في شهر آذار/ مارس الماضي، عندما كان موعد الانتخابات الأمريكية لا يزال بعيدا وقبل أن يدرك الناس وجود “فانسي بير”، وقبل أن يعرف الجميع أسرار جون بوديستا، كنت في روسيا أُجري محادثات مع مسؤول عمل سابقا في الكرملين.
وخلال محادثاتنا، أصبح من الواضح أننا اتفقنا على مفهوم يعبر عن الرئيس فلاديمير بوتين. فقد تحدث الروسي عن “مفارقة بوتين” وعرّفها على النحو التالي: للرئيس الروسي غرائز تكتيكية يستغلها في اغتنام الفرص، لكن النتائج الاستراتيجية لهذه الغرائز عادة ما تكون وخيمة في كل الحالات تقريبا. وبعد سبعة أشهر، أُثبتت هذه المفارقة بعد أن راجت أنباء عن تدخل روسيا في الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
في الواقع، لا يوجد نقاش جاد في هذه المرحلة حول هذا التدخل. وعلى الرغم من أن دونالد شكك في الأمر، إلا أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية وجهت الاتهام لروسيا في حادثة تسريب رسائل هيلاري كلينتون الالكترونية، والتي تم تسريبها من قبل موقع ويكيليكس. كما تعرضت اللجنة الوطنية الديمقراطية للقرصنة أيضا.
ولم تكتفي روسيا بالقرصنة، بل عمدت وسائل الإعلام الروسية الناطقة بلغة أجنبية، مثل “أر تي” و”سبوتنيك”، إلى التعبير عن معارضتها لهيلاري كلينتون ونشر أخبار عن تزوير الانتخابات وعن وجود إشكالات أخرى (وهذا يعتبر ترويضا بسيطا إذا ما قارناه بالخطاب الذي يعتمده المضيف التلفزي الروسي ديمتري كيسليوف، الذي ادعى أن الولايات المتحدة قد تقتل ترامب لكي لا يصبح رئيسا).
ولا تزال هناك مخاوف من أن الروس قد يتمكنون من اختراق أنظمة التصويت الالكترونية يوم الانتخابات. وقد نتساءل عما حققه الروس بعد كل هذه الجهود؟ الجواب هو أن روسيا تمكنت من تحقيق بعض النجاحات، التي يبدو أن كلفتها عالية جدا. ويجب أن تقاس هذه النجاحات وفقا لأهداف روسيا.
وعلى الرغم من أن فوز ترامب بالانتخابات أصبح أمرا غير محتمل، فإنه لا يوجد أسباب عديدة توحي بأن ذلك ما تريده روسيا. فقد حاول المرشح الجمهوري خلال المناظرة الرئاسية الثالثة أن يثبت عدم وجود أي علاقة تربطه ببوتين. كما أن الرئيس الروسي لطالما تعود على أن يكون الرجل الأقوى على الساحة الجيوسياسية، لذلك، فإن رئاسة ترامب قد تكون بمثابة عائق لحسابات بوتين الاستراتيجية.
في الحقيقة، كان الهدف من تدخل روسيا في الانتخابات الأمريكية هو إضعاف كلينتون لكي تكون، في يوم تنصيبها، مجبرة على التعامل مع الديمقراطيين، واليساريين، والمستاءين، والجمهوريين، واليمينيين، والساخطين، وبلد مقسم، كما عليها أيضا مواجهة بوتين.
ومن السابق لأوانه أن نجزم بحقيقة هذا، لكن يبدو أن عمليات القرصنة جعلت الديمقراطيين والجمهوريين يتشاركان الغضب من موسكو. كما يبدو أن روسيا تسعى إلى تقويض شرعية وديمقراطية الولايات المتحدة. فقد سعت عمليات القرصنة إلى إضعاف شرعية الولايات المتحدة في الخارج، وإغضاب حلفائها، والتسبب في حملة دعائية عالمية.
باختصار، تسعى روسيا لإقناع العالم أن النظام الروسي أفضل من بقية الأنظمة. وقد تردد صدى مثل هذه الدعايات، لكن من الصعب أن نجزم أن ما تفعله روسيا يعتبر أسوأ من حملة ترامب الانتخابية.
في سياق آخر، فإن احتلال روسيا لشبة جزيرة القرم، (الأمر الذي أدى إلى فرض العقوبات الغربية، والتكاليف المرتفعة من خزينة الدولة) وتدخل روسيا في دونباس (أدى هذا التدخل إلى فرض مزيد من العقوبات وتشويه سمعة روسيا وإدخالها في حرب مكلفة)، إلى جانب تدخلها في سوريا، (حيث علقت روسيا في مستنقع الحرب المفتوحة)، جعل نجاحات روسيا الآن تمهيدا لكارثة مستقبلية.
أما الروس الذين أبدوا استحسانهم بتسريبات ويكيليكس والفوضى التي انجرت عنها، فقد أصبحت لهم مخاوف حول إمكانية تفكير الولايات المتحدة في الانتقام. والأهم من ذلك، قيمة التدخل الروسي في الانتخابات بالنسبة للعلاقات الروسية الأمريكية في المستقبل. فقد قال أحد الروس متذمرا بمرارة “فلنعتد على العقوبات إلى أن ندفن في قبورنا”.
ومن الواضح أن كلينتون وبوتين لن يعملا على تحسين هذه العلاقات. لكن من الواضح أيضا أن كلينتون ليست مهتمة ببدأ حروب جديدة بقدر اهتمامها بإنهاء الصراعات القديمة. ولو انتظر بوتين إلى حين فوزها في الانتخابات ليقترح عليها اتفاقا حول سوريا أو أوكرانيا، لربما كانت فكرت في الأمر. ولكن تصرفات بوتين الغريبة أقنعت كلينتون أن الكرملين يمثل خطرا واضحا على الديمقراطية الأمريكية والوحدة الغربية. وكما قال مصدر مطلع في واشنطن فإنه علينا أن نتوقع أن نرى كوابيس بوتين تصبح حقيقة إذا ما فازت هيلاري كلينتون في الانتخابات.
أما في موسكو، فإن هناك إدراك بأن التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية سيكون له تداعيات خطيرة، حيث تخشى النخبة السياسية المهتمة بالشأن الخارجي الروسي استعداد واشنطن للتصدي لخدع موسكو في الشرق الأوسط وأوروبا، وتخشى استعدادها أيضا لإقناع الاتحاد الأوروبي للحفاظ على الضغط المسلط على روسيا والتصعيد فيه أيضا.
أما النخبة السياسية ورجال الأعمال فقد عبروا عن قلقهم من أن تتقلص فرصهم في السفر والاستثمار في الخارج. وقد أعرب أحد المسؤولين في البرلمان الروسي عن قلقه قائلا: “إن روسيا أصبحت شبيهة بجنوب أفريقيا” مشيرا إلى فترة الثلاثين سنة من المقاطعة والعقوبات التي عزلت جنوب إفريقيا، عندما كانت تحت حكم البيض وخلال فترة معاناتها من التمييز العنصري.
كما لا يبدو أن أولئك الذين شاركوا بوتين في خدعه قد عانوا من تأنيب الضمير، خاصة وأنهم لطالما استفادوا من الفوضى التي يسببها بوتين في الخارج. ومع ذلك فإن أساليبهم وقدراتهم أصبحت الآن تحت المجهر مع إمكانية تخطيط الولايات المتحدة الأمريكية للانتقام. وفي هذا السياق، قال محلل مقرب من المخابرات الروسية، معربا عن قلقه، إنه قد تم إهدار قدرة الروس على القرصنة في “رسائل إلكترونية تافهة”.
ولكي نفهم سبب اتخاذ بوتين لمنحى مختلف مع الولايات المتحدة، علينا أن ننظر إلى الاستراتيجيات التي يتّبعها قائد الدب الروسي. فهو لاعب فاعل في الساحة العالمية، كما أنه يعتمد الارتجال في القرارات، ويعمل وفق سياسة “التصيّد الجيوسياسي”.
ومن الأمثلة على هذا النوع من التصيّد هو إرسال روسيا قاذفات بعيدة المدى للالتفاف حول المجال الجوي للناتو، ونشر صواريخ نووية في المدينة الروسية كالينغراد على الحدود الأوروبية. لكن هذه المحاولات تعتبر بسيطة نسبيا، لكنها نجحت في جلب انتباه الغرب.
وفي أحيان أخرى، يمكن أن يصبح التصيّد أكثر جدية وخطورة. فقد كان الهدف من التدخل الروسي في سوريا هو دعم واحدة من آخر حلفاء روسيا، كما أن التدخل يعتبر بمثابة رد جريء على جهود واشنطن الديبلوماسية لعزل روسيا. لكن هذا الرد زاد من احتمال حدوث مواجهة عسكرية مباشرة بين قوتين نوويتين.
أما بالنسبة للتدخل في الانتخابات الأمريكية، فربما بدأ في بدايته كنوع تصيّد غير منطقي لكنه أصبح أكثر منطقية، وأصبح تحديا صريحا لنزاهة الديمقراطية الأمريكية. فمن وجهة نظر بوتين، فإن التدخل في السياسة الأمريكية يعتبر إغراء قد لا يتمكن من مقاومته.
هذا بالإضافة إلى أن روسيا وأجهزة استخباراتها عادة ما تستهدف الأنظمة السياسية الضخمة التي تعتمد بشكل كبير على المتطوعين، والتي تعتبر أهدافا سهلة وغير مؤمنة. وتجدر الإشارة إلى أن المشهد السياسي الأمريكي المرير والحملة الانتخابية العدائية جعلتا تأثير التسريبات وغيرها من “التدابير الفعالة” أكثر وطأة.
وقد نجح الجانب الانتهازي في شخصية بوتين في رصد نقاط الضعف في النظام السياسي الأمريكي خلال هذه الانتخابات وانتهاز الفرصة من خلال توظيفها لصالحه، وقد عانت الديمقراطية الأمريكية من هذا فعلا. لكن بوتين نجح أيضا في جعل دور روسيا واضحا، الأمر الذي قد يستدعي ردا من واشنطن.
مشكلة الكرملين هو أن بوتين الانتهازي عادة ما ينجرّ وراء الأحداث. فهو دائما ما يركز على ما يمكن تحقيقه في المستقبل دون التفكير في العواقب التي قد تحصل في المستقبل القريب جدا. كما يبدو أنه متأكد من إمكانيته على السيطرة على ما بدأه، وهو أمر رأيناه من قبل. فعندما قرر بوتين التدخل في دونباس في أوكرانيا وتسليح سكانها وإرسال الجنود والبنادق، بدا ذلك القرار تكتيكا ذكيا. فقد كان الاعتقاد سائدا أن كييف ستستسلم وأن روسيا ستتظاهر بعدم تورطها. لكن بعد مرور أكثر من سنتين، لا تزال روسيا عالقة في صراع مرير.
وفي بعض نواحيها، فإن عملية تدخل روسيا في الانتخابات الأمريكية تتبع نفس المسار. فقد اعتمدت روسيا خطة “ذكية” للتسبب في مشاكل في الخارج ووضع خصم في وضعية ضعف. ولا زال بوتين ينكر تورطه في ذلك، لكن الفوضى التي تسبب فيها بدأت في تهديد حياته.
المصدر: فورين بوليسي