ثلاث سنوات مضت على مبادرة الرئيس الصيني تشي جين بينغ والمسماة بـ”حزام واحد طريق واحد” والتي تسعى لإحياء الطريق التجاري القديم الموسوم بـ”طريق الحرير” من خلال عقد الشراكات الاقتصادية والسياسية مع الدول الواقعة غرب الصين.
هذه المبادرة المعلن عنها في 2013 لم تغب يومًا واحدًا عن مخيلة الرئيس الصيني، لذا ومع أول فرصة نجحت بكين في مد يد الشراكة والتعاون مع عدد من الدول الواقعة في هذا النطاق المحدد، في مقدمتها إيران والمملكة العربية السعودية، بما يضع الكثير من التساؤلات حول هذا التقارب الجديد من نوعه، من بينها احتمالية قيام الصين بدور الوساطة للتقريب بين الرياض وطهران من جانب، والقلق الأمريكي تجاه هذا التحالف وانعكاساته على توجهات البيت الأبيض نحو الشرق الأوسط مستقبلاً.
التقارب الصيني الإيراني
دخلت العلاقات الصينية الإيرانية منعطفًا جديدًا من القوة والمتانة عقب الاتفاق النووي المبرم بين طهران والدول الغربية العام الماضي، والذي بدوره عزز قدرات طهران الاقتصادية بصورة هائلة جراء الرفع التدريجي للعقوبات الاقتصادية التي كانت مفروضة عليها، ما جعلها قبلة مستهدفة للباحثين عن الفرص الاستثمارية في المنطقة وفي مقدمتها التنين الصيني.
وبحسب مقال نٌشر في مجلة “فورين أفيرز“، فإن الاتفاق النووي الإيراني أسهم في حصول طهران على ما يزيد عن 100 مليار دولار كنتيجة لتخفيف العقوبات المباشرة والتنازلات الغربية الأخرى، مع توقعات بنمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5.4% على الأقل خلال العام القادم، حسبما توصل تقرير صدر مؤخرًا عن بعثة تقصي الحقائق لصندوق النقد الدولي، ومن ثم وفي ظل هذه الطفرة الاقتصادية المتوقعة لإيران، كان لا بد للصين أن يكون لها دور، وهو ما تجسد في إبرام ما يزيد عن 17 اتفاقًا بين البلدين في مجالات الصناعة والتجارة والطاقة، مع تعهد الرئيس الصيني بزيادة التجارة الثنائية مع إيران، وصولاً إلى 10 أضعاف على مدى العقد المقبل.
كما يحتل النفط المحور الأساسي في العلاقات بين البلدين، حيث تستورد الصين بما قيمته 10.7 مليارات دولار من النفط الخام سنويًا من إيران، لتصبح سادس أكبر مصدر للنفط للصين، بعد السعودية وروسيا وأنجولا وعمان والعراق، حيث تشارك الشركات النفطية الصينية في الاستثمار بالمشاريع النفطية في إيران، وهو ما يؤكد على أن الدبلوماسية الصينية معطرة برائحة النفط، ومن ثم فقبلتها حيث تكون الدول النفطية، إضافة إلى تفعيل سبل التعاون في مجالات الغاز والصناعات النفطية وقطاع البتروكيماويات، والبنية التحتية لخطوط الأنابيب وإنشاء طرق سريعة وأنفاق مشاه.
يحتل النفط المحور الأساسي في العلاقات بين البلدين، حيث تستورد الصين بما قيمته 10.7 مليارات دولار من النفط الخام سنويًا من إيران
وفي المقابل تدعم بكين طهران بتكنولوجيا الأسلحة المتطورة، استنادًا إلى المعادلة المعروفة “النفط الإيراني مقابل التكنولوجيا العسكرية الصينية”، وهي المعادلة المسيطرة على التوجه الخارجي الإيراني، مع أهمية الإشارة إلى أن سياسة المقاطعة التي فرضتها أمريكا ضد طهران منذ عام 1996 من خلال قانون “داماتو” لعبت دورًا كبيرًا في نمو العلاقات العسكرية والاقتصادية بين إيران والصين خلال العقدين الماضيين، وهو ما برهن عليه الاتفاق الموقع بين البلدين في مجال الطاقة عام 2004 والذي يمتد لمدة 25 عامًا، بقيمة 100 مليار دولار، تزود بموجبه إيران الصين بالغاز المسال، والنفط، وتتولى مجموعة “سينوبك” الصينية تطوير حقل يداوران الإيراني العملاق للنفط جنوب غرب البلاد، والذي تقدر احتياطاته بنحو ثلاثة مليارات برميل، تشتري الشركة الصينية بموجب مذكرة التفاهم 250 مليون طن من الغاز المسال على مدى ما بين 25-30 سنة من إيران، إضافة إلى اتفاق آخر لبناء مصفاة تكثيف غاز في مدينة بندر عباس، جنوب إيران، في غضون السنوات الثلاث التالية.
المرشد الإيراني خلال استقباله للرئيس الصيني
بكين والرياض.. صفحة جديدة
يبدو أن حالة التوتر التي شهدتها العلاقات بين السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، بسبب العديد من العوامل كان في مقدمتها تخلي واشنطن عن بعض التزاماتها حيال عدد من الملفات الإقليمية وفي مقدمتها ملفي سوريا واليمن، فضلاً عن تصديق مجلس الشيوخ الأمريكي على قانون “جاستا” الذي يسمح لأهالي ضحايا أحداث 11 سبتمبر 2001، بمقاضاة مسؤولين سعوديين ويتعدى الحصانة السيادية للدول، قد دفعت الإدارة في الرياض إلى البحث عن مصالحها مع حلفاء جدد، سواء كان ذلك من باب غلق الباب الأمريكي وإعادة رسم خارطة التوجهات الخارجية السعودية، أو من باب الضغط على واشنطن.
ومؤخرًا شهدت العلاقات السعودية الصينية تطورًا ملحوظًا، تجسد في عدد من اللقاءات والزيارات المكثفة لزعماء ومسؤولي البلدين، توجت بزيارة الرئيس الصيني للرياض يناير الماضي، وإبرام عدد من الاتفاقيات البينية، كما أعلن البلدان خلال الزيارة الارتقاء بالعلاقات إلى شراكة استراتيجية شاملة وتشكيل لجنة تسيير رفيعة المستوى لتوجيه وتنسيق التعاون، ويكفي أن نعرف أن السعودية هي المصدر الأول للنفط بالنسبة للصين، حيث تستورد الأخيرة ما قيمته 20.8 مليارات دولار من النفط الخام سنويًا من السعودية.
وفي المقابل توجه وزير الخارجية السعودية عادل الجبير، بزيارة للصين خلال مشاركته في قمة العشرين، حيث ألقى كلمة ضمن فعاليات المؤتمر تحدث فيها عن رؤية المملكة لعام 2030، والتعاون الصيني – السعودي تحت إطار مبادرة “الحزام والطريق” والعلاقات بين السعودية وبلدان أخرى مثل إيران والولايات المتحدة.
وخلال كلمته قال الجبير: “الصين والسعودية تربطهما مصالح مشتركة، فالصين هي أكبر مستهلك للطاقة، والسعودية هي أكبر مصدر للطاقة بالنسبة للصين، وفيما تعمل الصين على بناء مبادرة الحزام والطريق، ستلعب السعودية دورًا حاسمًا فيها، إذ تقع السعودية عند نقطة التقاء القارات الثلاث: إفريقيا وأوروبا وآسيا، كما أنها قريبة من أهم الممرات المائية الثلاثة في العالم وهي مضيق هرمز ومضيق باب المندب وقناة السويس، أما البحر الأحمر الذي تطل عليه السعودية فهو الممر الذي تمر عبره 10% من تجارة العالم”، مضيفًا أن الدولتين تتقاسمان فلسفة مشتركة، ألا وهي احترام وحدة السيادة، واحترام مبدأ التعايش الودي، واحترام مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، وتلك هي جميع العوامل الأساسية للشراكة القوية للغاية القائمة بين البلدين.
الصين والسعودية تربطهما مصالح مشتركة، فالصين هي أكبر مستهلك للطاقة، والسعودية هي أكبر مصدر للطاقة بالنسبة للصين، وفيما تعمل الصين على بناء مبادرة “الحزام والطريق”، ستلعب السعودية دورًا حاسمًا فيها
ولم يتوقف التعاون السعودي الصيني على البُعد الاقتصادي فحسب، بل تطرق إلى التعاون العسكري أيضًا، تمثلت في تدريبات عسكرية مشتركة جرت في العاشر من أكتوبر الحالي، حملت اسم “الاستكشاف 2012” في مدينة تشونج تشينج جنوب غربي الصين، بمشاركة 25 من أفراد الوحدات الخاصة بين البلدين، واستمرت التدريبات لأسبوعين وتركزت بشكل أساسي “على المهارات والأساليب القتالية لمكافحة الإرهاب والتهديدات الأمنية غير التقليدية”.
وبالرغم من الخلاف بين البلدين، إلا أن رغبة السعودية في حليف جديد يكون بمثابة “الند” للغطرسة الأمريكية من جانب، ورغبة الحكومة الصينية في تعزيز مشاركتها الدبلوماسية بالمناطق التي تشهد اضطرابات مع تصاعد ما تراه من تهديدات “إرهابية” على شركاتها ومواطنيها من جانب آخر، دفع الحليفين الجديدين إلى التعاون المشترك، ومحاولة فتح صفحة جديدة من العلاقات الإيجابية.
مناورات عسكرية سعودية صينية مشتركة
مغازلة القاهرة
لم يتوقف الزحف الصيني نحو تحقيق أهدافه في المنطقة على الحزام الغربي فحسب، بل سعى إلى وضع قدم له في العمق الاستراتيجي لمنطقة الشرق الأوسط، ومن ثم كان التقارب مع مصر، إيمانًا بالدور المحوري الذي تقوم به في المنطقة، لما لها من تاريخ وحضارة لا يمكن نكرانها.
العلاقات بين القاهرة وبكين توطدت بصورة كبيرة عقب ثورة 25 يناير، حيث زيارة الرئيس المعزول محمد مرسي لبكين خلال جولته الآسيوية في أغسطس 2012، وما تبعها من زيارات متبادلة بين القيادة المصرية والصينية في أعقاب 30 يونيو، الأمر الذي ألقى بظلاله على مستقبل التعاون بين البلدين، وبحسب الأرقام الرسمية فإن ما يقرب من نصف مليار دولار قيمة استثمارات صينية في مصر، فضلاً عن حزمة من الاتفاقيات المبرمة في عدد من المجالات الاقتصادية والعسكرية.
القاهرة أعلنت أكثر من مرة أن الصين هي الشريك الآسيوي الأقوى في المنطقة، هذا قبل أن يظهر المنافس الروسي على خارطة العلاقات، ومع ذلك فقد أعلنت بكين دعمها الكامل لمصر وتوجهاتها الخارجية، والعمل على تفعيل سبل التعاون المشترك بين البلدين.
الوساطة بين إيران والسعودية
بالرغم من توتر العلاقات بين إيران والسعودية لا سيما في الآونة الأخيرة، إلا أن العديد من الأصوات المقربة من الجانبين طالبت بضرورة توظيف التقارب الصيني مع كلتا الدولتين للقيام بدور الوساطة بين الجانبين، ومحاولة التقريب في وجهات النظر على أسس سياسية واقتصادية بحتة، مع تنحية الخلافات العقدية والمذهبية التي تؤجج الخلاف ما بين الحين والآخر.
السيد الربوة، المحلل السياسي، أشار إلى أن وجود الصين على رأس هذا التحالف الجديد من الممكن أن يكون له دور محوري في تقليل الفجوة بين الرياض وطهران، مشيرًا إلى أن كلتا الدولتين لديهما الرغبة في فتح صفحة جديدة من العلاقات خاصة بعد الإجهاد العسكري والاقتصادي الذي أصاب كلاً منهما جراء الحرب في الجبهتين اليمنية والسورية.
في تصريحاته لـ “نون بوست” أكد الربوة أن التنازل عن بعض الثوابت والتوجهات الخارجية لدول المنطقة بات خيارًا استراتيجيا في مواجهة المخطط الأمريكي، فعلى الرياض وطهران الجلوس على مائدة الحوار، وتنحية القضايا الخلافية المذهبية، والتي تعد السبب الرئيسي في اشتعال الموقف في اليمن ولبنان والعراق وسوريا، من أجل الوصول إلى نقاط مشتركة يتفق عليها الجميع نحو انطلاقة جديدة في العلاقات.
إن التنازل عن بعض الثوابت والتوجهات الخارجية لدول المنطقة بات خيارًا استراتيجيا في مواجهة المخطط الأمريكي، فعلى الرياض وطهران الجلوس على مائدة الحوار، وتنحية القضايا الخلافية المذهبية جانبًا
المحلل المتخصص في الشؤون العربية أشار إلى أن بعض المصادر المقربة من دوائر صنع القرار في السعودية وإيران كشفت عن رغبة البلدين في فتح صفحة جديدة تقوم على التعاون المشترك في القضايا ذات الاهتمام الإقليمي والمتعلقة بالأمن القومي الشرق أوسطي، لكن التراشق السياسي والإعلامي المتبادل بين الجانبين مع كل حادثة هنا أو هناك يعرقل هذه الرغبة، ومن ثم فعلى الجانب الصيني أن يفعل جهوده لامتصاص حالة التوتر بين البلدين، والسعي لتقريب وجهات النظر لبناء تحالف قوي قادر على التصدي للمخططات الأمريكية في المنطقة.
هل تنجح الصين في الوساطة بين السعودية وإيران؟
قلق أمريكي.. لماذا؟
حالة من القلق انتابت الإدارة الأمريكية جراء التقارب الصيني الإيراني السعودي، فعلي الجانب السعودي، فقد تسبب التوتر بين واشنطن والرياض بسبب قانون “جاستا” وتراجع إدارة أوباما عن التزاماتها حيال الملف السوري واليمني، إلى تهديد مصالح أمريكا في المنطقة، وهو ما عبر عنه وزير الخزانة الأمريكي جاك ليو خلال زيارته للسعودية مؤخرًا بقوله: أود تأكيد أننا نعتقد أن قانون جاستا سيدخل تغييرات واسعة في القانون الدولي القائم منذ زمن فيما يخص الحصانة السيادية وفي حال تطبيق ذلك على نطاق عالمي فقد يكون له تأثيرات خطيرة في مصالحنا المشتركة.
كما أن خسارة واشنطن للحليف الأكبر لها في الشرق الأوسط مسألة خطيرة على مستوى التوجهات الخارجية الأمريكية ومصالحها في المنطقة، فالقضية لا تتعلق بالبُعد الاقتصادي فحسب، فهناك أبعاد أخرى سياسية وأمنية، خاصة وأن خسارة السعودية تعني خسارة الخليج بالكامل، بما يهدد بسحب البساط من تحت الأقدام الأمريكية في الشرق الأوسط لصالح الصين وروسيا، وهو ما يسبب انزعاجًا كبيرًا لواشنطن.
أما على المستوى الإيراني، فإن التقارب مع الصين، يفتح شهية الصينيين إلى مزيد من الاستثمارات في مختلف المجالات، وفي المقابل يزداد النفوذ الإيراني مع زيادة الاستثمارات الصينية، وبحسب المعادلة سالفة الذكر “النفط الإيراني مقابل التكنولوجيا العسكرية الصينية”، فإن مسألة فرض الصين لأي عقوبات اقتصادية على طهران حال عدم التزامها ببنود الاتفاق النووي أمرًا مستبعدًا، فضلاً عما يمكن أن توفره بكين لإيران من حماية دبلوماسية في المنظمات الدولية.
خسارة واشنطن للحليف الأكبر لها في الشرق الأوسط مسألة خطيرة على مستوى التوجهات الخارجية الأمريكية ومصالحها في المنطقة، فالقضية لا تتعلق بالبعد الاقتصادي فحسب
هذا النوع من المعاملات يعزز المخاوف في واشنطن والعواصم الأجنبية حول تداعيات صعود الصين كقوة عالمية، ويثير تساؤلات حول استعدادها لتحمل دور بناء في حل بعض المشاكل الأكثر إلحاحًا في النظام الدولي، خاصة وأن هناك العديد من الأسباب والمبررات التي تجعل من الصين ندًا لواشنطن داخل أروقة المنظمات الدولية لتعرقل أي قرار من شأنه إدانة حلفاء الصين الجدد وفي مقدمتهم إيران والسعودية، خاصة في حال انضمام روسيا إلى هذا التحالف، وهو ما سيتم التطرق إليه تفصيلاً في مقال آخر.