أصبحت الحدود المرسومة بين دول المنطقة منذ العام 1916 كما أقرتها اتفاقية سايكس بيكو، هشة وغير متماسكة وباتت عرضة للانهيار في أي وقت، سوى أن ذلك الانهيار لن يكون اعتباطيًا بحيث تترك الدول الكبرى دولًا في المنطقة لتشكل وحدة عربية أو خلافة إسلامية، بل ستعمل على إعادة تشكيل المنطقة من جديد بحسب نفوذ ونشاط الدول الكبرى فيها، لتتشكل كيانات ودويلات أصغر حجمًا.
سنحاول فيما يلي النظر في نفوذ دول كبرى جديد تكون في السنوات الأخيرة على بعض الدول العربية لنرى الشكل الجديد الذي قد تنتج عنه أي خريطة مستقبلية بحسب ذلك النفوذ من انسلاخ كيانات أو دويلات جديدة أو ضم مناطق لدول وتفتيت أخرى مع ثبات بقاء الولايات المتحدة في كل الدول وتحكمها بأدوات الصراع، وكيف تسير مجريات الأحداث.. لصالح من؟! من الرابح ومن الخاسر؟!.
تركيا
تخلت تركيا عن السياسة الدفاعية في الأشهر الأخيرة بعد سنوات من اعتماد “صفر مشاكل” والتي يعد عرابها أحمد داود أوغلو رئيس الحكومة السابق. أما الآن فالسياسة الهجومية هي محرك السياسة التركية الخارجية، إذ لم تعد تركيا تنتظر مشاكل المنطقة من حولها وتشاهدها بدون تدخل، فعلى لسان أردوغان في معرض تعليقه على التحديات الإقليمية التي تواجه تركيا بالخطر داخليًا وخارجيًا قال في 19 أكتوبر الجاري “اعتبارًا من الآن لن ننتظر المشاكل لتدق أبوابنا ولن نصبر على المخاطر والتهديدات حتى تصل إلينا إنما سنسير باتجاه المشاكل بأنفسنا”، وأضاف أنه “لن نننتظر التنظيمات الإرهابية لتهاجمنا إنما سنهاجم المناطق التي تختبئ فيها تلك التنظيمات وسندمر قواعدهم فوق رؤوسهم وسنجتث جذور كافة الأطراف الداعمة لها”.
تركيا التي شملتها المخططات التقسيمية رأت أن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع عن نفسها وأن تسهم في صياغة الخرائط الجديدة بدلًا أن تكون جزءًا منها، وخصوصًا بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي حصلت في منتصف يوليو/ تموز الماضي. وقد أقر البرلمان التركي مؤخرًا القيام بعمليات عسكرية خارج الحدود وتحديدًا في سورية والعراق لسنة إضافية.
ويظهر النفوذ التركي مؤخرًا في تدخل تركيا في شمال سورية تحت “درع الفرات” في 24 أغسطس/ آب الماضي بدون إذن أحد، حيث تمكنت من تطهير المنطقة من جرابلس والراعي بمساحة لا تقل عن 960 كم مربع، وتسعى كذلك للدخول في معركة الموصل في العراق لطرد تنظيم الدولة الإسلامية منها من خلال جنودها الموجودين في قاعدة بعشيقة شمال الموصل بالاشتراك مع القوات العراقية وقوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، كما أنها مستعدة للدخول في معركة الرقة في سورية لطرد قوات داعش منها بالتعاون مع روسيا والتحالف الدولي بدون وجود قوات الـ”بي ي دي” الأعداء اللدودين للحكومة التركية.
ترى تركيا أن لها الحق في المشاركة في عمليات الموصل ليس بنية المشاركة فقط بل لاستعادة حقها المسلوب منها منذ 400 سنة، كما أشارت لذلك صحف تركيا وأجنبية بداعي إيقاف المخططات التي ترسم للمنطقة، وأنها أحق بها من أي دولة أخرى كإيران وأمريكا أو الدول الغربية.
وتستند تركيا في تدخلها بالموصل إلى اتفاقية أنقرة الموقعة مع بريطانيا والمملكة العراقية آنذاك والتي حسمت سيادة الموصل للعراق بشرطين يتضمن أحدهما إعطاء تركيا حق التدخل العسكري في الموصل وشمال العراق إذا كان هناك خطر يهدد وحدة الأراضي العراقية وحياة الأقلية التركمانية والبالغ عددهم نحو مليون شخص موجودين في مدينة كركوك.
الجدير بالذكر أن معاهدة لوزان الموقعة في العام 1923 تنتهي في العام 2023، حيث وعدت الحكومة شعبها في ذلك التاريخ أن تكون أمة كبرى وقوة عظمى واقتصاد متين، ويظهر أن تحركات تركيا الأخيرة ومناوراتها في المنطقة تجعلها لاعبًا رئيسيًا في مستقبل المنطقة التي يتم رسم معالمها من جديد، وبحسب ما أوردت صحيفة الفورين بوليسي فإن تركيا تبث خريطة في الإعلام المحلي تشمل بسط نفوذها على الموصل وأجزاء من حلب والرقة والحسكة. لذا فإن تركيا قد تكون أبرز الرابحين في أي خريطة جديدة قد تتشكل في المستقبل من حيث ضم مناطق إليها مثل الموصل وكركوك وأجزاء في شمال سورية كشمال حلب والرقة والحسكة.
لبنان
تحول لبنان إلى ساحة صراع وتصفية حسابات بين القوى الإقليمية والدولية، ظهر فيها لبنان كأكبر الخاسرين في كل شيء من أرض وسكان، فعلى مر العقود الماضية وجد لبنان نفسه مرتهنًا بإرادات خارجية دولية فرنسية وأمريكية ومن ثم إقليمية سورية وسعودية وإيرانية فضلًا عن محاولة إسرائيل التدخل فيه وفرض أجندته عليه.
إذ تعد الطائفة الشيعية وحزب الله الحليف الرئيسي لإيران في لبنان التي تسعى من خلاله لبسط نفوذها عليه وتتعامل مع لبنان وكأنها محافظة إيرانية تابعة لها، وتسعى لاستكمال مشروع الهلال الشيعي، وقطع أي مشروع سني تقوم به إحدى الدول العربية تمكنه من التكتل والتأثير على إيران، كما زجت حزب الله في الصراع السوري فضلًا عن تدخله في دول عربية أخرى.
وقد قطعت السعودية مساعداتها المالية والعسكرية للبنان بسبب تحكم حزب الله في قرارات الدولة وشؤونها، وصنف مجلس التعاون الخليجي حزب الله منظمة إرهابية، وكانت السعودية منذ اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان دعمت السنة ووضعت ثقلها فيه إلا أن تغول إيران وسورية في لبنان خلال العقدين الماضيين قوى شوكة حزب الله في لبنان حتى تدخل في شؤون الدولة وقراراتها بشكل كبير وأثر على علاقة لبنان مع السعودية ودول عربية أخرى. لذا ظهر النفوذ الإيراني في لبنان بشكل جلي في الماضي والذي بات أمرًا واقعًا لا يمكن تجاهله يتدخل في الشؤون السياسية والاقتصادية اللبنانية ويفرض أجندته عليه، بينما تضاءل النفوذ السعودي الذي برز كمنافس كبير لإيران في لبنان في الفترة الأخيرة.
العراق
مثل الاحتلال الأمريكي للعراق 2003 علامة مفصلية في العراق أنتج نتائج كارثية على البلد لا يزال يعاني منها حتى الآن، إذ لم تنجح الأطراف العراقية في بناء نموذج وطني متماسك بعد إسقاط حزب البعث ونظام صدام حسين، ودخلت القوى المتناحرة والتابعة لدول مختلفة في صراعات داخلية أدت لضرب النسيج الاجتماعي والاقتصاد العراقي.
حيث سعت كل من الولايات المتحدة وإيران لترسيخ نفوذها في بغداد بدعم نوري المالكي، أما تركيا وبعض القوى الغربية فعملت على دعم الأكراد في شمال العراق في إقليم كردستان العراق وترسيخ حكمهم الذاتي.
وبعد ظهور داعش في العراق وسيطرتها على الموصل أكبر مدينة في العراق بعد بغداد تعقدت خريطة التحالفات أكثر في العراق، إذ استنزفت داعش خزينة الدولة في حربها معه واستقدم العراق التحالف الدولي بغرض القضاء على داعش، ومع استحقاق معركة الموصل بدأ الخلاف بين حكومة بغداد وأنقرة على دخول الأخيرة في معارك الموصل، إصرار أنقرة في الدخول للموصل يخضع خريطة النفوذ في العراق لتوسع النفوذ التركي فيه بعد تواجده في إقليم كردستان العراق. وبغض النظر عن تقسيمات الحدود بين الدول فإن العراق مقسم من حيث النفوذ بين تركيا وإيران.
سوريا
خرج السوريون في منتصف آذار/ مارس 2011 في ثورة للمطالبة بالحرية كما طالبها قبلهم في تونس ومصر وليبيا واليمن، وبعد ستة أشهر من تغول النظام السوري في الحل الأمني ضد المتظاهرين السلميين تحولت الثورة من سلمية إلى ثورة مسلحة أدت فيما بعد لانشقاقات كبيرة على مستوى مؤسستي الأمن والجيش.
ومع اتساع رقعة المواجهات بين النظام والجيش السوري الحر وخروج بلدان ومدن عن سيطرة النظام، استعان النظام بحلفاء له من القوى الخارجية كإيران وروسيا اللتين لبتا الدعوة ودعمتا الأسد ماليًا وعسكريا فاستعان الطرف الآخر بأطراف إقليمية كالسعودية وقطر وتركيا ودولية كفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، وتشكلت غرف استخباراتية في دول جوار سورية تضم استخبارات إقليمية ودولية كثيرة.
ومن ثم شكل دخول القاعدة إلى سورية بعدما أصبحت حاضنة لهم نقطة مفصلية في الصراع السوري، إذ سرعان ما انفصل فصيل عن القاعدة وشكل الدولة الإسلامية في العراق والشام، فانحرف الصراع في سورية ليأخذ منحى آخر وهو مكافحة الإرهاب والقضاء على التنظيمات الإرهابية وهي داعش والنصرة، فتشكل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لضرب التنظيم في العراق وسورية.
ومن جهة أخرى بدأت روسيا تتوغل أكثر في الصراع السوري من خلال بناء قاعدة عسكرية حميميم في طرطوس ونشر منظومة صورايخ إس 300 واستقدام سفن وبوارج حربية إلى السواحل السورية، وبتدخل روسيا البري في سورية تغيرت معادلات الصراع فيها بشكل كلي وأصبح الجيش الحر يواجه إلى جانب النظام السوري، روسيا، التي تسعى لبسط سيطرتها على سورية حتى باتت الوكيل الرسمي عن النظام السوري في المحافل الدولية والإقليمية، واتخذت الولايات المتحدة (الحليف الرئيسي للمعارضة السورية) دور المعارضة السورية، فأصبح قرار الهدنة في حلب يتخذ من خلال اجتماع ماراثوني بين وزيري خارجية أمريكا وروسيا كيري ولافروف دون النظر للأطراف الأخرى.
وتظهر خريطة النفوذ في سورية أن البلاد مقسمة بين روسيا الساعية لاستعادة أمجاد روسيا القيصرية، وإيران الحليف الطائفي للنظام السوري، ومن ثم تركيا التي تدخلت في شمال سوريا من خلال درع الفرات بذريعة حماية حدودها وطرد تنظيم داعش الإرهابي وتسعى للدخول في معركة تحرير الرقة من داعش إلى جانب التحالف الدولي وروسيا، بينما لا يبدو لأي من الدول العربية أي نفوذ لها في سوريا.
ليبيا
تحولت الثورة الليبية التي انطلقت في 17 فبراير من العام 2011 بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي إلى صراع مسلح بين عدة أطراف لا يزال قائمًا حتى الآن، ويعد المشهد الليبي الأكثر تعقيدًا من بين كل الدول العربية.
أخذ المشهد الليبي يتغير بشكل تدريجي بعد 19 مارس/ آذار من العام نفسه، حيث عقد مؤتمر دولي في باريس حول الوضع الليبي أعلن فيه إقرار قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1973 وبدء الحظر الجوي على ليبيا وبدأت الضربات الجوية لقوات التحالف باستهداف الفلول الموالية للقذافي.
وبعد نجاح قوات التحالف وفصائل الثوار على الأرض من دخول طرابلس والسيطرة عليها وقتل العقيد معمر القذافي بعدها بشهرين، بدأ الصراع الليبي ينحو منحى آخر، إذ لم تتنازل الميليشيات المسلحة من الثوار عن أسلحتها، فدارت معارك طاحنة بين تلك الميليشيات التي تكتل بعضها وسيطر على مدن وبدأت تنافس على السلطة ووصل أحيانًا لحد الانفصال عن ليبيا.
وظهرت خريطة التحالفات الدولية الداعمة للقوى السياسية الليبية والتي أدت إلى احتدام الخلافات السياسية بين اللاعبين السياسين وتعطل أي اتفاق سياسي حاصل بينهم، وبسبب الفراغ السياسي والأمني في البلاد أصبحت ليبيا بيئة حاضنة للإرهاب والجماعات المتطرفة بعد مبايعة مجموعات متشددة لداعش وسيطرتها على الشريط الساحلي الغني بالنفط بمدينة سرت.
وتنبع أهمية ليبيا لكل الدول لاعتبارين أبرزهما الموقع الجغرافي، حيث تشارك ليبيا حدودها مع ست دول ثلاثة منها تعتبر مؤثرة إلى حد كبير في خريطة الصراع في الشرق الأوسط وهي مصر والسودان والجزائر، أما الأهمية الأخرى فهي النفط، حيث تقدر احتياطيات ليبيا المؤكدة بنحو 46.6 مليار برميل.
وبالنظر إلى خريطة النفوذ التي نتكلم عنها شهد الميدان الليبي خريطة تحالفات إقلمية ودولية معقدة جدًا تظهر من خلال جناحين الأول هو تركيا، وقطر، والسودان، والثاني هو مصر، والسعودية، والإمارات، إذ يدعم الجناح الأول الحكومة الليبية في طرابلس غير المعترف بها دوليًا فيما يدعم الطرف الآخر حكومة طبرق المعترف بها دوليًا والجيش الوطني وقائده خليفة حفتر، وكل جناح يدعم حليفه ماليًا وعسكريًا.
أما القوة الغربية الموجودة في ليبيا والتي تحاول هي الأخرى فرض هيمنتها على أجزاء من ليبيا والتأثير في مجريات الأحداث هناك، حيث ذكرت صحف أجنبية عن تواجد قوات خاصة لكل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، ويظهر مما سبق أن ليبيا مقسمة من حيث النفوذ بين كل من فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة بالإضافة لتركيا ومصر.
اليمن
على إثر الثورة السلمية التي قام بها اليمنيون والتي أدخلت البلاد في عملية سايسية طويلة على أساس مبادرة خليجية قدمتها السعودية وفصلت آلياتها الأمم المتحدة، لم تكن جماعة الحوثي جزءًا من تلك الصفقة والتي رفضتها منذ البداية لذلك تم تجاهلها في حكومة الوفاق الوطني ولكنها قبلت مع ذلك المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني الذي يعد جزءًا هامًا من المبادرة.
إلا أن جماعة الحوثي ومن معها من حزب المؤتمر الشعبي من جناح الرئيس السابق علي عبد الله صالح عاودت عملياتها المسلحة التوسعية وتمددت حتى سيطرت على العاصمة صنعاء، وبعدها جاء قرار تشكيل تحالف عربي بقيادة السعودية لضرب الجماعة والتي تقف من ورائها إيران.
وتظهر خريطة النفوذ الجديدة في اليمن من خلال الصراع الدائر بين إيران الداعمة لجماعة الحوثي ماليًا وعسكريًا والسعودية الداعمة للحكومة المبادرة برئاسة عبد ربه منصور هادي.
فسيطرة الحوثيين ومن ورائهم إيران على صنعاء تزامن مع انتصارات تنظيم داعش في العراق وسورية، وسيطرة حزب الله (يد إيران في لبنان) على الدولة بشكل ملحوظ، وتمدد قوات النظام السوري المدعوم من قبل إيران وروسيا ورجحان كفته على كفة المعارضة السورية، لذا فسرت السعودية الأحداث أنها محاولة من قبل إيران للتمدد وتطويق السعودية، فسارعت السعودية للتدخل في اليمن لإيقاف تمدد إيران. لذا تبقى أي خريطة مستقبلية لليمن مقسمة بين كل من إيران والسعودية.
والمحصلة أن السنوات الماضية رسخت تغييرًأ في شكل المنطقة العربية قد يأتي في الأعوام المقبلة بسبب تغلغل نفوذ عدة دول في المنطقة فتدخل روسيا في سوريا كان حدث مفصلي في تاريخ المنطقة ومن ثم دخول تركيا في درع الفرات في سوريا وصراعها مع الحكومة العراقية للدخول في معركة الموصل شكل الانعطافة الأخرى ولا ننسى التغلغل الإيراني الممتد في عدة دول عربية كاليمن وسوريا ولبنان.