خلف ستار الحرب تختبئ التفاصيل الدقيقة لكل معركة دفع ثمنها الضعفاء، ففي الأيامِ الماضيةِ من الشهرِ المنصرم لم تتغيرْ كثيرا الشواهد على الواقعِ الفلسطيني خاصةً في قطاعِ غزة، فقد كانوا ينتظرون الذكرى الثانيةَ لعقدِ مؤتمرِ المانحين في القاهرة بأن تأتيهم أخبار تُدخل السرور على أفئدتهم، فمع جلوسِ المانحين وفتحِ بابِ المزاد على التكرمِ والتصدقِ لإعادةِ إعمارِ غزة بعد حربِ ال51 يوما الأخيرة الذي شنها الاحتلالُ الإسرائيليُّ على قطاعِ غزةَ في منتصفِ صيف عام 2014، حتى بدأت بوادرُ الأملِ تغزو قلوبَ الضعفاءِ والفقراءِ في المجتمعِ ممن هُدِّمت بيوتُهم وأصبحت ركاما فوق ركام.
لا أريدُ أن أتحدثَ عن المؤتمرِ وتبعاته ولكنْ هناك أحدُ الشواهدِ على عمليةِ تأخرِ إعمارِ المنازلِ في قطاعِ غزة وهي قصةٌ قصيرةٌ تَصلحُ أن تكونَ من قصصِ ألفِ ليلةٍ وليلة بنكهتها الحزينة المؤلمة.
” يحكى أن “يعقوب“ فلسطيني يعيشُ في بلدةِ بيت حانون شمالَ قطاعِ غزة ولد في عائلةٍ فقيرة وعاش كلَّ تفاصيلِ الفقرِ والمعاناة ، خرج من أبوابِ البلدةِ الصغير في 8-5-1996 إلي بوابةِ معبرِ بيت حانون ” ايرز ” حيث أطلق جنودُ الاحتلالِ الإسرائيلي الرصاصَ المطاطي على مجموعةٍ من الشبابِ المتظاهرين، تعرض “يعقوب” للإصابةِ في عينه اليسرى جراءَ إصابتِه بطلقٍ مطاطي خضعَ بعدها لعمليةٍ جراحيةٍ حيث تم تفريغُ العينِ اليسرى وهي تعاني من عدةِ التهاباتٍ في الجفون، لم تتوقفْ الحياةُ عند هذا الحد، عاد ” يعقوب” ليمارسَ حياتَه من جديدٍ بعينِ واحدةٍ ، تقدمَ للزواجِ من إحدى الفتيات وافقت رغم الألمِ والجرحِ على الارتباطِ من شخصٍ مريضٍ ومصابٍ ولكن لحريةِ الأوطانِ ثمنٌ ولابد أن يدفعَهً الفلسطيني من دمِه ومالِه ، تم الزواجُ وأنجبت الأسرى ثلاثَ أطفالٍ يتمتعون بصحةٍ جيدةٍ ودون وجودِ أيِّ تشوهاتٍ خَلقية .
كانت السعادةُ والرضى بالقليلِ عنوانَ حياةِ الشاب “يعقوب” فقد كان يتقاضى راتبا يساعدُه على العيشِ من مؤسسةِ الجرحى بواقعٍ تقريبيٍّ 250$ شهرياً، وذلك نتيجةَ الإصابة التي تعرضَ لها في عينه اليسرى.
السعادةُ لا تدومُ طويلا في غزة، فبين الحينِ والآخر لا بدَّ وأن تُنكأَ الجراح، وتُهدمَ البيوت، وتسيلَ الدماء، وتبدأ حربا جديدةً كي ننسى تفاصيلَ الحربِ الماضية.
بدأت الطائراتُ الإسرائيليةُ بالتحليقِ في كلِّ بقاعِ القطاعِ من أقصى شمالِه إلي جنوبِه ومن برِّه إلي بحرِه ، تعرضت بلدة “يعقوب” للقصفِ والدمارِ في الحربِ ونزحت العائلةُ من بيت حانون، وبقيت البيوتُ وحدها تواجه الدبابات وعناصرَ القواتِ الخاصةِ الاسرائيلية في المكانِ، قبيلَ انتهاءِ الحربِ بساعاتٍ قرر يعقوب أن يذهبَ الي بيت حانون من جديدٍ ويزورَ بيتَه لعله يجدُه كما تركه، الا أن رصاصاتِ القواتِ الخاصةِ الإسرائيلية عاجلته وأردته على الأرضِ مصابا ينزفُ، لعدةِ ساعاتٍ ينتظرُ وصولَ سياراتِ الإسعاف، ومن ثَم وصلت لتكشفَ لنا حجمَ الإصابةِ بعدةِ رصاصاتٍ اخترقت قدميه وفخذية، لتضيفَ له إعاقةً جديدةً في جسمه.انتهى العدوانُ على غزةَ ولم تنتهي المعاناةُ بل بدأتْ من جديدٍ فقد تم تدميرُ البيت ِفلا أثرَ له في المنطقةِ .
لقد بدأت رحلةُ العذابِ من جديدٍ واجتمعت في هذه المرةِ تفاصيلُ جديدةٌ في حياةِ “يعقوب” إصابةٌ وعدمُ القدرةِ على العملِ وزوجةٌ وثلاثُ أطفالٍ ولا يوجدُ بيت، لقد قررت إحدى المؤسساتِ الوطنيةِ تقديمَ مساعدةٍ طارئةٍ لعائلةِ يعقوب بأن منحتهم ” كرفان” لا يقيهم حر الصيف و لا برد الشتاء .
في انتظارِ إعمارِ المنزلِ وفي الكرفان أنجبت زوجةُ “يعقوب” طفلةُ تحملُ تشوهاتٍ خَلقيةٍ شديدة، لا يوجد لها عينان وتعاني من فتقٍ في الظهرِ وتشوهاتٍ في الأطرافِ وضمورٍ في المخِ وشللٍ في الأطراف، الطفلةُ في المستشفى تحت المراقبةِ، بعضُ الأطباء يرجحون أن سبب تلك التشوهات جاءت نتيجةَ الحربِ الأخيرةِ على القطاع.
وزارةُ الصحةِ تطالبُ ” يعقوب” بإجراءِ فحوصاتٍ مخبريةٍ لمعرفةِ سبب التشوهات في الطفلةِ وهو لا يملكُ المالَ الكافي لإجراءِ تلك الفحوصات، لقد تغيرت معالم هذه العائلة لقد تشرذمت وتشردت وتبعثرت بعد عدوانٍ ظالمٍ ولا زال المدمرةُ بيوتَهم في انتظارِ عجلةِ الإعمارِ أن تدورَ اليهم وتمنحَهم بيتا ومسكناَ يأويهم ويجمع شملَهم من جديدٍ قبل أن تبدأ حربا جديدةً تنسيهم بيتَهم القديم.
لو علم مشرعو قوانين السلمِ والحربِ وتحديدِ كمياتِ الاسمنت ومواد البناء اللازمة لإعادةِ إعمارِ غزة بأنه خلفَ كلِّ بيتٍ مدمرٍ قصة إنسانية تخيطُ فصولَها الأيامُ لتمَّ إعمارُ غزة في ستةِ أشهرٍ كي تنسى الناسُ عذاباتِ الحربِ والعدوان، هذه الحربُ المتجددةُ في نفوسِ المواطنين إلي متى؟