إذا كان تيودور هرتزل أبو الحركة الصهيونية والمؤسس الفعلي للكيان الصهيوني، فلا شك أن كتابه “دولة اليهود Der Judenstaat” الذي ألفه صيف 1895 هو كتاب الصهيونية المقدس، ولعله أقدس من التوراة في نظرهم، وهو مصدر الإلهام الأول عندهم، كما أنه فتح أمامهم حقبة جديدة من التاريخ، وهو لا يقدر بثمن في نظرهم، حتى لو كانت عدد صفحاته 100 صفحة تقريبًا!
الكتاب صغيرٌ جدًا لو أمسكته، ولا يمكن للواحد منا أن يتخيل بأن هكذا كتاب وهو أقرب لكتيب من أي شيء آخر، أن يكون المحرك والملهم لقيام الكيان الصهيوني وبالتالي تهجيرنا ونكبتنا، وكأن الـ 100 صفحة قليلة، ربما هي قليلة، ولكن يبدو أن المهمة لم تكن سهلة حيث يقول هرتزل بأنه لم يكتب شيئًا آخر بمثل الحمية الذهنية التي كتب فيها كتابه هذا، ويؤكد بأنه كان يكتب ماشيًا وواقفًا وفي الشارع وعند الطعام وفي كل وقت، والمثير أنه يعترف بعد ذلك كله بأن الكثير مما كتبه مبلبلاً ووهميًا، وهو ما قد لا يشعر به الكاتب إلا بعد أن يتجاوز الصفحات الأولى!
التقديم عبارة عن ثلاث صفحات، وهي عندي أقوى ما في الكتاب، فهو لا ينظر فيها ولا يرسم أحلامًا في الخيال ولا يحاول أن يبرز للقارئ بأنه هو الذي اخترع فكرة دولة اليهود، بل يؤكد بأنه ليس أول من كتب في الفكرة، فالفكرة قديمة جدًا ولكنه يرى ما طرح سابقًا لم يلبث كثيرًا حتى أصبح نكتة مضحكة، فما الجديد الذي سيقدمه هرتزل؟ إنها القوة التي ستدفع اليهود إلى إقامة الدولة!
في النسخة العربية، تظهر الإجابة التي يطرحها هرتزل ضمن سطر جديد مكتظ بالكلمات الأخرى وفي هذا انتقاص من فكرة هرتزل الخطيرة، وكأن مترجم النسخة العربية لم يلتفت إليها، بينما في النسخة الألمانية فإن الإجابة تظهر واضحة كالشمس لأنها تبدو كما لو كانت عنوانًا لفصل جديد وإن لم تكن، ولكنها بالفعل عنوان لفصل جديد من التفكير والعمل الصهيوني!
والنص كالتالي: “إن كل شيء يعتمد على القوة الدافعة، فما هي قوتنا الدافعة؟ بؤس اليهود Die Judennot، ومن يجرؤ على إنكار وجود هذه القوة؟”.
ولتوضيح الفكرة بشكل مبسط، بالأخص وأنه يؤمن أن فكرة “دولة اليهود” يجب أن تكون مبسطة ليفهمها اليهود جميعًا بغض النظر عن كل اختلافاتهم، لا يجد أمامه إلا شرحها من خلال غلاية الشاي فيقول: “كلنا يألف ظاهرة قوة البخار التي يولدها الماء الذي يغلي فيرفع غطاء الغلاية، هذه الظاهرة الخاصة بغلاية الشاي هي محاولات الصهاينة والجمعيات الصهيونية لكبح جماح العداء للسامية”.
هرتزل كان أذكى من أولئك جميعًا، فقد كان يؤمن أن “العداء للسامية بين الشعوب يتعاظم يومًا بعد يوم وساعة بعد ساعة، وهي حرية بأن تتعاظم حقًا، لأن أسباب نموها مستمرة في الوجود ولا يمكن إزالتها”، مثلها مثل قوة البخار التي يراها عند تسخين المياه في غلاية الشاي، فلا يمكن تحضير الشاي دون غليان الماء وبالتالي لا بد أن تستغل قوة البخار بالشكل الصحيح بدلاً من محاولات كبحها التقليدية، تمامًا كما استغلتها البشرية جيدًا، حينما حركت بها القطارات الضخمة عند اختراع “الآلة البخارية” ونقلت البضائع والبشر إلى أماكن جديدة بعيدة، وهكذا اللاسامية، إن وظفت كما يجب!
وبالفعل، هذا ما حاول هرتزل أن يؤكده في النصف الأول من كتابه، حينما ناقش اللاسامية وأسبابها، فها هو يكتب “المعاناة المشتركة بسبب العداء للسامية هي سبب تجمع اليهود وتوحدهم”، كما كتب في مذكراته “أنه يؤمن كلية بأن معاداة السامية تعتبر حركة بالغة الفائدة بالنسبة لتطوير الذاتية اليهودية”، والأعجب من هذا قوله: “هل معاناة اليهود ليست على درجة كافية من الخطورة؟ سوف نرى!”، ثم يكمل: “إذا كان هذا الجيل أغبى من أن يفهم هذه الفكرة.. فإن الجيل القادم سيفهمها”!
وبالفعل، يبدو أن الجيل الذي لحق هرتزل فهم المعادلة فعلاً، فوظف “الهولوكست” بشكل ملفت في التأسيس للكيان الصهيوني، بل ولا تزال اللوبيهات الصهيونية في العالم توظف تهمة معاداة السامية لخدمة أهدافها حتى يومنا هذا!