مرة أخرى تطفو على سطح الأحداث في تونس قضية واحات جمنة، تلك القرية التي كانت منذ أشهر قليلة ماضية مجرد قرية منسية مثلها مثل عشرات القرى الأخرى التي عانت لسنين طويلة من تهميش الدولة في تونس، غير أن جمنة وبعزم أهاليها قررت في لحظات شموخ أن تغير الواقع لتحدث ثورة ناعمة، كشفت فيها عن رقي تفكير المواطن التونسي البسيط القادر على حماية ثرواته وعلى تقديم نموذج جديد من تمتعهم بحس المواطنة الذي افتقده مجمل أهل السلطة والذين لم يستسيغوا أن تكشف جمنة عن تواطئهم مع الفساد لسنين طويلة، حتى أصبحت واحات جمنة في الجنوب التونسي الأسطورة التي عرت فساد الطبقة الحاكمة في تونس.
لم تعد حكاية جمنة مخفية عن أحد منذ اليوم الذي قرر فيه أهالي هذه المنطقة الانتفاض لإعادة حقهم المسلوب منذ سنين طويلة عندما كانت الدولة تستفيد من “ضيعة ستيل” التي تنتج كميات مهولة من أجود أنواع التمور في تونس لكرائها مقابل مبالغ ضعيفة جدًا لرجال أعمال متنفذين على علاقة قرابة ببعض رجال السلطة، ليستفيدوا من المبالغ الضخمة التي يوفرها لهم بيع صابة تمور هذه الضيعة، حيث قرر سكان جمنة بعد الثورة إعادة أرضهم والعمل من أجل تحسين إنتاجها وبيعه بالسعر الحقيقي الذي يتلاءم مع ضخامته واستغلال تلك المداخيل في تحسين قريتهم، حيث حسنوا من وضعية مدارسها وطرقاتها واعتنوا بالمستشفى المحلي الذي تناست الدولة أن تقوم بتحسينه واشتروا له المعدات الطبية اللازمة، وعملوا على تأهيل سوق المدينة الأسبوعي لتصبح سوقًا عصرية تجتذب التجار من مختلف أنحاء ولاية قبلي الجنوبية، كما دعموا الجمعيات الثقافية والرياضية الموجودة في كامل الولاية وساعدوا العائلات المعوزة في المنطقة، كل ذلك فقط عبر حسن استغلال عائدات مداخيل هذه الضيعة عن طريق إنشاء جمعية تعتني بالضيعة سموها “جمعية حماية واحات جمنة” والتي ساهمت عبر حسن إدارتها في توفير عشرات مواطن الشغل الجديدة في الضيعة.
اليوم وبعد أن نجحت تجربة الاقتصاد التضامني الذي قام به أهالي جمنة وكشفوا عبره عن إمكانية تحسين وضعية عديد من القرى في تونس شرط القضاء على الفساد المستشري والمحسوبية واستغلال الثروات الموجودة بطريقة محكمة، لم تجد الحكومة في تونس إلا أن تعلن عن نيتها في القضاء على هذه التجربة الفريدة والدخول في حرب مع أهالي جمنة من أجل استعادة سيطرة الدولة عليها بتواطؤ واضح من أغلب الأحزاب في تونس خصوصًا من الأحزاب الحاكمة.
حيث قررت الحكومة التي وصفت بحكومة الوحدة الوطنية تجميد الحساب البنكي لجمعية “حماية واحات جمنة” المشرفة على هذه الضيعة، وتجميد الحساب البنكي للتاجر الذي فاز بالبتة التي بيع فيها منتوج التمور والتي أقيمت بشكل علني أظهرت فيه الجمعية شفافية كبيرة في معاملاتها، ومرة أخرى أظهر سكان جمنة رقيًا حضاريًا كبيرًا في مواجهة هذه الهجمة الحكومية، حيث اختاروا طريقًا آخر للاحتجاج على هذا التعسف والظلم غير تلك الطرق التي تعودنا عليها في عديد من الاحتجاجات الأخرى مثل قطع الطريق وإيقاف الإنتاج وغيرها، بل اختار أهالي جمنة حلاً سلميًا فريدًا لإبلاغ صوتهم واحتجاجهم للحكومة تمثل في سحب جميع أموالهم من البنوك التونسية وترك الحكومة في حيرة من أمرها حيث لم تتعرض إلى مثل هذا النوع من الاحتجاج في السابق.
ورغم الدعم الكبير والتضامن الواسع الذين حظيت بهما جمعية حماية واحات جمنة من مختلف شرائح الشعب التونسي خصوصًا من غير المتحزبين، فإن الحكومة التونسية برئاسة يوسف الشاهد ما زالت مصرة إلى اليوم على إيقاف ما وصفه بعض وزرائها بالمهزلة، ومطالبين بتطبيق القانون ضد أهالي جمنة متعللين بالخطر الذي يهدد وحدة الدولة، وبما وصفوه بالاستيلاء على الأملاك العامة، رغم أننا لم نر هذه المواقف الحازمة في قضايا أخرى فاحت منها روائح الفساد وفيها من التعدي على ممتلكات الدولة واستغلالها لمصالح فردية الشيء الكثير، حتى إننا لم نر أي نية من الحكومة الحالية لفتح ملف الشبهات حول كراء هذه الضيعة في السابق وتبيان السبب وراء كرائها بسعر رخيص جدًا مقارنة بمساحتها الواسعة وحجم إنتاجها، وعن إمكانية حدوث تلاعب ومحسوبية في صفقة فوز المستثمرين السابقين بهذه الأرض، إلا أن الحكومة لم تكن سباقة إلا في محاولة إيقاف هذه التجربة وتهديد أهالي جمنة وأعضاء جمعية حماية واحات جمنة بسوء العاقبة في صورة مواصلتهم إدارة هذه الضيعة.
ورغم كل هذه المعطيات التي لا تخفي حقيقة الإشكال القانوني والسياسي الذي أثارته واحة جمنة، فإن الجمعية أكدت أنها لا تنازع الدولة في ملكيتها للأرض، وأنها مستعدة لكرائها من الدولة لاستغلالها لصالح القرية وهو ما يؤكد النية السليمة من قبل أهالي جمنة في عدم تغييب الدولة، إلا أن الحكومة صمت آذانها عن كل هذه المقترحات ولم تدخل في أي تفاوض جدي من أجل إيجاد حل لهذه القضية التي عرت الفساد الذي كان ينخر جميع مفاصل الدولة في تونس والذي كان يحصل بمباركة من السلطات وتساهل منها.
ولعل الحل الوحيد الذي بقي اليوم أمام الحكومة خصوصًا مع إصرار أهالي جمنة على مواصلة هذه التجربة الفريدة وحقهم في استغلال هذه الأرض من أجل المصلحة الجماعية، يضع الحكومة أمام رهان حقيقي لإثبات جديتها في التعامل مع هذه القضية والعمل بالنصائح التي أطلقها الكثيرون والتي دعت الحكومة إلى التخلي عن التصلب في حل هذا الملف والعمل على فسخ العقد السابق مع المستثمر الذي كان يستغل هذه الأرض، حيث ينص هذا العقد في أحد فصوله على إمكانية أن تسترجع الدولة الأرض قبل حلول الأجل “لإنجاز مشروع مصرّح به ذي مصلحة عموميّة”، وهو ما يسمح لأهالي جمنة باستغلال الضيعة في شكل تعاضديّة ينشئونها حتى تخرج كل الأطراف راضية من هذه الأزمة سواء كانت الدولة أو أهالي هذه القرية الذين عملوا طوال أربع سنوات بعد الثورة على حماية واحتهم وتطوير إنتاجها، وحتى تتواصل هذه التجربة التي لا تتعارض مع الدستور الذي ينص في فصله الثاني عشر على مبادئ “العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة والتمييز الإيجابي”.