تعيش المخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة هذه الأيام، حالة من الاحتقان والغضب الشديدين، وكأنها تجلس على بركان من البارود قابل للانفجار بأي لحظة، في وجه الرئيس الفلسطيني محمود عباس، بسبب قراراته وخطواته الأخيرة ضد المخيمات.
فتشهد مخيمات “بلاطة، وجنين، والأمعري” وكلها بالضفة المحتلة، أصعب وأخطر المواجهات الشعبية والمسلحة مع قوات الأمن الفلسطينية، التي صدرت لها قرارات من رأس الهرم السياسي بالتعامل مع تلك المخيمات بأنها “بؤر فساد” و”خارجة عن القانون”.
وخلال ساعات قليلة توسعت دائرة الاشتباكات بين أجهزة أمن السلطة التابعة للرئيس محمود عباس، ومجموعات مسلحة تتبع تيارات فتحاوية تُعاديه، منها ما اجتمعت أهدافها مع مسار القيادي المفصول من حركة فتح محمد دحلان، مما وسع الجبهة وزاد حدة التوتر.
شرارة الغضب الأولى
ورغم أن الاشتباكات الأخيرة في مخيمات جنين وبلاطة والأمعري انطلقت شرارتها بعد قرارات فصل لقادة من فتح محسوبين على تيار دحلان، إلا أنه من الواضح أن صراع المخيمات معقد، بالنظر إلى أن القيادات المتمردة على عباس لا يعتبر جميعها من رجال دحلان لكنهم أقرب للمتحالفين معه ضد عباس.
ففي الشهور الماضية وقعت العديد من حوادث الصدام بين الطرفين، غذّتها الحملات الأمنية التي تشنها السلطة على تلك المخيمات بهدف معلن هو فرض القانون وملاحقة “الخارجين عن القانون”، يقابلها اتهامات من قيادات فتحاوية للسلطة باستهداف المخيمات.
هذه الحالة دفعت عددًا من قياديي الحركة للخروج بتصريحات ونداءات تطالب بمعالجة مختلفة لمشاكل المخيمات مع السلطة بعيدًا عن الحلول الأمنية، فانتقد جبريل الرجوب عضو اللجنة المركزية لحركة فتح التعامل مع المخيمات بالقبضة الأمنية، متهمًا بعض قادة الأجهزة الأمنية بارتكاب جريمة بحق أهلهم وقضيتهم بتعمدهم التعامل مع المخيمات بهذه السياسة، محملاً إياهم وحدهم النتائج، مضيفًا أنه “لا يمكن لحركة فتح أن تتحمل مراهقة بعض المسؤولين”.
أما مدير جهاز المخابرات السابق وعضو المركزية توفيق الطيراوي، فقد وجه نداءً عاجلاً، دعا فيه لإعادة النظر وتغليب الحكمة في التعامل مع المخيمات، عادًّا أن محاولة حل أي مشكلة في المخيمات بالقوة الأمنية، سينعكس سلبًا على الشارع الفلسطيني، وعلى أي إمكانية لتوحيد الصفوف.
في حين قالت النائب في المجلس التشريعي، نجاة أبو بكر إن: “اقتحام المخيمات من قبل الأجهزة الأمنية، أمر مرفوض يجب وقفه على الفور، واستبدال هذه السياسية بحوار شامل ومعمق لحل الخلافات الداخلية، وأن يتداعى الكل الوطني إلى تشكيل لجنة حكماء لتفكيك الأزمات وحل الخلافات”.
وأضافت: “نهج الاقتحامات الأمنية في المخيمات لن يؤدي إلى حل الخلافات، بل سيزيدها تعقيدًا، ولا بد من تدخل المؤسسات الحقوقية والمجتمع المدني للاطلاع على ما يجري داخل المخيمات، ووقف الاقتحامات الأمنية التي تعمل على توتيرها وانفجارها”.
انقلاب على السلطة
في ذات السياق، حذرت أوساط رسمية في السلطة الفلسطينية، مما أسموه بـ “انقلاب” مخيمات الضفة الغربية في وجه السلطة في أعقاب سلسلة الاعتقالات والاقتحامات المستمرة ضد مخيمي الأمعري وبلاطة بالضفة المحتلة، في وقت شددت الأجهزة الأمنية الفلسطينية من إجراءاتها الأمنية في مخيم بلاطة وشمال الضفة الغربية خشية من نية جهات توتير وتأجيج الأوضاع الداخلية في المدن الفلسطينية.
وسارع قادة الأجهزة الأمنية إلى تشكيل غرفة عمليات مشتركة من أجل متابعة ومعالجة الأوضاع بشكل فوري خشية من تطور الأوضاع داخل المخيمات الفلسطينية.
وجاءت هذه الأحداث في أعقاب العديد من العمليات التي قامت بها “مجموعة من الخارجين عن القانون” كما تصنفهم أجهزة الأمن بفلتان أمني داخل مخيمات الضفة الغربية، فيما شنت قوات الأمن حملة اعتقالات طالت عشرات المواطنين لتورطهم بعمليات “شغب ضد قوات الأمن” في أثناء عملها في المخيمات لمحاربة ظاهرة “الفلتان الأمني”، على حد زعمها.
وتقوم الأجهزة الأمنية وفقًا لمصادر أمنية بحملات دهم وتفتيش واعتقالات واسعة النطاق لما تسميهم بـ “المطلوبين” لها والفارين من العدالة، مؤكدة، أن هناك تعليمات مباشرة من الرئيس محمود عباس باجتثاث ظاهرة “الفلتان الأمني” واعتقال الأشخاص الذين يقفون حول تأجيج الأوضاع المتدهورة في المخيمات.
وهنا يمكن القول، أن التطورات الأخيرة تحمل في طياتها الكثير من الاحتمالات حول العلاقة بين فتح والسلطة، والمخاوف من انعكاسات سلبية لها على الوضع الداخلي الفلسطيني.
ويرى القيادي في حركة فتح تيسير نصر الله أن ما يجري يؤكد أن لغة الحوار باتت شبه معدومة بين قيادات المخيمات والسلطة بمكوناتها المختلفة وقيادة الحركة، وأن جزءًا من المشكلة هو داخل فتح.
وقال: “إن المخيمات كانت عبر سنوات النضال بؤرة للعمل الوطني، ولا أحد يقبل بأن تتحول إلى بؤرة للفوضى والفلتان ومأوى للخارجين عن القانون”، مؤكدًا ضرورة عدم التعامل مع المخيمات كحالة أمنية، لأن مجرد النظر إليها كذلك ظلم ويدخل في خانة الحسابات الخاطئة، مضيفًا أن الكل يريد تطبيق النظام والقانون، ولكن أن يكون على الجميع وبدون استثناء.
النار تحت قدمي عباس
ولم يخفِ نصر الله مخاوفه من تصاعد الأمور نحو الأسوأ، وأن تدخل مناطق أخرى على الخط، خاصة مع اقتراب موعد عقد المؤتمر السابع للحركة.
لكن رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة النجاح حسن أيوب لا يرى بأن هناك علاقة مباشرة بين هذا التوتر واقتراب المؤتمر السابع، رغم احتمال أن يكون هناك من يحاول الاستفادة من القوة التنظيمية للحركة في المخيمات لتوجيهها باتجاه معين.
وينظر أيوب للموضوع بأنه واحد من جملة الأزمات الكبيرة والخطيرة التي يعاني منها المجتمع الفلسطيني وغياب القانون، ولم يستبعد أن يكون استهداف المخيمات يأتي ضمن محاولات تحجيم قيادات المخيم وإبعادها عن الساحة السياسية.
ويعتقد أن هذا التوتر سيعمق الإشكالات التي تمر بها علاقة فتح بالسلطة، وهي علاقة معقدة وشائكة، ففتح تحولت إلى مشروع سلطة قبل أن تكمل مهمتها كحركة تحرر، والسلطة تعتمد على فتح كقوة تنظيمية وخزان بشري، ودرجة التداخل بينهما لا يمكن معها تصور الانفصال بينهما، لأن ذلك يشبه قطع اللحم الحي.
وفي محاولة من السلطة للتعتيم على ما يجري في المخيمات، أشارت مصادر إلى أن أجهزة أمن السلطة حذرت وسائل الإعلام العاملة بالضفة من التعاطي مع الأحداث الدائرة في المخيمات، مع التأكيد على ضرورة سحب أي مواد إخبارية متعلقة بأحداث مخيمي بلاطة والأمعري، والتقليل من التطرق للملف، واعتبارها أحداث عرضية.
ما سبق يؤكد خوف السلطة وحركة فتح من تمدد الاحتجاجات إلى خارج أسوار المخيمات في المرحلة المقبلة، مما استدعى استخدام القوة الأمنية والتعتيم الإعلامي على الوسائل كافة سواء كانت تابعة لها أو غير ذلك.
ويبدو أن الأرض باتت أكثر سخونة تحت قدمي عباس، بعد أن اجتمعت النيران الإقليمية، وتوتر العلاقات الداخلية مع حركة حماس من جهة، وفي البيت الفتحاوي من جهات أخرى، ويبقى المشاهد الفلسطيني والعربي في انتظار القادم المجهول.