القارئ لردود الفعل العربية والدولية حيال معركة الموصل يجد أن هذه المعركة وإن كانت جغرافيًا على أرض عراقية، إلا أنها تمثل أهمية بالغة لبعض الدول الغربية والإقليمية الباحثة إما عن مصالحها في الحصول على جزء من “التورتة” النفطية العراقية، أو المتخوفة من تهديد أمنها القومي.
ومن الملاحظات التي أثارت انتباه المحللين داخل العراق وخارجها، الاهتمام الإسرائيلي بسير الأحداث داخل الموصل، حيث يراقب الكيان الصهيوني تطورات الأحداث يومًا بيوم من خلال التغطية الإعلامية المكثفة عبر قنواته الرئيسية، ما أثار الريبة والشك لدى البعض، وهنا يأتي السؤال، ما أهمية المعركة بالنسبة للاحتلال؟ وماذا تمثل له؟ ولماذا هذه المتابعة القوية للأحداث؟
الموصل.. المعركة الفاصلة
لم تكن معركة تحرير الموصل من قبضة تنظيم “داعش” الإرهابي، كبقية المعارك التي تسعى فيها الجيوش العربية إلى القضاء على هذا التنظيم المتطرف، إذ تعتبر مدينة الموصل الذي أعلن منها أبو بكر البغدادي، زعيم التنظيم، ولادة دولة الخلافة المزعومة، أحد مركزي الثقل بالنسبة لتنظيم الدولة في كل من سوريا والعراق، إضافة لما تحتله من مكانة جغرافية استراتيجية هامة، فهي حلقة الوصل بين تركيا وسوريا والعراق بما فيه إقليم كردستان، كما أنها تقع على طريق الحرير الجديد الذي تسعى إيران لإنشائه منذ عقود ليصل إيران بالبحر المتوسط، لذا تسعى جميع الأطراف المتأثرة بنتائج معركة الموصل للاشتراك بها لتأمين مصالحها.
كما تكتسب هذه المعركة أهميتها من حجم القوات المشاركة سواء من تحالف الجيش العراقي، والذي بلغ قرابة 90 ألف مقاتل من عناصر الجيش الحكومي ومقاتلي البيشمركة الكردية والفصائل غير النظامية، أو من التنظيم الإرهابي نفسه، والذي من المتوقع أن يشارك بقرابة 17000 جندي، منهم 3600 مقاتل أجنبي، و13400 مقاتل عربي متفرقين في الأقضية ونواحي المدينة.
وتمثل معركة الموصل عنق الزجاجة للتنظيم الإرهابي، فإن خسرها فقد جزءًا كبيرًا من نفوذه داخل العراق، ومن ثم تولي القوات الدولية المشاركة أهمية كبرى في تحرير الموصل من عناصر التنظيم مهما كان الثمن، وهو ما استقر في أذهان قيادات “داعش” التي بدأت بالفعل الاستعداد للمعركة مبكرًا من خلال حفر الخنادق وإنشاء السور الترابي وإعداد المواقع القتالية وحرق بعض آبار النفط، علمًا بأن التنظيم قد مني بخسارة ما يقرب من 800 كم من الأراضي المسيطر عليها منذ بدء المعركة الإثنين 17 أكتوبر الجاري وحتى الآن.
الإعلام الإسرائيلي يتابع
لم تول إسرائيل أي حدث اهتمامًا إعلاميًا بهذه الكثافة كما ولته لمعركة الموصل، ففي الوقت الذي منيت به دول المنطقة خلال السنوات الأخيرة بأزمات وكوارث ومحطات فارقة في تاريخها، لم تكلف تل أبيب نفسها الوقت أو الجهد لنقل هذه الأحداث بهذه الكيفية التي تعاملت بها مع سير الأحداث في معركة تحرير الموصل من قبضة داعش.
والمتابع للإعلام الصهيوني يجد أن معركة الموصل قد تصدرت عناوين العديد من الصحف الإسرائيلية ذات الانتشار الكبير، في مقدمتها، معاريف ويديعوت أحرونوت، وتمحورت التغطية في أن قيمة وأهمية هذه المعركة تندرج تحت كونها المحدد لمستقبل العراق، والراسم الأبرز لملامح دوره في الشرق الأوسط فيما بعد.
لأول مرة في تاريخ العراق نجد أن هناك قناة إسرائيلية تغطي الأحداث بهذه الجرأة والوضوح، حيث ظهرت مراسلة القناة الثانية العبرية، إفرات لختر، وسط مقاتلي البيشمركة، وهي تحمل “مايك”القناة وعليها “اللوجو” الخاص بها
والمثير للتعجب والقلق في آن واحد أن تفرد أكبر قناتين إسرائيليتين إخباريتين مساحات كبيرة للتغطية الحية والنقل المباشر لتطورات المعركة من داخل الموصل عبر عدد من المراسلين، كذلك إجراء لقاءات حصرية من داخل الأراضي العراقية.
ولأول مرة في تاريخ العراق نجد أن هناك قناة إسرائيلية تغطي الأحداث بهذه الجرأة والوضوح، حيث ظهرت مراسلة القناة الثانية العبرية، إفرات لختر، وسط مقاتلي البيشمركة، وهي تحمل “مايك “القناة وعليه “اللوجو” الخاص بها، وأجرت معهم بعض المقابلات ورافقتهم إلى بعض مناطق القتال، في سابقة إعلامية تحمل العديد من الدلالات والمؤشرات، علمًا بأن الإعلام الإسرائيلي حين كان يسعى لتغطية أي حدث في أي دولة عربية في السابق، كان يدخل إليها متنكرًا تحت اسم وسيلة إعلامية أخرى، ويخفي هويته وهوية قناته وطاقم العمل.
هذا التواجد الإعلامي المكثف من قبل الكيان المحتل، أثار العديد من التساؤلات حول الأهداف الحقيقية وراء الاهتمام الإسرائيلي بمعركة الموصل بالتحديد دون بقية المعارك الأخرى، وقبل الحديث عن تلك الأهداف لا بد من إطلالة سريعة على العلاقات الإسرائيلية الكردستانية.
العلاقات الإسرائيلية الكردستانية
العلاقات الإسرائيلية الكردية وإن كانت سرية إلا أنها تتمتع بقدر كبير من التعاون وتطابق الرؤى حيال الكثير من الملفات، وتعود بدايتها إلى عام 2008 حين صافح الرئيس العراقي السابق ذو الأصول الكردستانية جلال طالباني، رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، إيهود باراك، خلال مشاركتهما في مؤتمر الاشتراكية الدولية باليونان.
ولا تخفي تل أبيب دعمها المتواصل لأكراد العراق، وهو ما تمثل في التعاون المتبادل في بعض المجالات الاقتصادية وفي مقدمتها الطاقة والنفط، حيث أرسل الأكراد عددًا من شحنات النفط لإسرائيل خلال العامين الماضيين، علمًا بأن ما يقرب من 75% من واردات إسرائيل النفطية تأتي من كردستان العراق، ما ترتب عليه إعلانًا صريحًا من قبل إدارة رئيس وزراء إسرائيل بشأن دعم بلاده حق الأكراد في إقامة دولتهم المستقلة، لأنهم جديرون بها على حد تعبيره، وهو ما يتوافق مع تصريحات السفير الإسرائيلي لدى واشنطن مارس الماضي، والتي عبر من خلالها عن دعم بلاده الكامل لانفصال الأكراد واستقلال وطنهم.
السفير الإسرائيلي في مقابلة له مع التلفزيون الرسمي الكردي قال إن إسرائيل تناصر الشعب الكردي في نضاله من أجل الاستقلال، وفى حربه ضد تنظيم داعش، وأضاف: إلى جانب إسرائيل، هناك شعب آخر يحب الحرية، ويناضل من أجل الاستقلال إنه الشعب الكردى، وتابع: نشعر أن هناك علاقات قوية بين اليهود والأكراد وبين إسرائيل وكردستان، ونحن نتمنى لهم الخير.
تفكيك العراق
بعيدًا عن التعاون النفطي، فقد أرجع بعض المحللين الاهتمام الإسرائيلي بأكراد العراق، إلى كونه حلقة من مسلسل المؤامرة والمخطط الصهيوأمريكي لتفكيك المنطقة العربية، وفي مقدمتها العراق، وهو ما أكده المحلل السياسي الدكتور تسفي بار إيل في تصريحات سابقة له لقناة الجزيرة، حيث كشف عن مصادر مقربة من الرئيس الإسرائيلي الراحل بيريز أنه أفصح للرئيس الأمريكي أوباما عن توقعاته بأن “العراق لن يبقى دولة موحدة إلا إذا تم تدخل عسكري مكثف” هو لا يوصي به، وتابع “أقام الأكراد عمليًا دولة مستقلة وديمقراطية بدعم تركي”.
بار ايل أشار إلى أن لقاءً جمع بين وزير خارجية الكيان الصهيوني السابق أفيجدور ليبرمان ونظيره الأمريكي جون كيري، في العاصمة الفرنسية باريس، تطرق إلى الحديث عن مستقبل العراق، مضيفًا أن ليبرمان قال لكيري إن العالم يشهد تفكك العراق، وإن تشكيل دولة كردية مستقلة بات حقيقة واقعة، وهي تستحق الدعم كما هو الحال مع الأردن.
ومن ثم فإن المخطط الإسرائيلي المدعوم أمريكيا يهدف في المقام الأول إلى تقسيم العراق وسوريا إلى دويلات صغيرة متناحرة فيما بينها بما يخدم الكيان الصهيوني من جانبين، الأول: إجهاد جيوش تلك الدول وإضعافها بشتى السبل، الثاني: دعم الكيانات السياسية المنفتحة على إسرائيل والغرب بصورة أكبر، وهو ما يتجسد في دعم تل أبيب لأكراد العراق من جانب، والنظام الأردني الحالي من جانب آخر، فضلاً عن دعمها للسلطة في مصر في الفترة الأخيرة لما حققته من خطوات جادة نحو تمديد التطبيع إلى آفاق جديدة.
ليبرمان: العالم يشهد تفكك العراق، وتشكيل دولة كردية مستقلة بات حقيقة واقعة، وهي تستحق الدعم كما هو الحال مع الأردن
ومن الملاحظ أيضًا أن المشروع الإسرائيلي يتوافق مع المخطط الإيراني في معركة الموصل، من حيث القضاء على تنظيم داعش، وتحرير المدينة من قبضته، إلا أنهما يختلفان في الهدف، حيث تسعى تل أبيب إلى استقلال إقليم كردستان العراق، بما يساعد في ترجمة مخططها التفكيكي العربي، بينما ترفض طهران مساعي انفصال الإقليم حيث تعتبره لا يصب في مصلحة الأكراد.
تصدير الجهاديين لأوروبا
حالة من القلق انتابت حكومات الدول الغربية وبعض الأنظمة الإقليمية بسبب الخوف من هروب عناصر التنظيم الداعشي الإرهابي من الموصل جراء العملية العسكرية الطاحنة التي يواجهونها هناك، إلى دول أوروبا أو سوريا أو إسرائيل.
وقد جسدت تصريحات الرئيس الفرنسي أولاند هذا القلق بصورة كبيرة، حيث حذر من فرار الجهاديين من الموصل إلى الرقة، معقل التنظيم الجهادي في سوريا، خلال الهجوم العراقي المدعوم من التحالف الدولي، قائلاً “علينا أن نتحرك على أفضل وجه على صعيد ملاحقة الإرهابيين الذين بدأوا مغادرة الموصل للوصول إلى الرقة”، مضيفًا “لا يمكن أن نقبل باختفاء الذين كانوا في الموصل”، وقال “معركة الموصل حاسمة لأنها تضرب تنظيم الدولة الإسلامية في معقله”.
إن استعادة الموصل، معقل داعش في شمال العراق، يمكن أن تؤدي إلى عودة مقاتلين من التنظيم إلى أوروبا، مصممين على القتال
بينما أعرب المفوض الأوروبي للأمن، جوليان كينغ، عن خشيته من أن تؤدي خسارة داعش لآخر معاقله في العراق، الموصل، إلى تدفق العناصر المتشددة إلى أوروبا، حيث قال خلال مقابلة صحفية له إن “استعادة الموصل، معقل داعش في شمال العراق، يمكن أن تؤدي إلى عودة مقاتلين من التنظيم إلى أوروبا، مصممين على القتال”، وأضاف “حتى عدد ضئيل (من المتشددين) يشكل خطرًا جديًا علينا أن نستعد له”، من خلال “زيادة قدرتنا على الصمود في وجه الخطر الإرهابي”.
وفي المقابل هناك تخوف صهيوني أيضًا من انتقال عناصر من داعش إلى سوريا بما يشكل تهديدًا لأمن إسرائيل القومي، من خلال استهداف مصالح سلطات الاحتلال في أي مكان في العالم، وهو ما دفع تل أبيب إلى متابعة تطورات المشهد ساعة بساعة، للوقوف على آخر المستجدات.
بروفة لحماس وحزب الله
“إن معركة تحرير الموصل توفر فرصة استثنائية لرصد أساليب القتال التي يتبعها التنظيم ضد جيوش نظامية، وأن المعركة المقبلة ضد حزب الله أو حماس ستشهد تطبيق العديد من الدروس المستفادة من تلك المعركة، التي بدأت ولا يمكن القطع بتوقيت نهايتها..” بهذه الكلمات استهل محلل الشؤون العسكرية في صحيفة يديعوت أحرونوت، رون بن يشاي حديثه عن أبعاد الاهتمام الصهيوني بمعركة تحرير الموصل.
المحلل العسكري الإسرائيلي اعتبر أن الطرفين (حماس وحزب الله من طرف وداعش من طرف آخر) يتبعان أسلوب الأنفاق الهجومية وتعظيم دور القوات الخاصة للسيطرة على مناطق مأهولة بالسكان، والحرص على إشعال حرائق كبيرة، بغية تعبئة الأجواء بالدخان الكثيف لإعاقة وسائل الرصد وجمع المعلومات الاستخباراتية خاصة عبر الطائرات من دون طيار، وهو ما قد يكون مفيدًا جدًا لجيش الاحتلال في رؤية ومتابعة بروفة واقعية على أرض الميدان لما يمكن أن تكون عليه المعركة مستقبلاً مع حركة المقاومة الإسلامية حماس، وحزب الله اللبناني.
ولاحظ المحلل الإسرائيلي “وجود تشابه يصل إلى درجة التطابق في تصريحات وتهديدات قادة داعش وحزب الله، واعتمد على ذلك ليذهب إلى أن تلك التصريحات تعكس تشابهًا في أساليب التخطيط، وتطابقًا كبيرًا في مسيرة التجهيز للعمليات العسكرية من جانب حزب الله وحماس”.
وأشار بن يشاي إلى أن “الجيش الإسرائيلي ينظر بعين الاعتبار لهذا التشابه، ويعمل على رصد ما يدور في الموصل بناءً على ذلك”، حيث يعتمد الجيش الإسرائيلي على مواد علنية تم نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي أو في تصريحات منقولة عن قادة تلك التنظيمات، ويقوم بمقارنة وتحليل ما بها من مضامين تدل على تقارب الرؤى، كما يقارن كل ذلك بالواقع العملياتي على الأرض، ليكتشف أن الحديث يجري عن أساليب قتالية متطابقة بين المنظمات الثلاث.
وفي المجمل، فإن اهتمام الكيان الصهيوني بأي حديث يجب أن يتم وضعه في إطاره الصحيح، فهذا الاهتمام لم ولن يكن أبدًا من فراغ، أو من قبيل المنافسة الإعلامية، والسعي للحصول على سبق إخباري يحسب لقنوات الاحتلال، فهل تعي الحكومات والأنظمة العربية الدرس جيدًا، وتعمل على إجهاض هذا المخطط الصهيوأمريكي أم تسارع في ترجمته على أرض الواقع مبكرًا؟