 9 يونيو على شاشة التلفزيون، ويعلن التنحي، لتنطلق الجماهير بالشوارع لتهتف “هنحارب هنحارب”، وفي الوقت ذاته ينطلق العصفور من قفصه الحديدي.
“الكرنك” واغتصاب مصر
بعد انتصار أكتوبر 73 لم تسلم فترة عبد الناصر من النقد الساداتي، وظهر فيلم “الكرنك” الذي يؤرخ للفترة منذ نكسة 1967 وانتهاءً بنصر أكتوبر 1973 ومرورًا بما يسمى بـ “ثورة التصحيح” في 15 مايو 1971، مركزًا على النقاط السوداء في تاريخ الثورة، وعلى سلبياتها من حملات اعتقال وتعذيب ومراكز القوى، مجسدة في رئيس المخابرات الذي أدى دوره الفنان كمال الشناوي.
وتضمن الفيلم مشهدًا لاغتصاب سعاد حسني على يد الشاويش داخل السجن، في إشارة إلى اغتصاب مصر على يد النظام.
“بتوع الأتوبيس” ومخابرات عبد الناصر
نفس تيمة السادات تكررت في “إحنا بتوع الأتوبيس” في العام 79، المأخوذ عن قصة حقيقية في كتاب “حوار خلف الأسوار” للكاتب الصحفي جلال الدين الحمامصي، وركز على ممارسات ضباط المخابرات، ودورهم في هزيمة يونيو، وتناول العمل انتهاك حقوق الإنسان في الحقبة الناصرية، من خلال التركيز على التعذيب وممارسات أجهزة الأمن وضباط المخابرات، لينتهي الفيلم بهزيمة 67، ومشهد تمرد المعتقلين على مأمور السجن والشاويش، ليعلن انتهاء هذه المرحلة وبداية مرحلة أخرى.
“الغول” ونفوذ السلطة والمال
مع اغتيال السادات وتسلم مبارك سدة الحكم في بداية الثمانينات، انبرى صناع السينما كسابقيهم لتشويه تلك الفترة، سيرًا على نهج السادات نفسه، وما فعله بحقبة عبد الناصر ، فقدموا سلسلة من الأفلام التي تسيء للسادات ونظامه مثل “الغول” الذي أنتج في العام 83، ويتناول قصة ابن رجل الأعمال الكبير الذي يقتل رجلًا مسنًّا، ويتسبب في إعاقة لفتاة رفضت أن تشاركه نزواته، مركزًا على فكرة أن السلطة والنفوذ قادران على حماية القاتل، ومعاقبة كل من يفكر في قول الحقيقة، الأمر الذي يضطر البطل “عادل إمام” إلى تنفيذ القانون بنفسه وقتل “الكاشف” صاحب السلطة، في إشارة لغضب وحنق الشعب من تسيد أصحاب النفوذ والسلطان، بعد سياسة الانفتاح في عهد السادات.
“البرئ”.. وعساكر الأمن المركزي
في العام 86 ظهر فيلم “البرئ”، الذي أظهر لمحات من الفساد السياسي في مصر بعد سياسة الانفتاح، وبالتحديد خلال فترة ما سميت بانتفاضة 17 و18 يناير 1977، وتناول قضية السجن السياسي في مصر، وكيف يتم استغلال جهل الشباب الملتحق بالجيش في تعذيب الخصوم، خصوصًا جنود الأمن المركزي، وبعد عرض الفيلم بأيام قليلة تم حظره وحذف أجزاء تصل إلى 6 دقائق من نهايته، ولم يتم عرض النهاية الأصلية إلا بعد 19 عامًا.
تختلف النهايتان جذريًا، فبينما تركز النهاية الأولى على صورة الجندي الأمي “أحمد سبع الليل”، من موقعه في برج الحراسة، الناي في يد، والرشاش في اليد الأخرى، ويرى السيارات قادمة تحمل المزيد من المعتقلين، فيرفع الرشاش ويصرخ صرخة اعتراض، بعد أن استفاق وأدرك أن المعتقلين السياسيين ليسوا هم أعداء الوطن كما أفهموه، أما النهاية الأصلية فيطلق فيها “سبع الليل” الرصاص على الضباط والجنود، ويلقى مصرعه بدوره على يد أحد الجنود، بينما المعتقلين يدقون أبواب سيارات النقل الكبيرة من الداخل ويطالبون بالحرية.
“كتيبة الإعدام”.. وشفرة القدر
آخر أفلامنا هو فيلم “كتيبة الإعدام” في العام 89، والذي تبدأ أحداثه في مدينة السويس، أثناء حصار العدو الإسرائيلي لها، والذي يجمع المعلومات عن رجال المقاومة الذين رفضوا هجر المدينة، وعن طريق أحد عملاء العدو الإسرائيلي “فرج الأكتع” الذي سيصبح صاحب سلطة ونفوذ فيما بعد، وعرف جنود الاحتلال أن سيد الغريب هو الرجل الذي جمع حوله أبطال المقاومة، فوضعوا خطة عن طريق عميلهم للتخلص من سيد وابنه والآخرين معه في أثناء الليل، ونجحت الخطة وقتلوا سيد وآخرين، ولم يبق حيًا سوى حسن عز الرجال، فتحوم الشبهات حوله، ويتهم بالتواطؤ مع العدو الإسرائيلي لقتل سيد وابنه، والاستيلاء على المبلغ الضخم لمرتبات قوات الجيش المصري، والتي كان سيوصلها سيد الغريب لرجاله، لكن ليس معه دليل على براءته، ليسجن 14 عامًا، وهنا يقدم الفيلم إسقاطًا لكيفية وصول الناس إلى السلطة في مصر.
الغريب في الفيلم هو لقطة النهاية التي ركزت على رباعي كتيبة الإعدام التي اقتصت من الأكتع بقتله، ووقفوا داخل قفص المحاكمة بالترتيب شوقي شامخ ومعالي زايد ونور الشريف وممدوح عبد العليم، ينتظرون الحكم عليهم ضمن أحداث الفيلم، وهو نفس ترتيب رحيلهم، وكأن اللقطة حملت شفرة للقدر، حيث توفى الفنان شوقي شامخ في السادس والعشرين من مارس عام 2009، أعقبته الفنانة معالي زايد في نوفمبر عام 2014، والفنان نور الشريف، في الحادي عشر من أغسطس 2015، ثم الفنان ممدوح عبد العليم.