منذ أن انبثقت تجربة المجالس المحلية في المناطق غير الواقعة تحت سيطرة نظام الأسد وهي تخضع لدراسات وبحوث معمقة حول نشأتها ودورها وواقعها الراهن وما يمكن أن تؤديه في المرحلة الانتقالية، وغني عن البيان القول بأن المجالس أصبحت إحدى المسلمات الأساسية التي يستدعيها الحل السياسي للأزمة السورية باعتبارها أحد أبرز الفاعلين المنفذين لتفاصيل الاتفاق السياسي المنتظر، إن كان على المستوى المحلي أو الوطني وبغض النظر فيما إذا كانت سورية دولة موحدة تدار من خلال اللامركزية الإدارية الموسعة، أو من خلال فيدرالية تحكمها وحدات سياسية محلية.
ولكي تمارس المجالس الدور المرجو منها حاليًا وفي المرحلة الانتقالية فإنها بحاجة إلى مقومات العمل الضرورية وفي مقدمتها توفر التمويل واستقراره، فبقدر ما تتوافر للمجالس موارد مالية متنوعة ومستقرة، فإنها تتمكن من أداء مهامها وترسيخ مكانتها في المجتمع المحلي كجهة مركزية في توفير الخدمات للسكان المحليين، في حين أن غياب الاستقرار المالي يجعل المجالس مهددة بالتوقف عن العمل أو تقليص حجم دورها في إدارة مجتمعاتها المحلية، الأمر الذي يفتح المجال أمام قوى أخرى لا تعبر بالضرورة عن مصالح المجتمع المحلي ككل للتدخل وأخذ زمام المبادرة.
وضمن هذا السياق، فقد أكدت أغلب نتائج الدراسات ذات الصلة، مركزية إشكالية التمويل التي تعاني منها المجالس المحلية، ومنها ما أصدرته منظمة اليوم التالي ضمن دراسة مسحية بعنوان “المجالس المحلية في عيون مجتمعاتها” جاء فيها، أن أربعة مجالس من أصل خمسة شملهم المسح البياني قد وضعت التمويل في مقدمة المشاكل التي تواجهها، وتعتبر هذه النتيجة واقعية في ظل ما تواجهه المجالس من عجز مالي ناجم عن ضعف استقرار الإيرادات المالية من جهة وصعوبة ضبط النفقات – لاعتبارات عديدة تتعلق بالوضع الأمني وحجم الأزمات الخدمية التي تحتم على المجالس لعب دور فيها – من جهة أخرى.
وإن كانت المجالس تتباين من حيث تنوع مواردها المالية واستقرارها فإنها لا تخرج عن مصدرين رئيسين هما، الدعم الخارجي بشكليه العيني والمادي الذي تقدمه الجهات المانحة إضافة إلى الدعم المقدم لها من قبل هيئات المعارضة الرسمية كالائتلاف والحكومة السورية المؤقتة، وإن كان قد تضاءل إن لم يكن اختفى كليًا نتيجة العجز المالي الذي تشهده هذه المؤسسات، يضاف إلى ما سبق الدعم المادي الذي يوفره الأفراد والقوى المحلية العسكرية منها والمدنية لتلك المجالس.
وإلى جانب الدعم الخارجي فقد تمكنت المجالس من توفير موارد ذاتية شملت الضرائب والرسوم المحلية وما تحقق لها من عائدات المشاريع التنموية التي أسستها، علمًا أن المجالس قد حققت نجاحات لا يمكن إنكارها على صعيد تنمية مواردها الذاتية خصوصًا على صعيد الجباية المحلية التي بدأت كتجربة خجولة في 2014 في حلب وإدلب لتعمم تدريجيًا على بقية المجالس القائمة في مناطق سيطرة فصائل المقاومة الوطنية، وإن كانت ما تزال تواجه تحدياتٍ تحول دون بلوغها المستوى المأمول في تمويل المجالس، إلا أنها وبدون شك خطوة تحسب لها.
ما يلفت الانتباه في الدراسة التي أصدرتها منظمة اليوم التالي، ميل العينة لتأييد تمويل المجالس المحلية مؤقتًا من الخارج، وفي الوقت الذي يمكن تبرير هذه النتيجة بضعف الثقة في الآليات المتبعة من قبل المجالس لتنمية مواردها الذاتية والنتائج المتحققة عنها من جهة – علمًا أن ذلك يحتاج إلى وقت طويل وبيئة مستقرة وتفاعل مجتمعي إيجابي مع جهود المجلس -، والرغبة في حلول سريعة تحقق الاستقرار المالي لها من جهة أخرى، إلا أنه يجب التنويه إلى مخاطر استمرارية اعتماد المجالس على الدعم الخارجي، إذ إنه يفتح الباب أمام تبعيتها للجهات المانحة التي تنفذ برامجها الخاصة والتي قد لا تتوافق بالضرورة مع أولويات المجتمعات المحلية، أي تحوّل المجالس إلى وكلاء محليين مرتبطين بأجندات خارجية سواءً كانوا يعون ذلك أم لا، علاوة على تقويض الجهود التنموية التي تقودها المجالس لتعزيز مواردها الذاتية.
أمام هذا الواقع ولكي نحمي مشروع المجالس المحلية من عبث أيادي الخارج وتفويت الفرصة على الطامعين فيها ممن يريدون تحويلها إلى مجرد واجهات لمصالحهم أو وكلاء محليين لسياساتهم، ولكي نحفظها بعيدًا عن التدخلات التي يمكن أن تقوض تجربتها، ولنعزز دورها واستقلاليتها حاليًا وعلى المدى البعيد، فإن الدعوة موجهة لتضافر جهود القوى الوطنية من أجل دعم المجالس بما يضمن تفعيل مواردها الذاتية بالشكل الذي ينعكس إيجابًا على المجتمع المحلي، هي دعوة لإبقائها أملًا للسوريين فهي أجمل ما أفرزته الثورة، وهي مستقبلنا الذي نسعى أن نحقق من خلاله مطالبنا التي خرجنا لأجلها بالحرية والكرامة والعدالة.