انفلت عقد الأمان المصري في حده الأدنى، لا بما يهدد الطمأنينة شبه الضرورية لاستمرار الحياة في مدن وقرى البلاد، بل بما يكاد يفقد الحياة نفسها بهجتها في عموم المحروسة، حتى إننا بعد الانقلاب صرنا نعيش في واقع لا منطق له، بل يهرب الجنون ويفر منه، حتى صرنا نتعاطى برغمنا حبوب التفاهة وانفلات القيم والمعايير ومن قبل الدين!
وقد كانت القيادة السياسية في عهد المخلوع حسني مبارك، تُبقي على الحد الأدنى من “شعرة معاوية” من منطقية أفعالها، وقدر، ولو ضئيل، من عدم تحديها الشعب، فكان القرآن الكريم المُفتتح لاحتفالات يحضرها الرئيس على الدوام، وبصوت قارئ واحد معروف بمقرئ الرئاسة، فيما لم تكن مظاهر التدين المعتادة من الشعب تلقى معارضة سافرة إلا من العلمانيين، وإن أفسحت لهم الصحف الحكومية صفحاتها إلا أن الرأي لم يكن بحال من الأحوال يبدو صادرًا عن الدولة.
كان مبارك يريد أن يبقي ظهر البلد كي يظل الرئيس، ومن بعده يورثها نجله، ولكن فور مجيء الانقلاب تغيرت المعادلة تمامًا، و”كوكب الانقلابيين” ما إن أتم احتلال بلادنا حتى فوجئنا بتمام المأساة، التي كان يصبرنا عليها أنها لم تكن شبه مكتملة على هذا النحو، كان ضابط شرطة يضرب مواطنًا في الشارع، فتستاء الداخلية “ظاهريًا” خاصة عندما ينتشر الأمر على نطاق واسع، أو هكذا تبدو الأمور، وكان وكيل نيابة يشهر سلاحه في عرض الطريق فيصيب مواطنًا، فيتم وقفه عن العمل ذرًا للرماد في الأعين، ولكننا فوجئنا بأن بعض أمناء شرطة عقب الانقلاب، صاروا فوق الدولة، وفي فترة وجيزة قتلوا عددًا من المواطنين ليس بالقليل دون ذنب سوى أنهم اختلفوا معهم.
وهلم جرا فلدينا سجل حافل من “الوقاحة الانقلابية” مثل: محاولة منع للصلاة عن النبي في الشوارع سواء كانت ملصقات أو هتافات، بالإضافة إلى منع استخدام مكبرات الصوت في صلاة الفجر، والقبض على الناس على أساس النوايا، والاتهامات المفبركة من باب بث روح الإحباط.
وهذه المحن لم تظهر دفعة واحدة عقب الانقلاب، بل تزايدت مع استمرار أيامه ولياليه، تمامًا كما لم يكن سقوط مصر بين براثن الانقلابيين وليد يوم وليلة، بل عشرات السنوات من تردي الأوضاع نتيجة لـ60 عامًا من حكم العسكر، وتكريسًا للخيبة التي ألحقوها بمصر.
ومع بداية الانقلاب كان حبل الأماني عريضًا واسعًا وممتدًا في زواله في أقرب وقت، وساهم الإعلام المحسوب على الشرعية في ازدياد هذا الشعور الذي لم يجن منه الشرفاء سوى آمال عريضة ثم آلام لا تطاق خاصة في أعقاب أيام منها 6 من أكتوبر 2013، و2014م، و25 من يناير 2014، و2015، وحتى 2016م، هذا عوضًا عن ترديد مقولات منها رجوع الرئيس مرسي بعد يومين من الانقلاب، وانتظار النصر الذي لم يعد له أحد عدة، ولم يحسن له تجهيزًا .
وفي قلب هذه الأجواء ومرارتها بدأت موجة ما يسمى بـ “التسريبات” على قناة الجزيرة في نسختها الأولى المناهضة للانقلاب، والتي تم التدارك عليها فيما بعد بمصالحة معه، ثم وقوف في مرحلة بين بين مؤخرًا، فلا هي بالمناوئة، ولا هي بالداعمة، ولا أنكر أن موجة ما يُسمى بـ”التسريبات” بدت عاتية شديدة وأحيانًا مذهلة، خاصة “الجيش ده نار لا تلعبوا بيها ولا تلعبوا معاها .. الجيش لو نزل الشارع ..”، وهلم جرا من أقوال قائد الانقلاب عن مكالمات الهاتف المدفوعة الطرفين، ومقولات السيد المعمم “علي جمعة” و”طوبى لمن قتلهم وقتلوه.. وناس ريحتهم نتنة”.
أبو الفتوح في دافوس
وهكذا استمعنا إلى مزيد من أكاذيب قائد الانقلاب، وكان بعضها مسجلاً خلال فترة حكم الرئيس مرسي لتطمينه ومناصريه إلى أن الجيش لن ينقلب على الرئيس المنتخب، ثم في نفس الأجواء يتحدث شبه الرجل عن أمر الدعم ووجوب رفعه، وبالتالي الذي ليس معه مال لا تلزمه حياة من الأصل.
ومع تعدد التسريبات، ازدهرت الآمال في إفاقة سريعة عاتية للشعب المصري بجميع درجاته لا تبقي ولا تذر، بخاصة تسريبات الصحفي ياسر رزق وتعدي السيسي على سياسيين منهم الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح ووصفه بـ “الشاذ” فكريًا في سابقة تذكر بسابقة الراحل اللواء زكي بدر، وزير الداخلية الأسبق، عندما أعمل لسانه برموز الحياة في مصر.
وزاد من الأمل ازدياد الوعي الشعبي وتصديه لكلمات “السفاح” التي تدل على قصر نظر، واستقواء بالأعداء، فمن الحلم بالساعة الأوميجا، للمثل الأعلى الرئيس الراحل السادات، لحكم مصر الحلم الذي كان في طريقه إلى تحقيقه، وكان شبه الرجل آنذاك وزيرًا للدفاع بعد الانقلاب.
ولكن كلمات السيسي عن الأعداء والتصدي لهم ازدادت ضراوة علنًا من باب: لن نسمح بأن تمثل أرضنا تهديدًا لجيراننا (الإسرائيليين)، وهو ما لم يجرؤ مبارك على قوله علنًا، وهو كنز إسرائيل الاستراتيجي، على حد قولهم.
أما منظومة الوعي، التي أملنا على نموها وإفاقتها، فلم تفلح معها ضربات التسريبات، بخاصة مع ازدياد مساحة اللا معقول من أفعال الانقلاب من قتل وتنكيل واضطهاد للشعب المصري، وعدم وجود استراتيجية ولا حتى تكتيك لمناهضي الانقلاب، وتواطؤ قوى عالمية ومحلية على استمرار الانقلاب، وهو التحدي الذي لم يكن الثوار مؤهلين له.
وانتقلت التسريبات من “الجزيرة” إلى “الشرق” و”مكملين” في تركيا، وصرنا نسمع بالأرز الخليجي، وأخذ أموال المعونات المخصصة للشعب إلى الجيش، وسبّ مدير مكتب السيسي، عندما كان وزيرًا للدفاع، لما يسمى بالأذرع الإعلامية للانقلاب، وأحيانًا القادة السياسيين ومنهم رئيس وزراء مصر الآن، وتعاطي للمواد المخدرة من “الترامدول” وما شابه، أدلة عملية جديدة على تدني أخلاق العصابة التي تتصدى لحكم مصر، مرورًا بالتكييف القانوني لوضع الرئيس محمد مرسي عقب الانقلاب وتورط المجلس العسكري في الأمر، ومع الأسف نجاحهم في تنفيذ (الجريمة).
أما كيفية وصول التسريبات إلى “الجزيرة” و”الشرق” و”مكملين”، فكيفية مشمولة بشيء من الشك، والأمر لا يخلو من أن جناحًا من أجنحة الحكم الانقلابية هو الذي يسرب على حساب جناح آخر، من باب “أمعاء البطن التي تتشاجر لكن لا تخرج عنه”!
ومع فشل ما سمي بالتسريبات في تحقيق الأثر المرجو تم بث ما اعتبر تسريبًا لمحاضرة لأساتذة في الجامعات بشأن أهلية السعودية وأحقيتها بجزيرتيّ تيران وصنافير، والأمر ضمن منظومة انقلاب بررت إلى الجيش والشرطة في مصر، من قبل، بأن القتل أمر مباح محلل، فهو أمر غير مستقبح من الأساس، بل أقرب إلى محاضرات “الاتحاد الاشتراكي” أيام حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لا جديد فيه، ضمن منظومة أرتنا ما هو أكثر غرابة وفجاجة وعجبًا!
إن التسريبات في العالم تعني ظهور أمر كان مكتومًا سريًا إلى العلن، يساوي اتخاذ الرأي العام ضده موقف موحد يحدث زلزلة سياسية، فماذا قدمت لواقع الانقلاب عشرات المواد المصورة وأحيانًا الصوتية المسماة بنفس الاسم؟
يبدو أننا نحتاج إعادة دارسة ومراجعات لآليات نظنها ثورية فيما تخدم عدونا، وهو يقدمها إلينا على طبق من ذهب وأحيانًا “قطيفة” فيما نحن نبتلع الطعم مرة بعد أخرى.