تتعرض الآثار المصرية العالمية للنهب والسرقة أمام أنظار الحكومة التي لا تحرك ساكنًا، ويبدو أن لا شيء قادر على إيقاف هذه الممارسات سوى ثورة مفاجئة.
عندما يتعلق الأمر بالجمال والآثار القديمة، فإن لا أحد يستطيع منافسة مصر، إذ تعتبر مصر مهد الحضارة البشرية، بهندستها المعمارية المميزة وتاريخها الإسلامي، جنبًا إلى جنب مع الأهرامات الفرعونية الخالدة؛ ما قد يجعلها وجهة سياحية رائدة، ولكن في الوقت الذي تشهد فيه قيمة العملة الصعبة ارتفاعًا كبيرًا، لم تعد مصر في قائمة أفضل الوجهات السياحية، وإذا تعمقنا في النظر لما يحدث فيها، فإنه ستبرز لنا مشاكل أخرى أكثر تعقيدًا.
قبل أن تقلب الثورة المصرية البلاد رأسًا على عقب، استقبلت البلاد أكثر من 14 مليون سائح في سنة 2010، مقابل 12 مليون سائح في سنة 2009، أي بارتفاع بلغ 12.7% قبل أشهر قليلة من الثورة في سنة 2011، منذ ذلك الوقت، بدأت الأمور تزداد سوءًا تدريجيًا، في البداية، أطلق جنود مصريون في شهر أيلول/ سبتمبر من سنة 2015 النار عن طريق الخطأ على مجموعة من السياح المكسيكيين مما أدى إلى مقتلهم، والقضاء على السوق المكسيكية للسياح على المدى البعيد، ثم كلف الإرهاب مصر أكثر من ذلك، عندما تعرضت طائرة روسية للتفجير في شهر أكتوبر/ت شرين الأول من سنة 2015، ثم أعقبتها عملية اختطاف لطائرة تابعة لشركة مصر للطيران في شهر آذار/ مارس من نفس السنة، قبل أن تتعرض طائرة أخرى إلى هجوم إرهابي محتمل خلال شهر مايو/ أيار الماضي.
لا غرابة أن هذه الأحداث قد أدت إلى تراجع السياحة في مصر بنسبة 51% خلال النصف الأول من هذه السنة، وقبل هذه الأحداث الدرامية التي شهدتها مصر، تراجع عدد السياح في أواخر سنة 2015 ليبلغ 9.3 ملايين سائح فقط، ويمكن بناء على ذلك توقع ما قد يحدث فيما تبقى من سنة 2016.
“سيئة وأسوأ”
بدأت سالي سليمان عملها على اكتشاف الكنوز التاريخية التي تزخر بها مصر منذ 27 سنة تقريبًا، بعد تخصصها في مجال علم الآثار والتاريخ، وتحديدًا التاريخين الإسلامي والفرعوني، وعندما كانت تتحدث للآخرين عن دور الدولة في حفظ آثار مصر، قالت: “لسنا نتحدث عن أشياء جيدة وأخرى سيئة، بل نتحدث عن أشياء سيئة وأخرى أسوأ”.
يتعرض الموروث الوطني في مصر لخطر التآكل والتلف بسبب العوامل الطبيعية مثل الهواء، والمياه الجوفية، بينما يتجاهل المسؤولون الرسميون هذه المخاطر، ويتكفل الفساد وقلة الوعي بجعل الوضع أكثر سوءًا.
عندما تصبح سرقة الإرث الوطني سهلة إلى درجة أن أحدهم يستطيع أن يتلقى قطعة أثرية تصله أمام عتبة بيته، فإن الوضع يجب أن يكون قد بلغ مرحلة خطيرة، وقد نقلت سليمان قصة سرقة شهيرة تعود لسنة 2010، تتمثل تفاصيلها في سرقة مجموعة من لصوص الآثار لقطعة من مسجد قاني باي، وتحديدًا منبر الإمام الذي يخاطب من فوقه المصلين في المسجد.
يبلغ وزن المجسم الذي تعرض للسرقة أكثر من 100 كيلوغرام ويصل طوله إلى أكثر من خمسة أمتار، لذلك كان يمكن للجميع ملاحظته، لكن لا أحد كان ليعير الأمر اهتمامًا كبيرًا، ولذلك سيبقى الأشخاص الذين يرتكبون هذه السرقات يتجولون بكل حرية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: “من المسؤول عن ذلك”؟
وعندما طرحنا نفس السؤال على سليمان، ذكرت أن “مسؤولية حراسة المسجد تقع على عاتق وزارة الأوقاف بدءًا من الساعة الـ 8 صباحًا إلى الساعة الثالثة بعد الزوال، بينما تتعهد وزارة الآثار بحمايته من الساعة الثالثة بعد الزوال، إلى الساعة الثامنة صباحًا”، وقد عملت سليمان على متابعة القضية، وطرحت السؤال على المسؤولين الكبار في وزارتي الأوقاف والآثار في مصر، مما جعلها شخصًا غير مرغوب به في أروقة هاتين الوزارتين، ولا شيء تتقنه الوزارات المصرية، وتحديدًا هاتين الوزارتين سوى إلقاء اللوم على بعضهما البعض عندما يتعلق الأمر بالتقصير في مراقبة الآثار وحمايتها من عمليات السرقة والنهب التي أصبحت تطالها باستمرار.
“بعض النقود وكباب لذيذ”
ذكر أحد المفتشين المصريين الذين لديهم خبرة في التعامل مع حالات سرقة الآثار، أن عمليات النهب والسرقة لا تقتصر على القاهرة فقط، بل تمتد من سيناء شمالاً، إلى الأقصر جنوبًا، وبينهما بنها، وخلال حديثه معنا، ذكر الخبير الذي فضل التستر على هويته الحقيقية، تفاصيل اكتشاف الآثار الرومانية واليونانية في بنها المصرية خلال السبعينات.
وقع المنقبون على الآثار، بعد فترة قصيرة من اكتشاف هذه الآثار، اتفاقًا مع وزارة الآثار المصرية تقوم بموجبه الوزارة برعاية الموقع وصيانته، لكن السلطات المصرية أصدرت فيما بعد قرارًا ببناء ملعب في مكان قريب من الموقع، وبعد سنوات، أدرك مفتش الآثار حقيقة ما تعرضت له الآثار في ذلك الموقع.
إن أكثر شيء يثير قلق مفتش الآثار هو الدور المحدود الذي يمكن أن يلعبه في الحد من الجريمة المنظمة ضد الآثار المصرية، وإذا تفطن مفتش الآثار المصرية إلى ممارسات غير قانونية يقوم بها أحدهم خلال التنقيب عن آثار فرعونية، فإن كل ما يمكنه القيام به هو إعلام الشرطة المصرية، التي لا تحرك ساكنًا لمنع هذه الجرائم، وإن فعلت فإن المجرمين يستطيعون التملص من التهم المنسوبة إليهم بسهولة عن طريق استغلال الثغرات التي يتضمنها القانون المصري، والتي تسمح حتى لمحامٍ لا يتمتع بالخبرة الكافية بمساعدة موكله على التملص من كل التهم الموجهة إليه.
كانت تحتوي القليوبية على حمامات يونانية مصممة بشكل جميل، لكنها لم تعد كذلك منذ أن قامت أيادٍ مصرية بترميمها آخر مرة، ولذلك، قال مفتش الآثار: “لم يعد هناك أي تفصيل واضح في هذه الحمامات”، كما يبدو أن قلة الكفاءة التي يعاني منها أغلب الباحثين المصريين “تدفع البعثات الأجنبية للآثار إلى عدم الثقة في المفتشين المصريين، وهم على حق في ذلك”.
وأضاف المفتش الذي يدعى “إس”: “لا أحد يستطيع البناء فوق أرض ما إلا إذا أزيلت الآثار، لكن بعضًا من المال وكباب لذيذ يمكن أن يحل تلك المشكلة”.
ببساطة مذهلة
إن الآثار المصرية تتعرض لموجة من النهب والسرقة، وقد قام باحثون في جامعة ألاباما الأمريكية ببحث أثبت أن عملية نهب الآثار في مصر قد تضاعفت أكثر من مرة بين سنتي 2009 و2010، وقد ازداد الأمر سوءًا بعد الثورة، ويعتقد علماء الآثار والأساتذة في الجامعة الأمريكية أن مظاهر الجريمة ضد الآثار المصرية تنتشر “ببساطة مذهلة”، وما شاهده هؤلاء الأشخاص عن طريق الأقمار الصناعية على بعد آلاف الكيلومترات أكدته سليمان التي أفادت أن “عشرات المعالم تعرضت للنهب”.
يتم تهريب بعض القطع الأثرية إلى أوروبا والولايات المتحدة، بينما تعتبر دول الخليج الوجهة الرئيسية للآثار الإسلامية، حيث يذهب نصيب الأسد منها إلى كل من قطر والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، ولا يمكن لمصر أن تطالب هذه الدول برد الآثار ما لم تكن لديها حقائق ثابتة حول طرق التهريب والمالكين الجدد لهذه الآثار.
إن افتقار المواقع الأثرية في مصر لأشخاص يتمتعون بالتدريب الكافي لصيانتها قد يكون أكثر تهديدًا للإرث الحضاري للبلد من عمليات النهب والسرقة، ولذلك أخبر أحد المسؤولين الرسميين سليمان أنه “دون سياحة لا يوجد مال”، بينما قال مسؤول آخر في حوار ثنائي مع سليمان “أتمنى لو تختفي بعض القطع الأثرية حتى يقل العبء علينا”.
خفة اليد، بعض الجنيهات وابتسامة
مصر لا تساعد نفسها لحماية آثارها، فإذا كنت باحث آثار أو عالمًا يقوم ببحوث حول علم الآثار الإسلامية في مصر لأغراض أكاديمية، فإنك ستجد مشاكل عديدة فيما يتعلق بالإيجار الذي يمكن أن تصل قيمته إلى 30 ألف جنيه مصري، وفقًا لما ذكرته سليمان.
كما أن مصر لا زال يحكمها نفس المنطق الخاطئ الذي كان يعتقد أن رفع الضرائب على قناة السويس يمكن أن يرفع من حجم المداخيل، وقد كانت النتيجة أن السفن التي كانت تعبر قناة السويس باستمرار أصبحت تبحث عن بديل آخر، وهو ما كبد القناة خسائر إضافية، وهو ما يحدث أيضًا في قطاع الساحة، فكيف يمكنك أن تصر على فرض أسعار مرتفعة بينما لا زال الطلب منخفضًا، ولا زالت أغلب هذه المواقع تفتقر إلى الصيانة الضرورية؟
كل ما كانت سليمان تحتاجه أحيانًا لدخول بعض المواقع الأثرية وتوثيقها هو علاقات شخصية، وخفة اليد، وبعض الجنيهات، وابتسامة عريضة، لكن التصوير الفوتوغرافي لبعض المواقع الأثرية المتداعية في مصر وتوثيق حالات الفساد قد يعني في ظل الظروف السياسية القاسية التي تعيشها البلاد، تمضية بعض الوقت في السجن.
تقول سليمان “أفكر تسعة آلاف مرة قبل الذهاب إلى مصور فوتوغرافي، يجب أن أكون أكثر ذكاءً”، في المقابل، واجهت سليمان خطر الاعتقال بسبب مدونتها التي تحمل عنوان “بسارا هيريتاج”، التي وثقت فيها كل ما شاهدته مع زميلها محمد سليمان، الذي لا تربطها به علاقة، سوى صداقة قديمة.
ثورة الآثار
إن مصر في وضع اقتصادي لا تحسد عليه، فقد تراجعت مداخيل الدولة المصرية المتأتية من القطاع السياحي من 12.5 مليارات دولار سنة 2010 إلى 5.9 مليارات دولار سنة 2013.
كما أن عودة تلك الإيرادات المفقودة إلى خزينة الدولة المصرية يمكن أن يحل مشاكل كثيرة في الوقت الذي تخسر فيه البلاد تدريجيًا حلفاءها في المنطقة، بما في ذلك المملكة السعودية التي أصبحت أقل استعدادًا لمساعدة مصر، بسبب مواقف السيسي، وآخر تصريحاته بعدما نشر على تويتر تغريدة قال فيها “يكفي تبعية لأشقائنا العرب”.
إن القاعدة الرئيسية تقول: “إذا كان هناك شيئًا تريد أخذه فيجب أن تعطي شيئا آخر في المقابل”، ولذلك، تعتقد سليمان أن هناك ثلاثة أشياء يمكن أن تحدث حتى تزدهر المواقع الأثرية الإسلامية والفرعونية من جديد:
– الاعتراف بوجود مشكلة.
– القضاء على الفساد “في كل زاوية وإلى آخر نفس”.
– وضع خطة على المدى القصير والبعيد لإدارة الآثار في البلاد.
إن سليمان على حق، لكن هناك أشياء أخرى يجب أن تتغير أيضًا، فمصر لا تشهد فقط ركودًا اقتصاديًا، بل هي مهددة بانتكاسة يمكن أن تعقبها خطوات إلى الخلف ضمن مسار الثورة المضادة.
ضمن هذا المجال، وجد المفهوم الجديد في مصر نفسه في مواجهة المفهوم القديم، إن المفهوم الجديد يمثل التغيير، إلا أن الثورة المضادة لا يمكن أن تستوعب التغيير.
توجد بعض الوزارات المصرية القليلة التي ترغب في حماية هذه الكنوز وصيانتها من الضياع والنهب، والقضاء على مظاهر الفساد التي تحيط بها، لكن مجهوداتهم تضيع هباءً وسط كل الإجراءات الروتينية التي تتعارض مع كل أشكال التغيير.
يمكن استغلال تراجع سعر الجنيه المصري الذي وصل إلى معدل 17 جنيهًا مقابل دولار واحد، لإقناع السياح بالعودة إلى مصر بعد أن أصبح الدولار الأمريكي أكثر قوة، وفي بلد يعاني من نوبة ضخمة من كراهية الأجانب الناجمة عن القومية التي تغذيها سياسة السيسي، تبدو هذه المهمة شبه مستحيلة، فإذا كان العدو أجنبيًا، كيف يمكن أن يكون أيضًا المنقذ؟
يجب أن يحدث تغيير في مصر حتى تستعيد ثقة علماء الآثار، حيث تحتاج الثروة الأثرية في مصر إلى ثورة حقيقية لحماية وجودها.
المصدر: ميدل ايست أي