بعد ما يقرب من ثلاث سنوات من الشد والجذب على موائد المفاوضات، في الداخل والخارج، ها هو الحوار الوطني السوداني يسدل الستار مخلفًا وراءه حزمة من التوصيات والقرارات التي يأمل البعض في أن تكون بداية صفحة جديدة بين الحكومة والمعارضة تضمن الاستقرار والأمن للملايين من الشعب السوداني.
الحوار الوطني وإن غابت عنه بعض القوى المعارضة ذات الثقل السياسي في الشارع السوداني، إلا أنه يعد خطوة جديدة نحو طي هذه الصفحة الدموية من التراشق السياسي والإعلامي بين النظام ومعارضيه، خاصة مع إعلان الرئيس السوداني عمر البشير البدء فورًا في إجراء الإصلاحات التي تم الاتفاق عليها خلال المؤتمر الأخير، فهل آن الأوان أن يخرج السودان من هذا المستنقع الذي غرق فيه طيلة ثلاث سنوات دفع خلالها السودانيون فاتورة هذا الصراع ما بين قتيل وجريح ومعتقل وجائع ومشرد؟
بداية الأزمة
تعود الأزمة إلى المظاهرات الاحتجاجية التي اندلعت في سبتمبر 2013، جراء التصعيد السياسي بين نظام البشير وفصائل المعارضة، مستلهمة روح الربيع العربي، أسفرت عن مقتل حوالي 200 شخص، ليعلن الرئيس السوداني بعدها مباشرة، انطلاق جولة من المفاوضات بين مكونات الشعب السوداني السياسية المدنية والعسكرية المختلفة، مطلقًا عليه اسم “الوثبة”، وذلك في يناير 2014.
وقد حظيت هذه المبادرة بزخم سياسي كبير، وبحضور فعّال، لا سيما بعد قبول الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي أكبر أحزاب المعارضة في البلاد، المشاركة فيها؛ مما كان له بالغ الأثر في قبول الفصائل والقوى السياسية الأخرى، وفي المقابل رفضت بعض القوى المؤثرة الأخرى، بينها 4 حركات مسلحة تحارب الحكومة في إقليم دارفور غربي البلاد وولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق المتاخمتين لجنوب السودان.
القوى الرافضة للمشاركة في الحوار رهنت قبولها والتراجع عن موقفها بحزمة من الشروط التي يجب على حكومة البشير الاستجابة لها، على رأسها الإفراج عن المعتقلين والمحكومين السياسيين، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات وآلية مستقلة لإدارة الحوار.
وفي خطوة تصعيدية أفرغت جولات الحوار الوطني من مضمونها، أعلن الصادق المهدي الانسحاب من الحوار الوطني في مايو من نفس العام 2014 احتجاجًا على اعتقاله لنحو شهر بسبب اتهامه لقوات حكومية بارتكاب تجاوزات بحق المدنيين في إقليم دارفور، علمًا بأن اعتقال المهدي جاء بالتزامن مع اعتقال رئيس حزب “المؤتمر السوداني” المعارض وقتها إبراهيم الشيخ، ما تسبب في انسحاب العديد من القوى التي كانت أعلنت مشاركتها من قبل.
ولم يكتف المهدي بالانسحاب وفقط، بل غادر البلاد ليعمل مع بقية فصائل المعارضة المدنية والمسلحة على تأسيس “نداء السودان” كأوسع تحالف للإطاحة بحكومة البشير، وفي خطوة تصعيدية جديدة خيّر التحالف الذي أُعلن عنه بأديس أبابا في ديسمبر 2014 نظام البشير ما بين القبول بحوار جاد وفق الشروط الموضوعة مسبقًا، أو مواجهة الانتفاضة الشعبية، وتحمل ما تسفر عنه من نتائج.
أفرغت جولات الحوار الوطني من مضمونها بعد انسحاب الصادق المهدي في مايو 2014 احتجاجًا على اعتقاله
وقد تدخلت بعض القوى الإقليمية للقيام بدور الوساطة في محاولة لتقريب وجهات النظر، كان آخرها تفويض الاتحاد الإفريقي لرئيسه السابق ثامو مبيكي، إلا أن جميع هذه المحاولات باءت بالفشل إزاء تعنت الحكومة السودانية من جانب، وفرض المعارضة لإملاءاتها من جانب آخر، إلى أن استقر الأمر على إعلان جولة جديدة من المفاوضات في العاشر من أكتوبر الجاري بحضور بعض الحركات المسلحة في غيبة بعض الأحزاب والقوى السياسية المعارضة.
الشرطة السودانية تقمع المتظاهرين في 2013
خطوة للأمام
الكثير من المحللين اعتبروا أن جولة الحوار الوطني الأخيرة خطوة للوراء في مشوار المفاوضات بين الحكومة والمعارضة، وذلك لغياب بعض القوى المؤثرة في الحراك السياسي الداخلي، إلا أن البعص اعتبرها انفراجة وخطوة جديدة نحو حلحلة الأزمة لا سيما في ظل ما خرجت به من نتائج بالرغم من البطء النسبي الذي صاحب هذه العملية والتعقيدات والتجاذبات الداخلية والخارجية التي رافقتها.
ويذكر أن هناك العديد من الأسباب كانت وراء التباعد في المواقف بين الأطراف المتحاورة، خاصة ما يتعلق بتفسير البنود الواردة في “خارطة الطريق” التي أعلنت في أغسطس 2014، إضافة إلى الخلاف حول مدى الالتزام بتنفيذ ما جاء فيها، بين الآلية الإفريقية برئاسة أمبيكى ولجنة (7+7) بأديس أبابا، فضلاً عن الشُقة الواسعة التي تفصل بين هذه الأطراف حول مسألة عقد “مؤتمر تحضيري” بمقر الاتحاد الإفريقي بأديس أبابا استنادًا إلى القرار(456) الصادر من مجلس السلم والأمن بالاتحاد الإفريقى في 12 سبتمبر 2014 وأعيد التأكيد عليه – مطلب مُلحِ بالنسبة للمعارضة – خلال مداولات (ملتقى برلين) والذي نظم في 27 فبراير 2015 وصدر عنه ما عرف لاحقًا بـ “إعلان برلين”.
رئيس البرلمان السوداني: الحوار السوداني يعد تجربة غير مسبوقة، ويصلح نموذجًا يحتذى به في تحقيق الوفاق ورتق النسيج الوطني
وأسفرت الجولة الأخيرة من الحوار الوطني التي عقدت في العاشر من أكتوبر الجاري عن عدد من القرارات والإجراءات التي تعهد الجميع بتنفيذها والالتزام بها، أهمها ضرورة البدء بإجراء التعديلات الدستورية الأساسية وإصدار المراسيم الجمهورية تمهيدًا لتكوين الحكومة الجديدة في السودان.
من جانبه قال وزير الإعلام السوداني، أحمد بلال، عقب انتهاء الاجتماع إن الآلية التنسيقية للحوار الوطني ستقوم بجولة تشمل جميع ولايات السودان لإعلام المواطنين بأوجه التغيير القادمة والتي تشتمل على التعديلات الدستورية وإحداث منصب رئيس الوزراء وزيادة عدد أعضاء البرلمان، مشيرًا إلى أن تكوين الحكومة سيتم بعد ثلاثة أشهر.
بينما أعلن إبراهيم أحمد عمر، رئيس البرلمان السوداني، أن المجلس الوطني مستعد لإجراء التعديلات الدستورية اللازمة لإعلان الحكومة الجديدة وفق ما خرجت به توصيات مؤتمر الحوار، وهو ما أكد عليه أيضًا البروفيسور هاشم علي سالم، الأمين العام للحوار الوطني، والذي أشار إلى أن الحوار السوداني يعد تجربة غير مسبوقة، لافتًا إلى أنه يصلح نموذجًا يحتذى به في تحقيق الوفاق ورتق النسيج الوطني.
سالم أكد في تصريحات له أن المؤتمر استطاع خلال فترة وجيزة تحقيق توافق بنسبة عالية بين جميع القوى السياسية والحركات المسلحة التي شاركت به، مضيفًا أن ذلك انعكس إيجابًا على المخرجات التي تم التوصل لها بشبه إجماع تام، منوهًا أن إجازة الوثيقة الوطنية من قبل المؤتمر العام للحوار الوطني، مثّل فجرًا جديدًا وحدثًا فريدًا في التاريخ الوطني للبلاد، موضحًا أن الباب لم يوصد أمام مشاركة أي جهة أو أشخاص في الانضمام لها.
رؤساء أحزاب المعارضة السودانية
لأول مرة منذ 27 عامًا.. رئيس للوزراء في السودان
في خطوة اعتبرها البعض إعلان حسن نية من عمر البشير حيال مخرجات الحوار الوطني، قرر الرئيس السوداني استحداث منصب رئيس الوزراء في البلاد، عقب تسلمه توصيات الحوار الوطني بعد عام على انطلاقه، وذلك للمرة الأولى منذ توليه السلطة قبل 27 عامًا.
هذا القرار ألقى بظلاله الإيجابية على المشهد العام خلال اليومين الماضيين، حيث يعد الخطوة الأولى نحو ترجمة مقترحات التعديلات الدستورية التي أقرها الحوار الوطني في توصياته بعد ما يزيد عن عام من الجلسات والمفاوضات دون نتيجة تذكر.
وزير الدولة برئاسة الجمهورية الرشيد هارون عبّر عن تفاؤله حيال هذا القرار، الذي أوضح أن الرئيس يريد من خلاله نقل جزء من سلطاته إلى رئيس الوزراء بناء على توصيات الحوار الوطني، متوقعًا أن يتم التعيين خلال الشهرين المقبلين.
الخبراء والمحللون أشاروا أن هذه فرصة سانحة لاختبار وطنية قوى المعارضة الرافضة للمشاركة في الحوار، فإن كانت تسعى لإصلاحات دستوية فعلاً فها هو الرئيس يقدم أوراق اعتماد نواياه نحو الإصلاح، أما إن كانوا يسعون لمصالح شخصية فهذا شأن آخر، وهو ما ستكشفه الأيام القادمة
وفي خطوة جديدة نحو تفعيل توصيات الحوار الوطني، طرح الرئيس السوداني وثيقة يفترض أن تشكل إطارًا لدستور جديد وقع عليها، إلى جانب الحكومة، عدد من أحزاب المعارضة الصغيرة ومجموعات المتمردين.
الخبراء والمحللون أشاروا أن هذه فرصة سانحة لاختبار وطنية قوى المعارضة الرافضة للمشاركة في الحوار، فإن كانت تسعى لإصلاحات دستوية فعلاً فها هو الرئيس يقدم أوراق اعتماد نواياه نحو الإصلاح، أما إن كانوا يسعون لمصالح شخصية فهذا شأن آخر، وهو ما تكشفه الأيام القادمة.
جدير بالذكر أن منصب رئيس الحكومة ظل شاغرًا داخل السلطة التنفيذية السودانية منذ تولي عمر البشير رئاسة البلاد 1989حين أطاح برئيس الوزراء آنذاك الصادق المهدي، بمساعدة القيادي البارز حسن الترابي، ومنذ هذا الوقت والسودان بلا رئيس الحكومة، فقط حقائب وزارية انتقالية تخضع لرئيس الدولة مباشرة، علمًا بأن البلاد تُحكم بدستور انتقالي تم وضعه عام 2005.
ثلثا السودانيين تحت مستوى خط الفقر
يعاني السودان منذ انفصال الجنوب عام 2011 من أزمات اقتصادية طاحنة، أودت بالملايين من الشعب السوداني في غياهب الفقر والحرمان، وغياب الأمن والاستقرار، فضلاً عن الاحتراب الداخلي الذي أوشك أن يوقعها في مستنقعات الحروب الأهلية الطاحنة.
وبالرغم من عدم وجود نسبة رسمية لعدد الفقراء في السودان، إلا أن آخر مسح للفقر في السودان أجري قبيل الانفصال، كانت نسبة الفقر العامة في السودان 46.5%، منها 26.5% من سكان المدن و57.5% من سكان الريف، فضلاً عن اختلاف ما بين الولايات، حيث كانت النسبة في ولاية شمال دارفور غربي البلاد 69% كأعلى نسبة، وفي ولاية الخرطوم 26% كأدنى نسبة.
ومع بدايات عام 2012 تعرضت البلاد لأزمات اقتصادية طاحنة، جراء انفصال الجنوب السوداني، الذي حرم السودان من 75% من المخزون النفطي، الذي يشكّل نحو 68% من موارد البلاد، مما تسبب في زيادة زيادة نسبة الفقر بين قطاعات عريضة من السودانيين، وصلت نسبتها حسبما كشف المسح الإحصائي الجديد الذي جرى بالتعاون الفنّي مع جهاز الإحصاء النرويجي إلى عتبة الـ 80% من السودانيين.
80% من السودانيين تحت مستوى خط الفقر
وعلى مدار السنوات الماضية، ومع ارتفاع الأسعار بشكل جنوني، صاحبها تدني في مستوى معيشة المواطن، بذلت حكومة البشير جهودًا حثيثة للخروج من الأزمة، كان آخرها الوثيقة المبرمة للحد من حالة الفقر المنتشرة داخل البلاد، ودعا البرلمان في تلك الوثيقة إلى زيادة الاعتماد المرصود لمشاريع وبرامج الحد من الفقر، عبر الموازنة العامة للدولة والبحث عن قروض ميسرة عبر مؤسسات التمويل الدولية والاستثمارات، وتوسيع تجربة التعاونيات ووضع السياسات اللازمة للتعدين التقليدي وربط الطرق، وتخفيف تعرفة المواصلات وتفعيل مصادر مكافحة الفقر من الزكاة والضمان الاجتماعي، وزيادة الرواتب ودعم الأسر ومكافحة الفساد، وإعداد إحصائيات للأسر الفقيرة ودعم الصندوق القومي لرعاية الطلاب وتنفيذ مجانية التعليم.
لكن قوبلت هذه الوثيقة بالرفض الشعبي غير المتوقع، وبحسب المراقبين، فإن هذا الرفض يعود لعدم تطبيق المعالجات الاقتصادية بشكل صحيح، ناهيك عن مخاوف وهواجس الفقراء جراء سياسة رفع الدعم، أمّا الصدمة الثانية فتمثلت في ضعف الصرف الحكومي على مشاريع الحد من الفقر، ولعل ذلك ما أكّده وزير الدولة في المالية السودانية عبد الرحمن ضرار قائلاً إنّ “نسبة الصرف على مشروعات الحد من الفقر ليست بالقدر المطلوب حتى الآن”.
وفي ظل الوضع المعيشي السيء الذي يحياه السودان منذ 2011 وحتى الآن، ومن قبلها الصراعات المسلحة منذ تقلد البشير أمور البلاد في 1989، هل لا زال السودانيون بحاجة لمزيد من الشقاق والخلاف يعمق جراحهم ويزيدها ألمًا ومعاناة؟ وهل ستساهم مخرجات الحوار الوطني في نسخته الأخيرة في حلحلة الأزمة والخروج من عنق الزجاجة أم ستكون لفصائل وقوى المعارضة رأي آخر يذهب بالجميع إلى المربع رقم صفر من جديد؟