عندما وضع الفيلسوف والمفكر الألماني كارل فيرنر “Karl Werner“، مصطلح “التاريخانية” أو الـ”Historicism“، في العام 1879م، لا أحد يدري هل كان يقصد بالأساس دعم فكرة كارل ماركس عن المادية الجدلية والحتميات التاريخية، التي قال إنها هي التي تحكم حركة التاريخ وصيروات المجتمعات الإنسانية، ولكن الشاهد أن فيرنر قال بأنه يمكن تفسير التغيير الاجتماعي الذي يحدث سواء في صورة أحداث مفاجئة أو في صورة صيرورات ممتدة زمنيًّا؛ من خلال التاريخ.
ووافقه على ذلك الفيلسوف النمساوي كارل بوبر “Karl Popper“، الذي أكد في الكثير من كتاباته سواء في مجال فلسفة العلم، أو الفلسفة الاجتماعية والسياسية، على أن التاريخ أحد أهم الأدوات التي يمكن من خلالها معرفة حقيقة الظواهر الإنسانية ومآلاتها بدقة.
ولعل غياب هذه الرؤية كانت تقف وراء أحد أهم الأخطاء المفاهيمية التي وقعت فيها المجتمعات العربية فيما يتعلق بتوصيف النموذج الغربي على المستوى القيمي العام الذي تعيشه المجتمعات الغربية في إطار وجدانها الجمعي العام الذي يجمع بينها، أي تلك الأمور المحدِّدة للسلوك الغربي، على المستوى الفردي والجماعي، وتشكل فيما بين مجموع أجزائها الإطار الذي نعرفه في الوقت الراهن بـ”الغرب”، والذي يستند في الإطار العام، إلى المذهب الليبرالي “liberalism” بتطبيقاته المختلفة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
فغياب النظرة التاريخية؛ قاد إلى الكثير من التعميمات الخاطئة، التي طالت التطبيق أو محاولات تطبيق محتوى النموذج الغربي، ولاسيما على المستوى الفردي، في مجتمعاتنا العربية، ولاسيما مفاهيم الحرية الفردية، والرأسمالية التي في الغالب ما يتم تطبيقها في الإطار المعروف بالرأسمالية الكلاسيكية “Classical capitalism” التي توصف بالرأسمالية المتوحشة، التي لا تعبأ في الغالب بالجوانب الاجتماعية في آثار التطبيق.
ولعل أهم المقولات الخاطئة التي تثبت المدرسة التاريخانية خطأها في هذا الصدد، هو أن الرأسمالية والحرية، وغيرها من المفاهيم المرتبطة بالمذهب الليبرالي، إنما هي مفاهيم مطلقة في التطبيق.
ويعود ربما ذلك إلى حالة التقييد المطلق الذي تعيشه المجتمعات العربية تحت حكم الأنظمة الملكية المطلقة والعسكرتاريا التسلطية، والتي جعلت الشوق إلى الحريات “Freedoms” مطلقًا، وخصوصًا في المجال الاجتماعي والإنساني، مثل حرية الانتقال وحرية التعبير وغير ذلك، بالإضافة إلى أن حالة التعليم والثقافة والتنوير بشكل عام، قلصت كثيرًا من قدرات الكثيرين على الفهم الدقيق.
أضف لذلك، تأثير الدعايات الغربية من خلال مختلف وسائل القوة الناعمة أو الـ” Soft Power” التي قدمت النموذج الغربي باعتباره الجنة الأرضية، ضمن سياقات الحرب الباردة، ومواجهة الشيوعية والسعي إلى اختراق مجتمعات المعسكر الشرقي.
إلا أنه، وفي حقيقة الأمر، ظهرت عبر التاريخ الكثير من القيود في الغرب ذاته التي أمسكت بلجام جواد الليبرالية وتطبيقاتها، استجابة لاعتبارات اجتماعية عدة كادت أن تعصف بالنموذج ذاته، لولا هذه القيود، مع نظرة براجماتية أحيانًا، استجابت لاعتبارات سياسية، فحدَّت من انسياقات مبدأ “دعه يعمل دعه يمر” أو “Laissez faire Laissez Passes” الشهير، الذي نهضت عليه الحضارة الغربية الحديثة كما سوف نرى.
وفي حقيقة الأمر؛ فإنه في الأصل، لا توجد إطلاقات وثوابت في المجالات المرتبطة بالإنسانيات، فحتى على مستوى الفرد؛ ذات الفرد؛ لو قمنا بقياس ردود أفعاله إزاء الحدث الواحد؛ سوف نجد منظومة من ردود الفعل المختلفة حتى بين دقيقة وأخرى.
فالظاهرة الإنسانية ليست ثابتة، وتطبيقاتها لا تخضع لقوانين محددة مثل قوانين الفيزياء والكيمياء؛ لا حيث تجد القاعدة العلمية الصارمة التي تقول بأن النتائج قابلة للتكرار متى توافرت ذات ظروف التجربة، مطبقة في مجال العلوم الاجتماعية، فالظاهرة الإنسانية الأصل فيها التغيُّر وليس الثبات، مع استحالة – بالمعنى العلمي المجرَّد – من الأصل أن تتكرر ذات الظروف.
ففي مجال العلوم الطبيعية؛ يمكن التحكم في الظروف الموجودة، مثل درجة الحرارة وضغط الهواء وغير ذلك، بينما لا يمكن بالإطلاق – على سبيل المثال – التحكم في أهم عامل يؤثر في الإنسانيات والظواهر الاجتماعية، وهي الحالة المزاجية، سواء للفرد، أو للجماعات.
وقد يكون من المدهش للبعض القول، إن هذه الحالة المزاجية للجماعات، هي التي تتحكم في حالات الفوران المفاجئ والثورات التي تحدث في بعض المجتمعات، وهو أمر مهم له اعتباره الموضوعي، وليس مجرد عبارة عن ملاحظات أو استنتاجات.
وهناك مصطلح يعبر عن هذه الحالة بدقة، وهو “Panic“، وهو مصطلح يصف حالة الجماهير المتوترة قبل اندلاع الاحتجاجات الاجتماعية أو الثورات الشاملة، وبالتالي؛ فإن معرفة العوامل التي تقود إلى هذه الحالة؛ يمكِّن أية جماعات من إحداث ثورة أو فوضى في دولة أو في مجتمع آخر، ولكن بما أننا أمام ظاهرة متغيرة لا يمكن التحكم فيها أو في عواملها بالدرجة الكافية من الكفاءة والفاعلية؛ فإننا لا نجد أنفسنا أمام ثورات كل يوم في العالم، وإلا – كذلك – ما بقي عليها من مستبد!
الغرب.. تدقيق مفاهيمي وقيود الخصوصية!
يستند الغرب في إطار الفضاء الحضاري العام الذي يتحرك فيه، إلى مجموعة من المقولات الأساسية التي تشكلت عبر قرون طويلة من التطور الفكري والمجتمعي والسياسي، وأسست لما نعرفه بـ”الغرب” حاليًا، والذي أصبح علمًا على نمط معين من الأفكار والقيم والمنظومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بشكل يتجاوز الحيز “الجيوسياسي” “Geopolitical” الحالي للغرب، والذي يشمل أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، بالإضافة إلى أستراليا التي تُعتبر مثلها مثل الولايات المتحدة وكندا؛ امتدادًا لأوروبا الغربية القديمة.
العالم الغربي وملحقاته جيوسياسيًّا
فالغرب بالمعنى المفاهيمي كنمط حضاري عام، وليس بالمدلول الجيوسياسي الضيق، يتضمن أي مجتمع يحمل ذات النسق من هذا الإطار العام للفكر والمعيشة والتطور، بحيث يضع بعض علماء الاقتصاد والاجتماع السياسي، بلدانًا مثل اليابان وكوريا الجنوبية، ضمن السياق “الحضاري” الذي يحمل اسم “الغرب”.
فهناك إطار للتفكير، ينضم إليه بعض العلماء وليس على مستوى العامة فحسب؛ يضع كل الدول التي تعتمد الرأسمالية كإطار اقتصادي لها، والديمقراطية كإطار سياسي لتداول السلطة فيها، وقيم الحرية الفردية والعلمانية “Secularism” على المستوى المجتمعي والقانوني؛ في بوتقة “الغرب”.
وهو في حقيقة الأمر، تعميم في غير محله، ويتجاوز عن الكثير من الخصوصيات التي لهذه المجتمعات التي تتبنى المنظومة الغربية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولاسيما مجتمع عريق له جذوره التاريخية الضاربة، مثل المجتمع الياباني.
كما أن هذه الرؤية تتجاوز عن أن بعض هذه المجتمعات تبنت المنظومة التي خرجت من قلب أوروبا إلى العالم، وتم فرضها بقوة السلاح أحيانًا؛ إنما هي مفروضة لظروف سياسية وأمنية على هذه المجتمعات ارتبطت بترتيبات النظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث تُعتبر اليابان وكوريا الجنوبية، تحت الوصاية الغربية، والأمريكية تحديدًا، وتؤدي العديد من الأدوار الوظيفية في حماية المصالح الأمريكية الاقتصادية والأمنية في هذه المنطقة الحيوية من العالم، في مواجهة كيانات أخرى كبرى “معادية” أو منافِسة بمعنىً أدق، مثل الصين.
ولكن الفاحص المدقق؛ سوف يجد أنه الديمقراطية اليابانية، تستلهم في محتواها أو جوهرها التطبيقي؛ الكثير من التقاليد المتوارثة لليابان القديمة، فبالرغم من أن الدستور الياباني الذي تم إقراره في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ينزع عن الإمبراطور أية صلاحية تنفيذية؛ إلا أن الحكومة اليابانية ليست مستقلة تمامًا عنه خلافًا لما هو قائم في بريطانيا على سبيل المثال؛ حيث الملك أو الملكة يملك أو تملك ولكن من هو يجلس على العرش؛ لا يحكم.
كذلك منظومة القيم الأخلاقية والمجتمعية، وانعكاساتها على البنية التشريعية والقانونية، تختلف كثيرًا في اليابان، وفي كوريا الجنوبية، وفي الدول التي تدور في الفلك الغربي من خارج الإطار الجيوسياسي الغربي في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، عن منظومة الحرية الفردية والعلمانية الغربية.
بل إننا نجد هذا الاختلاف موجودًا حتى في ديمقراطيات ورأسماليات أوروبية عتيدة، مثل ألمانيا التي تختلف في نظامها الاجتماعي عن العلمانية الفرنسية العتيدة، وتبعًا لنظرية المجال الحيوي المعروفة في العلاقات الدولية؛ نجد أن النمسا والدول الجرمانية الانتماء أو التي خضعت لتأثيرات جرمانية سياسية وأنثروبولوجية في وسط أوروبا، تختلف تمامًا عن منظومة الفرانكوفون أو الأنجلوفون.
ويمكن القول إن التميم جائز في حالة الدول الأنجلوفونية والفرانكوفونية في الإطار الجيوسياسي المعروف باسم الغرب، والذي يضم – كما تقدم – أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية، عدا المكسيك، وملحق بهما، أستراليا، ولكن خارجه لا يمكن القول إن هناك نموذجًا أصيلاً للرأسمالية والتطبيقات السياسية والاجتماعية للنظرية الليبرالية التي تفرع عنها كل ذلك.
وهذه الخصوصية يمكن اعتبارها أحد أهم القيود الموضوعة – حتى في أوروبا ذاتها – على إطلاقات تطبيق الليبرالية كمذهب سياسي واقتصادي واجتماعي شامل، يصل به البعض إلى مستوى الدين في تنظيمه لشؤون حياة بعض المجتمعات، كما في الولايات المتحدة وفرنسا، ووغيرها من غلاة المجتمعات الغربية في التطبيق.
الليبرالية والرأسمالية من الكلاسيكية “البرية” إلى الاجتماعية “المُقيَّدة”
كما الخصوصية، فإننا نجد أن التطورات التي مر بها المذهب الليبرالي وتطبيقاته، وخصوصًا في المجال الاقتصادي ممثلة في الرأسمالية القائمة بالأساس على مبدأ السوق الحر “free market“، كانت في الغالب في صورة قيود على التطبيق.
في البداية ظهرت الليبرالية الكلاسيكية “Classical liberalism” التي ظهرت فيما يعرف بعصور التنوير ” Enlightenment“، والتي بدأت في القرن السابع عشر الميلادي، على إثر التغييرات العميقة التي أحدثتها الحروب الدينية التي دامت طيلة ثلاثمائة عام، وأدت إلى تقليص صلاحيات الكنيسة، والملكيات المطلقة، لصالح الدولة القومية بعد صلح ويست فاليا، في العام 1648م، والذي انهى الحروب الدينية في أوروبا، وأسس لنظرية الحدود السياسية بين كيانات تضم أممًا مستقلة في هويتها عن جيرانها.
وكانت الليبرالية الكلاسيكية التي كرستها في المجال الاقتصادي، أفكار آدم سميث في القرن الثامن عشر، ولاسيما مبدؤه الشهير، “دعه يعمل دعه يمر”، شديدة التطرف في تبنيها لمبدأ الحرية الفردية الذي نهضت عليه الليبرالية كقاعدة رئيسية، استجابةً أو كردَّة فعل عكسية لسلطة الكنيسة الخانقة طيلة القرون السابقة.
ولذلك، ومع تواتر الاضطرابات الاجتماعية التي نشأت بسبب المظالم التي ترتبت تطبيق هذا المبدأ في المجال الاقتصادي، بشكل وصل إلى شكل من أشكال العبودية الحديثة لأصحاب رؤوس الأموال والبروجوازية، لعنصر العمل؛ ظهرت في نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ما يطلق عليه الليبرالية الاجتماعية التي خففت كثيرًا من طبيعة اقتصاد السوق الحر الذي انتجته أفكار آدم سميث، إلى ما يطلق عليه “اقتصاد السوق الاجتماعي”، والذي يُعتبر منطقة وسط بين الرأسمالية المتوحشة في صورتها المطلقة التي تعمد إلى استغلال الإنسان وطاقاته، وبين الاشتراكية والشيوعية التي وجدت بيئة خصبة لها في المجتمعات والأوساط التي تعرضت لمظالم الرأسمالية.
ويقوم اقتصاد السوق الاجتماعي على أساس مبدأ التوازن بين الحرية المطلقة والمساواة المطلوبة ومصالح الجماهير، وفق منظومة منسقة من الخدمات الاجتماعية، تشمل التعليم المجاني والتأمين الصحي والضمان الاجتماعي، وغير ذلك.
وكانت إنجلترا أول كيان كان يطبق الرأسمالية وفق المنظور الليبرالي الكلاسيكي، يطبق هذه الأفكار بعد انتشار أفكار ماركس وإنجلز في أوساط البروليتاريا والطبقة العمالية، مما كان ينذر بثورات أو على الأقل اضطرابات اجتماعية بعيدة المدى، قد تقوِّض بريطانيا كدولة عظمى مستعمِرة في ذلك الوقت.
عمالة النساء والأطفال وضعف الأجور وغياب نظام للضمان الاجتماعي كان وراء تقييد الرأسمالية في صورتها الأولى تفاديًا لمشكلات واضطرابات اجتماعية
وكانت الإجراءات التي تبنتها الرأسمالية البريطانية، وخصوصًا في ظل سماح النظام الديمقراطي الليبرالي الذي كان قد تطور بشكل كبير في ذلك الوقت، في بريطانيا، بظهور أحزاب وكيانات نقابية عمالية؛ وراء عدم تحقق نبوءات ماركس وأنجلز بأن انجلترا سوف تكون أول بلد أوروبي تندلع فيه ثورة شيوعية، وكانت روسيا هي التي وقع فيها ذلك، وكان للغرابة ذلك لا يعود لواقع الطبقة العمالية بالأساس، وإنما بسبب المظالم التي وقعت على فلاحي الأرض، الذين دفعوا ثمن مشاركة روسيا في الحرب العالمية الأولى، من دون أي إمكانيات اقتصادية حقيقية لذلك.
كان ما جرى في إنجلترا في تلك الفترة الزمنية الانتقالية، أول قيد وُضع على الرأسمالية كنظام اقتصادي له تأثيراته الاجتماعية.
الرأسمالية وقيود السياسة في عصرنا الراهن
رأينا – إذًا – أن الخصوصية فرضت قيودًا على الرأسمالية، والتطورات التي فرضتها التبعات الاجتماعية للتطبيق، قد فرضت بدورها قيودًا على الرأسمالية.
والآن نصل إلى نوعية أخرى من القيود، وهي القيود السياسية المنبنية على “فقه” المصالح “Interests” أو “benefits” لو صحَّ التعبير.
وهنا أمامنا الكثير من النماذج التي توضح ذلك بجلاء، وأهم ما فيها، هو أنها تبرز سيطرة القرار السياسي السيادي حتى على أهم مبادئ الرأسمالية وهي حرية القطاع الخاص في العمل وفق مبدأ” دعه يعمل دعه يمر” هذا.
النموذج الأول، من الولايات المتحدة، فعلى الرغم من أنها أحد اهم مكونات القوى المؤثرة في القرار الأمريكي ضمن المَجْمَع الصناعي العسكري “Military Industrial Complex“؛ فإنه لا يمكن لشركات تصنيع السلاح الخاصة، والشركات الخاصة العاملة في قطاعات حساسة مثل الطيران والتقنية الحديثة، أن تقوم بتصدير منتجاتها إلى دول بعينها، أو من دون إذن من السلطات الفيدرالية.
فلا يمكن مثلاً لشركة “لوكهيد مارتن” تصدير مقاتلة “إف. 35” إطلاقًا من دون إذن السلطات السيادية الأمريكية، حتى لإسرائيل نفسها، وهو في الأصل ليس قرار الشركة، وبدا ذلك واضحًا في تسليم نموذجين من هذه المقاتلة المتفوقة إلى الكيان الصهيوني، في خريف هذا العام، بعد مفاوضات استغرقت سنوات طويلة.
وذات الشيء ينطبق على شركات تصنيع المايكروشيبس وتقنيات الصواريخ والحاسب الآلي والبرمجيات المتقدمة، وقائمة أخرى لا تنتهي من المجالات.
قيود السياسة تبدو كذلك على مبادئ الرأسمالية والليبرالية الأهم، مثل حرية حركة رؤوس الأموال، والانتقال.
ففي الحالة المصرية والتونسية في الوقت الراهن؛ نجد أن الغرب يفرض على مستثمريه عدم توجيه رؤوس أموال ضخمة للضخ إلى هناك، بل إنها أحد السياسات المعروفة التي لجأ إليها الغرب في كثير من الأحيان خلال عقود الحرب الباردة، كأحد صور الحصار الاقتصادي غير المباشرة أو غير المعلنة تفاديًا لتعقيدات السياسة.
الرأسمالية الغربية تفرض رؤية واحدة على الاقتصاد العالمي
وهو في الغالب ما يتم بتوجيهات إما رسمية مباشرة بين الحكومات المحافظة الموجودة في لندن، وفي مراكز صناعة القرار الأمريكي الحقيقية، مثل الكونجرس، وبين كبار أصحاب رؤوس الأموال والشركات، وخصوصًا تلك العاملة في المجالات الاستراتيجية، مثل الطاقة وقطاعات التصنيع الثقيل والإنشاءات، أو بصورة غير مباشرة من خلال تقارير لمؤسسات مالية دولية تضع هذه البلدان في درجة ما من المخاطر الاستثمارية أو بسبب أنها ذات أوضاع أمنية وسياسية غير مستقرة أو لا تتمتع بالبنية التحتية والتشريعية الملائمة، بحيث يعزف المستثمرون والشركات عن العمل فيها.
وهنا يمكن القول إن تقارير المؤسسات المالية الدولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد، أو مؤسسات الائتمان العالمية، مثل “فيتش” و”ستاندرد آند بورز”؛ ليست خالية تمامًا من السياسة، بل إنها سياسية محضة.
فتوجيه هذه التقارير معروف وهناك اتهامات من حكومات عدة في عالمنا العربي والإسلامي لها، بعدم العدالة، والتسييس المتعمد، وأهمها اتهامات للحكومة التركية والحكومة السعودية وكذلك الحكومة المصرية، بأن هذه المؤسسات تعمل على توجيه تقارير هذه المؤسسات بما يخدم المصالح الغربية في هذه الدول، والتي تنصب – أي هذه المصالح – على تعويق اقتصاديات هذه الدول، وتعطيل خطط التنمية فيها، وتمكين المؤسسات المالية الدولية التي أسستها الحكومات الغربية بعد الحرب العالمية الثانية لتحقيق كامل سيطرتها على الاقتصاد العالمي، من التحكم في اقتصاديات الدول العربية والإسلامية.
ونفس السياسة مطبقة في مجال السياحة؛ حيث في الغالب نشرات التحذير الأمني، يرافقها دعمٌ من وزارات خارجية بعض البلدان الغربية، كما تم في حالة تركيا ومصر ولبنان، وأكثر من بلد عربي وإسلامي في الفترة الأخيرة، بينما مئات الآلاف من الغربيين يزورون دولاً غير مستقرة في غرب ووسط أفريقيا، ولا نرى مثل هذه الإصدارات.
هذا في ظل حقيقة مهمة، وهي أن مفكري الغرب أنفسهم عرَّفوا الرأسمالية على أنها نظام اقتصادي يقوم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وخلق السلع والخدمات من أجل الربح، ومن دون قيود على عملية انتقال عناصر الإنتاج الأربعة، وتشمل رؤوس الأموال والعمل، في إطار من التنافسية المفتوحة في أسواق مفتوحة بدورها!
وفي الأخير؛ فإنه لعل في الجزئية الأخيرة لهذا التطواف التاريخي والموضوعي في دفتر أحوال تطور الليبرالية، وتطبيقها في المجال الاقتصاد السياسي، والتي تحمل مسمى الرأسمالية؛ هي ما يهمنا كعرب ومسلمين في الوقت الراهن.
ولئن كان هناك رسالة في هذا كله، فهي أنه أولاً لن يمكن للأمة وبلدانها أن تتطور مادامت تدور في الفلك الغربي، وتعتمد على الغرب في صيرواتها السياسية والاقتصادية، وأنه من دون تطوير عناصر القوة والمناعة الذاتية؛ سوف تبقى شعوبنا إلى الأبد أسيرة للمصالح الغربية.
الرسالة الثانية، وهي الأهم، ومترتبة على ما سبق؛ تكمن في أن الأمم التي تمسكت بخصوصياتها، ولم تنغلق في الوقت ذاته عن العالم الخارجي، وتفاعلت بالشكل الصحيح الرشيد مع السوق العالمية والمجتمع العالمي؛ قد حالفها النجاح، والصين أهم هذه النماذج.
وهو ما يعني أن النجاح لا يعني تقليد الغرب، بل والمزايدة عليه بتطبيقه مفاهيمه بطريقة غير مقيدة بأي قيد أخلاقي أو قيمي، وإنما النجاح الحقيقي في أن تكون ذاتك، وتجبر الآخرين على احترام خصوصياتك ومصالحك!