ترجمة وتحرير نون بوست
عادةً ما تصطدم الثقافة الغربية، التي يرى شعبها أنها “عالمية”، بالمثل العليا التي تتبعها مجتمعات الشرق الأوسط بطريقة غامضة.
نشرت صحيفة نيويورك تايمز، هذا الشهر، مقالة بعنوان “العالم في زمن ما بعد الليبرالية” قدم خلالها الكاتب روس دثات عرضًا حول الكيفية التي يشارك بها “المتطرفون الجدد” و”الفكر الرجعي الجديد” و”المنشقون الدينيون” الذين يضمهم الغرب في الانتقادات الحادة المتعلقة بالنظام الرأسمالي الغربي والديمقراطي والليبرالي، رغم أنها لم تحاول وضع نظرية موحدة لإصلاح هذا النظام أو لاقتراح ما يجب أن يحدث لاحقًا.
جلبت انتباهي مقولة الكاتب الذي أشار فيها: “نجح النظام الغربي في نشر السلام والنظام والازدهار، ولكنه في المقابل تسبب في إضعاف نقاط القوة التي كانت تميز فترة ما قبل الليبرالية، على المستوى الثقافي والديني والاجتماعي، والتي تعبر بعمق فاق الرأسمالية الاستهلاكية فيما يخص احتجاجات الإنسان الأساسية، كالكرامة، والاندماج في المجتمع، والأمل الميتافيزيقي”.
وضح كاتب هذه المقالة، في محاولة تفسيره لنقاط ضعف الليبرالية الغربية بطريقة غير مباشرة، السبب الرئيسي الكامن وراء فشل المحللين والحكومات المتواصل في فهم الشرق الأوسط.
ناضل المراقبون، لبعض الوقت، في سبيل معرفة الكيفية التي يستطيعون بها دمج الثقافة في تحليلاتهم المتعلقة بمنطقة الشرق الأوسط، يعود ذلك في الواقع لأسباب وجيهة، من بينها فشلهم في وضع تعريف للثقافة يكون على مستوى عالٍ من الدقة والإفادة من الناحية التحليلية، بالإضافة إلى لجوئهم الدائم إلى التعميم بالاستناد إلى رصدهم للملاحظات التي تهم الثقافة وفي التفكير في كل الحجج التي تفسر الجدل القائم حول ما يسمى “الانقسام بين السنة والشيعة”، ومئات السنين المزعومة من أجل هذا الصراع الذي يضم هاتين الطائفتين وتأثيره على السياسة في الشرق الأوسط اليوم و”صراع الحضارات” الذي كتب عنه صموئيل هنتنغتون لأول مرة سنة 1993.
قد تكون هذه الحجج جذابة عند رؤيتها للوهلة الأولى، ولكنه سرعان ما تفقد بريقها في أول عملية فحص وتحليل تتعرض لها، من بين الأسباب الأخرى الخوف من أن يطلق عليهم لقب المستشرقين، الذي يمكن أن تنجر عنه عواقب مهنية كثيرة، من ذلك يمكننا معرفة سبب تجنب العلماء دراسة الثقافة كتفسير محتمل لما تعانيه الأنظمة السياسية العربية.
هذا يعتبر خطأً، بل إنه يدعوني أيضًا إلى التساؤل عما إذا كان التفاعل الحيوي بين التصورات الثقافية الغربية المسبقة المتعلقة بالمنطقة وميولات الشرق الأوسط هو التفسير المعقول لفشل الولايات المتحدة في العالم العربي.
تعتبر عملية جمع الحجج الجدية والموضوعية حول الثقافة بالعمل الصعب والشاق عندما يتم تقديمها في شكل مبالغ فيه يفتقد إلى التحليل المنطقي، غالبًا ما تصنف هذه الثقافة “هدامة” وذلك بسبب خضوعها لمصالح الجماعات المناهضة للإسلام والجماعات الإسلامية على حد سواء.
تشارك هذه الجماعات المتضادة معًا في صراع استطرادي، وعنيف في بعض الأحيان للوصول إلى التفوق والقمة التي تصبو إليها، دون التفكير في الهدم الحضري الذي تخلفه، من هنا أطلقت الكتب التآمرية حول قدوم “أورابيا” وسياسة “الهدم الخلاق” الملتبسة للولايات المتحدة الأمريكية، قد يساعدنا هذا التفسير على فهم سبب نفور بعض العلماء من دراسة الثقافة وكرههم لها.
عند التفكير في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، نجد أن دراسة الثقافة ستفيدنا في فهم الطريقة التي تتفاعل بها آلية التفكير الغربية مع المبادئ والمثل العليا التي تجعل مجتمعات الشرق الأوسط بهذه الطريقة.
تحسبًا للانتقادات القادمة على أية حال، اسمحوا لي أن أؤكد في نقطة أولى أن العديد من الناس في الشرق الأوسط يتبنون هوياتهم المحلية والوسط الثقافي الأصلي الخاص بهم، ولكنهم أيضًا يريدون أن يعيشوا في مجتمعات تكون أكثر ليبرالية، ثانيًا، أنا على وعي تام وإدراك جيد بمخاطر النسبية الثقافية، سبق للحكومة المصرية أن استخدمت بالفعل هذا التكتيك في جهودها للتصدي للانتقادات التي تلقتها على إثر قراراتها المتعلقة بمجال حقوق الإنسان، في هذا الصدد، قال وزير الخارجية، سامح شكري، إن “حقوق الإنسان هي مفهوم غربي لا ينطبق بالضرورة في بيئات ثقافية أخرى”.
إذًا كيف علينا أن نفكر في الثقافة وسياسة الولايات في الشرق الأوسط؟
في الآونة الأخيرة، شهدت تونس احتجاجات بين عدد كبير من الطلاب وآخرين ممن ضاقوا ذرعًا بسبب التهميش ومحدودية فرص العمل في ظل الوضع الاقتصادي الصعب الذي تواجهه الدولة.
طالبت هذه الفئة من الشعب التونسي بفرص عمل جديدة وبتجديد منظومة الضمان الاجتماعي التي تآكلت مع مرور الوقت، عاشت تونس هذه الأحداث في الوقت الذي كانت فيه المؤسسات المالية الدولية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تدفع التونسيين لإجراء إصلاحات.
بالإضافة إلى ذلك، عاشت العاصمة اليونانية، أثينا، أنواعًا مماثلة من الاحتجاجات ردًا على إجراءات التقشف، اكتشفت على خلفية هذه الاحتجاجات جانبًا ثقافيًا جديدًا للمشكل، لا تملك تونس وجهًا ثقافيًا محددًا، مع ذلك تعتبر هذه الاحتجاجات انعكاسًا لثقافة دولة كبيرة واستبدادية يعتبرها العرب خلاصهم بعد فترات طويلة من الهيمنة الاستعمارية والتغلغل الأوروبي، ساهم وجود هذا النوع من الدولة، على مدى سنوات عديدة، في ترسيخ الأفكار حول دورها في حياة الناس.
هل من الممكن أن تخلق جهود هواة السلطة، الهادفة إلى بسط سيطرتها السياسية على المجتمعات من خلال الحوافز مثل العمل والتعليم والإعانات، ثقافة تملؤها التوقعات والأفكار حول المسؤوليات الاجتماعية والاقتصادية للدولة؟
قد تكون الدولة العربية الكبيرة شيئًا من الماضي، ولكن يبدو أن المواطنين لا يزالون، بعد عقود من التنشئة الاجتماعية، ميالين إلى التبعية التي أنشأها القادة العرب، مثل الرئيس جمال عبد الناصر والحبيب بورقيبة في تونس، وغيرهم، في منتصف القرن العشرين.
لا نجد التحدي الثقافي نحو الإصلاح في الجمهوريات المتواجدة في الشرق الأوسط فقط، يعد برنامج “رؤية 2030” الذي أطلقته المملكة العربية السعودية موضوعًا كثر بشأنه النقاش، حيث إنه وعد بتغيير العلاقة بين المواطنين السعوديين، بما في ذلك النخبة، والنظام وتعزيزها، أتساءل مرة أخرى عما يدفع المحللين لتجنب التفكير في الثقافة والحديث عنها، وخاصةً الثقافة السياسية المزروعة من قبل الدولة.
ما الذي يدفع المحللين لتجنب التفكير في الثقافة السياسية التي يسلطها القادة؟
تتمحور وجهة نظري حول كل ما يتعلق بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة وقلقنا الجماعي فيما يخص التعامل مع أي شيء يرتبط بالثقافة، نحن نملك شعورًا متأصلاً يخبرنا بأن المثل الليبرالية هي الصحيحة والجيدة ووحدها القابلة للتطبيق في أي مكان.
لم يكن المصريون، على سبيل المثال، قادرين على القيام بالإصلاحات الاقتصادية التي تنظمها الولايات المتحدة على نحو فعال، لأن من شأن هذه الطريقة من الإصلاحات تقويض شعور التضامن الطائفي والانتماء المرتبطان ارتباطًا وثيقًا بالوسط الثقافي المصري الذي يقيم كثيرًا هذه النقاط.
لا تحتاج هذه الظاهرة الكثير من الأدلة لتكون واضحة، في نهاية المطاف، على الرغم من الفشل الذي شهدته مصر في الآونة الأخيرة، لا تزال مسألة الدولة والسياسة إشكالاً محوريًا لمسألة الثقافة.
يتبين لنا، من مسألة تنظيم تدفق مياه نهر النيل عن طريق بناء السد العالي في أسوان إلى معبر قناة السويس والإصلاحات الأخيرة، الشعور المتأصل بدور السلطة المركزية، بطبيعة الحال، هناك عدد كبير من الأسباب المحتملة الأخرى التي تفسر سبب فشل مصر في إصلاح نظامها الاقتصادي، التي من بينها ضعف السياسات الاقتصادية والأداء الاقتصادي، الذي أصبح اليوم مشكلة مستمرة، مع القليل من الاستثناءات.
يملك المصريون وعيًا تامًا بما يتعين عليهم فعله لحل المشاكل العالقة، إذن ما الذي يمنعهم من ذلك؟ هذا هو السبب في أنني بدأت أعتقد أن علينا أن نفكر بشكل أوسع حول ثقافة الدولة في الأنظمة الاستبدادية.
لا يرى الشعب التونسي والمصري وغيرهم في منطقة الشرق الأوسط تحديات في الحفاظ على الخصوصيات الحياتية التي تعيش بها هذه المنطقة بقدر ما يرون أن المحيط الثقافي الذي ولدته ثقافة التسلط أصبح يكوّن إشكالا حقيقيًا سيرمي بظلاله على كل ما يتعلق بالأفكار المرتبطة بدور الدولة وحقوق الأفراد والكرامة والمجتمع والهوية، وكل ما له تأثير دائم على السياسة والمجتمع.
المصدر: صحيفة الأتلانتيك