الحرب الدائرة في اليمن اليوم منذ سنتين أو أكثر قليلاً، حرب إقليمية دولية جيوسياسية بامتياز، تتكئ على تاريخ مر من الخلافات المذهبية والسياسية، لا علاقة لها بثورة فبراير الشباب النقية 2011م من قريب أو من بعيد، فالحرب في مضمونها العام سلوك عنيف مجرد من النزعة الإنسانية وقيم الكرامة، وضرورتها على الشعب اليمني وأحرارها كانت خطًا جبريًا مؤلمًا، ومن يحاول جاهدًا أن يربط بين الثورة الشبابية النقية والحرب اللا إنسانية فقد خانة تفكيره وحاد على معطيات الواقع.
في 11 من فبراير 2011 دشن الشعب اليمني عامة وطليعته من الشباب التحرري ثورة من أعظم الثورات التاريخية العربية والعالمية، استطاعت في فترة وجيزة كسر العديد من القيود الاجتماعية وتغيير العديد من التقاليد القبلية وإسقاط مشروع الفساد السياسي لصالح مشروع وطني تحريري يمني قادر على قيادة التحول التاريخي للحراك الاجتماعي والسياسي في اليمن نحو دولة مدنية ديمقراطية.
تميزت الثورة اليمنية بالعالمية والشمولية، حيث منحت توكل كرمان الفتاة اليمنية أيقونة الثورة جائزة نوبل العالمية للسلام، وجمعت في احتضان ساحاتها اتجاهات الفئات اليمنية سياسية واجتماعية بمن فيهم الحوثيين في تناغم ثوري عجز النظام الاستبداي بترسانته المسلحة أن يفكك سلميته المبدعة أو يفرق جمعها الثوري.
كما حرصت منذ البداية الإعلان عن هويتها اليمنية وامتدادها التاريخي في مسيرة النضال وابن شرعي لأهداف ثورتي سبتمبر الشمالية وأكتوبر الجنوبية الوطنية، كما عملت على ترسيخ معنى النضال السلمي في مواجهة القوة الطاغوتية، وغرس معاني القيم الثورية الجديدة بثقافتها المدنية الحضارية وأفقها الديمقراطي مقابل الصورة النمطية التي قدمها النظام الشمولي العائلي لليمن أمام العالم.
لقد كشفت الثورة حجم التجريف والتشوه الذي أحدثه النظام العائلي في الشخصية اليمنية، حيث أظهرت جمعة الكرامة في 18 مارس 2011 وغيرها من المجازر التي ارتكبها نظام صالح العائلي إبان الثورة مقدار هذا التحول المخيف في النفسية اليمنية، فخلال فترة حكم صالح استطاع أن يحول الشخصية التاريخية اليمنية المبدعة إلى شخصية ارتزاقية تقتل مقابل القليل من المال، فكانت ضرورة هذه الثورة أولوية لوقف الانحدار المخيف في مسار الحياة اليمنية التي سعى النظام العائلي إلى جرها إلى مربع الارتزاق الابتزازي.
عملت الثورة الشبابية وفق منطق تاريخي، ودينامكيتها الداخلية لتحقيق هدفين اثنين، الأول تفكيك المنظومة السياسية للنظام السابق بكافة مكوناتها وهياكلها الصدئة، والانتقال بالمجتمع اليمني إلى مرحلة انتقال مدني تتسم بالشراكة المجتمعية بين أطيافه المتنوعة، لرسم مسار المنظومة السياسية الجديدة لليمن عبر مؤتمر حوار وطني يستوعب طموحات وآمال الثورة الشعبية الفبرايرية، والثاني إعادة طرح سؤال الهوية التي تشوهت كثيرًا بتصرفات النظام السياسي الذي اختزل الوطن في العائلة الصالحية التي امتلكت كل مفاصل الحياة ابتداءً من الحكومة والجيش وانتهاءً بأفعال الخير والإحسان على حساب هوية اليمنية، مما أفرد حالة انقسام سياسي وجهوي لفك الارتباط بالنظام المركزي للدولة.
أمام هذه اللحظة الثورية التاريخية كانت الثورة – التي تعني القطيعة الناجزة مع القيم العميقة المرتكزة على النظام العائلي – تفكك وتكسر كافة روابطها من هياكل في الحياة العامة سواء كانت أحزاب ومؤسسات وقبيلة مع النظام القديم وثقافته وتتجه بصرامه داخلية نحو تحول تاريخي لليمن الجديد، لم يرض كثيرًا من القوى التقليدية الداخلية والخارجية، بما فيها بعض المؤيدة للثورة الذين يكونون قد استعبوا ما يحدث وغير قادرين على فهم معنى الثورة ودفع ضريبتها، والتي كانت من أهم معانيها التضحية والتجرد من أجل مبادئ ونجاح الثورة.
أفرز الحراك الثوري في الميادين العامة حالة نفسية واجتماعية وسياسية أشبه ما تكون بمادة هلامية قابلة للاختراق والتشكل الجديد وفق معطيات الثورة الجديدة، ولكن للأسف لم تكن هناك خططًا واضحة على المستوى الاجتماعي والمجتمعي، باستثناء المبادرة الخليجية التي لم تكن سوى إطار فوقي لإعادة الأطراف إلى مربع يسهل السيطرة عليه، فاستغلت بعض القوى هذه الحالة الهلامية والفراغ المؤسسي للمشاريع الإبداعية – حيث لم يكن المشروع الثوري قد تشكل وفق أحلام الساحات – وحثت خطى السير العسكري والتآمري في فرض مشروعها المضاد للثورة على المستوى الفكر والمؤسسي والأهداف، وكانت القوة المسلحة المليشيواتية المتحالفة مع المعسكر القديم هو وسيلتها للعودة إلى أحلام التاريخ القريب لدولة الأئمة التي سقط عام 1962م، واستغلت التخوفات الدولية والإقليمية المتربصة بالمولود الثوري التحرري والذي بلا شك ينتمي إلى هذا العالم فكريًا وتقنيًا وسياسيًا إلا أنه يرفض الدخول فيه بلا شخصية مستقلة سهلة البلع والذوبان في محلولة السياسي.
ظهرت هذه القوى المضادة الجديدة كنتيجة طبيعية للثورة الذي أذابت بحرارتها التحوصلات التي كانت متجمدة في كهوف صعدة، وفي زوايا القوى المتدثرة بالجمهورية، فساح قيحها الطائفي من الكهوف والعقول إلى مناطق شتى حاملة معها فيروسات تاريخية مميتة ومدمرة، اعتمدت هذه القوى على الهوية الطائفية والمذهبية كمدخل لحشد الأنصار وتجييش الأتباع المقاتلين، واتخذت من فكرة الأقاليم مبررًا لتنقلب على كل شيء، وتنطلق بمشروع الفوضى إلى آفاق بعيدة متحالفة مع نظام صالح القديم مشكلين جبهة الثورة المضادة، التي قوضت مؤسسات الدولة كأحد منجزات ثورة سبتمبر وأكتوبر.
استطاع الحوثيون خلال الحروب الست مع الدولة والفترة التي قبلها، إعادة تدوير تصورات زيدية راديكالية، أقرب إلى التشيع الإثني عشري منها إلى الاتجاه العام للميراث الزيدي، وتشكيل عصبوية زيدية عقائدية مسلحة، كما ساهمت العلاقة المتنامية بين الحوثيين وإيران خلال التسعينات والعقد الأول من هذا القرن على تأكيد التوجه الشيعي للجماعة اليمنية الدينية الهامشية، وعلى تعزيز مقدراتها التسليحية والمالية، ونشاطاتها التعليمية والتبشيرية؛ ما جعلهم يقدمون أنفسهم في محافظات الأغلبية الزيدية باعتبارهم حراس المذهب وحماة أتباعه، ويضفون طابعًا طائفيًا على حرب هي في أصلها وحقيقتها حرب جيوسياسية، على حد تعبير الكاتب بشير نافع.
في المقابل لم تكن القوى السياسية المنضمة إلى صف الثورة في حالة انسجام تام، وكان يسود علاقتها الشك وانعدام الثقة، مما سهل لقوى الثورة المضادة اختراقها وتحييدها عن المشهد العام، بل تحول بعضها إلى أداة من أدوات دعم مشروع الفوضى في اليمن، حيث ارتكبت القوى السياسية وعلى رأسها المشترك والرئاسة مجموعة أخطاء قاتلة، أولها عجزها عن تعيين رئيس وزراء قوي، وتهرب أغلب من تم ترشيحهم بحجة صعوبة المرحلة، حيث آثروا الحفاظ على سمعتهم الشخصية على حساب المصلحة الوطنية، الثانية عدم تطبيق الفقرة بالمبادرة الخليجية التي تنص على تعيين لجنة تفصل وتراقب قرارات الرئيس وتفصل في الخلاف والتعرضات بين قرارات الرئيس وبين قرارات رئيس الوزراء، ورضوا بأن يكونوا مجرد موظفين مستشارين لدى الرئاسة بدلاً من أن يكونوا رقباءً على قرارات وتصرفات الرئيس، وهذا جعل كثير من قرارات الرئيس خاصة فيما يتعلق بالجيش والجانب الاقتصادية تفتح الباب لمشروع الفوضى الذي بدأ مبكرًا قبل اقتحام العاصمة صنعاء في 21 من سبتمبر 2014.
أتى مشروع الفوضى ليقوض الدولة، وأركان ثورتي سبتمبر وأكتوبر، وينتقم من ثورة وثوار فبراير والعمل على إعادة تشكيل هوية فكرية وسياسية جديدة للدولة والمجتمع اليمني، من خلال السيطرة العسكرية أولاً، وإرهاب الخصوم بنشر الموت وإهلاك الحرث ومحاصرة المدن وتدميرها، والعمل على إحياء المناسبات الطائفية ونشر الحسينيات والمقالات المذهبية، وهو مشروع إقليمي يرتبط بالمشروع الإقليمي لحوزة قم، وكل هذا عمل على إحياء الهوية التاريخية اليمنية وخاصة في محافظتي عدن وتعز ومعقل المذهب الشافعي وحاضرة الثقافة اليمنية، إضافة إلى محافظة مأرب والبيضاء اللتين شكلتا حاضنة للمقاومة المسلحة وهما تتبعان للمذهب الشافعي، علمًا أن المجتمع اليمني كان قد قطع أشواطًا كبيرة في طريق تشكيل هوية وطنية تتجاوز التحوصلات الطائفية والمذهبية.
تتكاثر اليوم الكتابات وترتفع الأصوات اليمنية التي تطرح موضوع الهوية الحضارية الحميرية اليمنية مقابل الفرسنة والمذهبية السنة مقابل التشيع والثورة السبتمبرية والأكتوبرية مقابل الإمامية الجديدة، وهو الثلاثي الذي يشكل المجال العام للهوية اليمنية دون إلغاء الهويات المتفاعلة في داخل هذا الإطار، وهي معركة يستوعبها جيل الثورة الذي ترك لين الحياة إلى الجبهات القتال، وخرج قبل ذلك إلى الساحات من أجلها، ولا يمكن اليوم السكوت عن حالة التجريف والتشوية المتعمد الذي يمارسة مشروع الفوضى للمناهج والمناسبات والخطاب العام ليكون متناغمًا مع مشروعهم السلالي التشيعي، مؤكدًا أن المعركة اليمنية معركة الهوية الجيوسياسية لليمن ذي الموقع العالمي والإرث الحضاري.
تشكل اليوم مخرجات الحوار وقرار مجلس الأمن 2216 مخرجًا جامعًا لحل كثير من الإشكاليات الكبرى المتعلقة بالهوية وشكل الدولة وإنهاء الفوضى وغيرها من الإشكاليات التي أثارها مشروع الفوضي الحالى، وعلى اليمنيين أنفسهم دون وصاية الحسابات الإقليمية البت في المستقبل، فالحلول السياسية على حساب الحقوق المنتهكة، والقضايا المصيرية المتعلقة بأحلام الثورة ومشروع الدولة وتجفيف منابع التطرف المذهبي والوقوف على جذر المشكلة سيظل حلاً مؤقتًا يعمل على تأجيل المشكلة دون حلها حلاً حقيقيًا.