مثلما سَبِق وأن حذر المعارضون من الاتفاق النووي، فإنه يبدو أن طهران تحاول تعزيز نفوذها الإقليمي في حين تعمل على مواجهة المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، ومع ذلك، ومثلما تعهد أنصار الاتفاق، يبدو أن إيران بصدد الانفتاح أكثر فأكثر من خلال عقد صفقات مع شركات غربية، وإقامة روابط “هاتفية” مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتحسين جودة الإنترنت والتخفيف من بعض القيود الاجتماعية التي تفرضها الحكومة على الشعب الإيراني.
وما قد يبدو لنا تناقضًا محيرًا هو في الواقع فكرة مدروسة جيدًا وسياسة ازدواجية يعتمدها المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي ودائرة القادة المحيطين به، فالجنرالات الإيرانيون يقودون حربًا برية في سوريا، بينما يدرب المستشارون الإيرانيون قوات الشيعة في العراق وسوريا، في حين يقدم الجيش الإيراني الدعم للحوثيين في اليمن، كما أنه بالإضافة إلى فرض عقوبات على الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة، لطالما انتقد آية الله خامنئي سياسات الولايات المتحدة، مؤكدًا أن موقف إيران من “الشيطان الأكبر” لن يتغير، في المقابل، يتواصل وجود رؤوس الأموال والخبرة الغربية في إيران.
من جهة أخرى، عندما يواجه الرئيس حسن روحاني هجمات من المتشددين، فإن آية الله خامنئي عادة ما يسانده، على الأقل بطريقة سرية، وفي هذا السياق، قال سعيد ليلاز، وهو خبير اقتصادي ومحلل سياسي مقرب من حكومة روحاني إن “ذلك يعد جزءًا من سياسة جديدة ليس فقط لإظهار قوتنا، وإنما أيضًا للوصول إلى الغرب، فالهدف هو تعزيز قوة بلدنا وتوسيع نفوذنا، هل يعد ذلك تناقضًا؟ نحن نفعل نفس ما تفعله الولايات المتحدة منذ عقود”.
ليس هناك شك في أن إيران تمارس نفوذًا قويًا في المنطقة، ففي ساحات القتال في سوريا، يقاتل المستشارون الإيرانيون و”المتطوعون” (الذين عادة ما يكونوا من الأفغان والميليشيات الشيعية) ويموتون جنبًا إلى جنب مع القوات الحكومية السورية وذلك بغاية طرد قوات المعارضة من حلب، أما بالقرب من الموصل، فإن قوات الحشد الشعبي، وهو اسم آخر للعشرات من الميليشيات الشيعية، فلهم مستشارون آخرون عادة ما يكونوا على صلة بوحدة القوات الخاصة للحرس الثوري الإيراني فيلق القدس.
ومع الاضطرابات التي تعيشها المنطقة، قد يكون الوقت غير مناسب للتقليص من حجم القيود المفروضة على التعاملات التجارية مع الغرب وعلى الحريات الشخصية داخل إيران، ولكن يبدو أن هذا ما يحدث بالضبط، فالتغيير الأكثر وضوحًا يتمثّل في السياسة المتبعة، فبعد سيطرة دامت 15 سنة، عانى الفصيل المتشدد في إيران من سلسة من الهزائم، وأصبح الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد رمزًا لأمة رفضت أي شكل من أشكال التسوية، فقد صرح في السابق قائلاً “إيران لن تقبل أبدًا بأي تسوية بشأن برنامجها النووي”، لكن في سنة 2012، أي قبل سنة واحدة من انتهاء فترة ولاية أحمدي نجاد، سمح أية الله خامنئي لممثليه بالتواصل مع الولايات المتحدة لمناقشة إمكانية القبول بتسوية.
منذ ذلك الحين، فقد المتشددون عدة معارك سياسية واجهوا فيها التكنوقراط والمعتدلين الذين كانوا قادرين على التواصل مع الغرب، كما أن المتشددين خسروا انتخابات سنة 2013 التي فاز فيها المعتدل روحاني، وبدا واضحًا في الآونة الأخيرة أن آية الله خامنئي قضى على أي احتمال لعودة أحمدي نجاد، المحافظ الوحيد الذي لا زال يحظى بتأييد قوي.
لطالما عارض المتشددون، خلال المحادثات النووية مع الولايات المتحدة وقوى عالمية أخرى، إمكانية القبول بالتسوية، لكنهم سرعان ما خسروا هذا الرهان، كما عارض المتشددون الاستثمار الخارجي وحرية استعمال الإنترنت والزيارات التي يقوم بها الأجانب والحفلات الموسيقية والعدد القليل لأعوان شرطة الآداب، لكن المتشددين خسروا كل هذه القضايا وتم تجاهل مطالبهم إلى حد كبير، ووفقًا لمحللين، فإن هذا ليس من قبيل الصدفة، فهو ينبع من قرار آية الله خامنئي للحد من التفسير المتزمت للأيديولوجية الثورية وإنهاء العزلة التي أعاقت الاقتصاد وأحبطت الشباب الإيراني الذي يطمح للعيش في دولة “طبيعية”.
إن آية الله خامنئي يبلغ من العمر 77 سنة وقد أصيب في الماضي بسرطان البروستاتا، إلا أنه لطالما كان مصممًا، طيلة فترة بقائه في السلطة، على ضرورة إجراء التغييرات الضرورية في إيران، والتي من شأنها إعادة ترتيب علاقاتها مع العالم، وهو ما تحدث عنه حميد رضا تراغي، المحلل الذي له علاقات وثيقة مع المتشددين، قائلاً “بالنسبة لخامنئي، ينبغي أن نكون مثل الصين، ويجب أن تكون لنا علاقات اقتصادية مع الغرب، لكن من دون أن نتأثر بهم من الناحية السياسية”، وبالتالي، تم التقليص من حجم القيود المفروضة على تأشيرات الدخول وسياسات الاستثمار الأجنبي، في المقابل، يحاول الدبلوماسيون الإيرانيون نشر رسالة مفادها أن إيران هي آخر سوق غير مستغل في العالم.
وقال عالم الاقتصاد لايلاز: “نحن بحاجة إلى خبرة الغرب وإلى استثماراتهم أيضًا، الآن، وبعد أن رفعت العقوبات، سنتواصل مع الغرب لكي نستفيد من أموالهم ومن خبرتهم، لكن، وبطبيعة الحال، نحن لا نريد سياساتهم”، أما المدير العام لغرفة التجارة الألمانية الإيرانية رينيه هارون فقد تحدث عن “حقبة جديدة” للجمهورية الإسلامية، وأضاف قائلاً “على الحكومة أن تتخذ خطوات كبيرة من أجل تحسين مجال الأعمال”.
في الأشهر الأخيرة، أبدى المواطنون الإيرانيون استحسانهم لبعض التغييرات، فالإنترنت الذي لطالما أبقته السلطات بطيئة، أصبحت جودته أفضل مما كانت عليه، حيث أصبح من الممكن مشاهدة مقاطع فيديو على الإنترنت، وهو الأمر الذي لم يكن ممكنًا في السابق، كما أصبح للتلفزيون الحكومي قنوات رقمية جديدة تبث مزيدًا من الأفلام الكوميدية فضلاً عن مسلسل “نيتفليكس” الذي يحمل اسم “هاوس أوف كاردز” في نسخته الفارسية.
أما البرلمان الخالي من هيمنة المتشددين للمرة الأولى منذ أكثر من عقد من الزمن، فقد طالب بفرض قيود على عقوبة الإعدام ومزيد تعزيز حرية الصحافة وإعادة تنصيب إحدى السياسيات المنتميات إلى التيار الإصلاحي والتي تم عزلها بعد أن نشرت صورا دون حجاب. وفي هذا الصدد، صرحت نازنين دانشور، الرئيسة التنفيذية لموقع التسوق “تخفيفان”، “رغم كل شيء، لا زال هناك أمل، وعلى الرغم من أنه علينا أن ننتظر النتائج، إلا أن الناس أصبحوا متطلعين إلى المستقبل أكثر من ذي قبل”.
وفي نفس الوقت، لا زال آية الله خامنئي يعمل على طمأنة أنصاره المتشددين أن رؤيتهم لدولة ثيوقراطية إسلامية معارضة للولايات المتحدة والغرب لا زالت موجودة، وفي خطاب له الأسبوع الماضي، قال خامنئي إن “المشاكل بين إيران والولايات المتحدة لن تحل”، كما عادة ما يصدر آية الله خامنئي تحذيرات متكررة فيما يتعلق بتنظيم الدولة الذي يمثل تهديدًا لإيران الشيعية، وقال خامنئي في هذا السياق إنه من الأفضل أن تقاتل إيران المسلحين في سوريا بدل أن تقاتلهم في المدن الإيرانية الغربية مثل كرمنشاه وهمدان، الأمر الذي تحدث عنه الصحفي محمد حيدري قائلاً “يجب أن تكون إيران قوية وذات تأثير قوي، انظر فقط إلى الخريطة وسترى موقعنا وحجمنا، ذلك كفيل بأن يساعدك على الفهم”.
وقد تكون الحروب وسائل إلهاء لاسترضاء المتشددين في وقت تم فيه تجاوز الخطوط الحمراء الأيديولوجية وحدوث صفقات كانت مستحيلة في السابق، مثل عمليات شراء الطائرات الأمريكية والتي أصبحت تجرى بانتظام، وتجدر الإشارة إلى أن آية الله خامنئي غالبًا ما ينتقد الاتفاق النووي، لكن المتشددين الأكثر تأثيرًا يدركون أنه كان طرفًا مهمًا في الاتفاق، كما أنه لم يحاول إيقاف المحادثات بين شركة بوينغ والشركة الخطوط الجوية الإيرانية، على الرغم من أن أي صفقة بين هاتين الشركتين تعني علاقات واسعة النطاق مع الولايات المتحدة.
ويقول محللون إن انفتاح إيران الجزئي على الغرب وتورطها في صراعات الشرق الأوسط هي كلها سياسات تعود لآية الله خامنئي، وهو ما تحدث عنه المحلل السياسي المتشدد تراغي قائلاً “إن كل السياسات الخارجية والداخلية هي أوامر المرشد الأعلى”، وأضاف أنه على الرغم من ذلك، لا يجب على الغرب ألا يتوقعوا الكثير من التغييرات العميقة التي من شأنها أن تحدث في إيران.
المصدر: نيويورك تايمز