الوفاء قليل في البشر، وأوفى الأوفياء من يفي للأموات، لأن النسيان غالبًا ما يباعد بين الأحياء وبينهم، فيغمطون حقوقهم، ويجحدون فضائلهم، فما بالكم بالوفاء للشهداء الذين باعوا لله أنفسهم على مذبح الحرية وقدموا أنفسهم قربانًا لمبادئها، ونحن نعيش ذكرى الفاتح من نوفمبر المجيد حري بنا أن تتوقف وقفة شكر وعرفان بالجميل لهؤلاء الشهداء الذين قال فيهم سبحانه وتعالى {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.
صحيح أن الثورة الجزائرية عرفت العديد من الصراعات الداخلية، شأنها في ذلك شأن كل الثورات والمجتمعات، لكن المشكل المطروح هو إلى أي مدى يعترف الجزائريون حكامًا ومثقفين بهذه الصراعات في خطابهم حول تاريخ الثورة تنويرًا للأجيال الصاعدة، قبل أن يرحل بعض الخلق منهم من دار الفناء إلى دار البقاء، لأن الموت لا يعطي موعدًا، ولأن “الموت كأس وكل الناس شاربه”، أو على حد قول كعب بن زهير: “كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وإنْ طالَتْ سَلامَتُهُ … يَوْمًا على آلَةٍ حَدْباءَ مَحْمولُ“.
الصراع طبيعي في حياة المجتمعات بصفة عامة، وأكبر من طبيعي في الحياة السياسية
وللإجابة على هذه التساؤلات كلها، على أصحاب الاختصاص من كتاب ومؤرخين، القيام بعملية تصنيف وجرد وغربلة لمختلف الصراعات الداخلية التي عرفتها الثورة الجزائرية، ثم كيفية تناول الخطاب التاريخي الجزائري لها، لأن الصراع طبيعي في حياة المجتمعات بصفة عامة، وأكبر من طبيعي في الحياة السياسية، وينطبق هذا على حالة مواجهة مجتمع ما أو أمة ما، لعدو خارجي مثلما هو الأمر لكل من جبهة وجيش التحرير الوطنيين في مواجهتهما للاستعمار الفرنسي ما بين 1954 و1962، وكان من المفروض أن تحظى الصراعات داخل الثورة الجزائرية باهتمام كبير من قبل المؤرخين عامة والجزائريين منهم خاصة، لأن ذلك كفيل بفهم الحركية الفكرية والسياسية والعسكرية داخل الثورة ذاتها.
يتبادر إلى الذهن – كلما أشرنا إلى الصراعات داخل الثورة الجزائرية – كل من الصراع بين العسكري والسياسي من جهة والصراع بين الداخل والخارج من جهة أخرى، وعادة ما ترد جذور هذين الصراعين إلى قرارات مؤتمر الصومام التي نصت على أولوية الداخل على الخارج وأولوية السياسي على العسكري، مما أدى إلى رفض الوفد الخارجي لهذه القرارات ونشوب صراع بين بن بلة وعبان رمضان الذي انتهى باختطاف طائرة الزعماء الخمس يوم 22 أكتوبر1956، “مما يدفعنا إلى القول أن فرنسا قد قدمت بذلك من حيث لا تعلم خدمة كبيرة للثورة لأنها بذلك أوقفت عملية تآكل بين الثوار كانت آتية لا محالة”، على حد تعبير المؤرخ رابح لونيسي، في كتابه “الجزائر في دوامة الصراع بين العسكريين والسياسيين”.
الصراع بين العسكريين والسياسيين لا تعود جذوره إلى مؤتمر الصومام
بل يعتقد هو وغيره، أن الصراع بين العسكريين والسياسيين لا تعود جذوره إلى مؤتمر الصومام كما يريد أن يوحي لنا البعض، بل هو أبعد من ذلك، ويمكن القول أن جذوره تعود إلى ما قبل عام 1954 بسنوات، عندما عجز السياسيون عن القضاء على النظام الاستعماري وانشغالهم بالصراع حول مقاعد مختلف المجالس في الانتخابات التي كانت تنظمها الإدارة الاستعمارية قبل عام 1954، ثم تزايد عداء العسكريين للسياسيين بعد تخلي سياسيي الحركة من أجل الانتصار للحريات الديمقراطية عن أعضاء المنظمة الخاصة الشبه عسكرية بعد اكتشافها عام 1950، ثم نجاح أعضاء هذه الأخيرة ليس فقط في إشعال فتيل الثورة المسلحة عام 1954، بل أيضًا إنقاذ الحركة الاستقلالية الممثلة في الحركة من أجل الانتصار للحريات الديمقراطية من الانفجار بفعل الصراع بين المصاليين والمركزيين.
فقد أدت هذه العوامل كلها إلى احتقار العسكريين للسياسيين وعدم الثقة فيهم، مما جعل شيخنا العلامة محمود بوزوزو يكتب استبيان قبل ذلك ببداية الخمسينات في جريدته “المنار”، لتمحيص الصفوف وغربلة الغث من السمين، يطلب في استبيانه هذا من المثقف الجزائري الرد على كم هائل من الأسئلة، منها على سبيل المثال: أحقية شعب الجزائر في الاستقلال من عدمه واسترجاع هويته ودينه ولغته وغيرها كثير.
حرب بين الأشقاء أو “حرب داخل حرب”
كما عرفت الثورة أيضًا صراعًا من نوع آخر، سالت فيه الكثير من دماء جزائريين كانوا يؤمنون كلهم بقضية استرجاع الاستقلال الوطني، ويتمثل في التقاتل بين كل من جبهة التحرير الوطني والحركة الوطنية الجزائرية بقيادة مصالي الحاج، وقد كان محمد حربي على حق عندما أطلق على هذا الصراع تسمية “حرب داخل حرب” أي بمعنى حرب أهلية جزائرية داخل الثورة.
وقد كان لهذا الصراع تأثير كبير على الولاية السادسة، أي الصحراء بعد لجوء “الجنرال” بلونيس إليها بعد الضربات التي تلقاها في الولاية الثالثة، كما كان لها تأثير أيضًا على الثورة في المهجر بفعل النفوذ الذي تحظى به الحركة المصالية هناك، هذا دون إهمال تأثيراتها الوخيمة على الجزائر المستقلة، لأن إبعاد أنصار مصالي ومقتل العديد من إطاراتها قد أفقد الجزائر العديد من الكفاءات السياسية التي تمرست في النضال داخل حزب الشعب الجزائري ثم الحركة من أجل الانتصار للحريات الديمقراطية لمدة طويلة.
من أسباب ضعف الدولة الوطنية استشهاد وتصفية القادة الأوائل للثورة
ويمكن لنا أن نضيف إلى هذا العامل في تفسيرنا لبعض أسباب ضعف الدولة الوطنية، استشهاد العديد من القادة الأوائل للثورة وتصفية البعض منهم بفعل الصراعات وطموحات البعض الذين التحقوا بالثورة فيما بعد، بالإضافة إلى إبعاد العديد من القادة الكبار والإطارات الذين وقفوا ضد تحالف بن بلة – بومدين في أثناء أزمة صيف 1962، ونعتقد أن هذه التصفيات والإقصاءات كانت أحد الأسباب في فشل عملية بناء الجزائر بعد استرجاع الاستقلال.
من سلبيات الكتابة عن الثورة الجزائرية
يلاحظ المؤرخون والدارسون عمومًا، من خلال تتبعهم للخطاب التاريخي الجزائري حول الصراعات داخل الثورة الجزائرية، غيابًا تامًا للكتابة في هذه المواضيع، ولم تبدأ بوادر تحطيم بعض التابوهات حول تشريح هذه الصراعات إلا على استحياء في السنوات الاخيرة.
ولعل من سلبيات الكتابة عن الثورة الجزائرية حتى الآن – كما يشرح ذلك شيخ مؤرخي الجزائر أبو القاسم سعد الله -، هو عدم تحديد معاني الثورة ومدلولاتها، متسائلاً “هل الثورة عندنا هي حمل السلاح فقط؟ إن كان الأمر كذلك فإن هناك العديد من الثوريين الذين لم يحملوا السلاح وإنما كانوا اللسان الناطق باسم الذين حملوه، ولولاهم لبقى الثوار في حصار مادي وسياسي ومعنوي قاتل، كما حصل لثوار الجزائر الذين خاضوا الحرب ضد العدو منذ هزيمة الأمير عبد القادر سنة 1847 من دون أن يسمع بهم أحد، مما ساهم في إفشال ثوراتهم، أو هل الثورة هي فكرة تختمر وتنضج حتى تصبح مشروعًا حضاريًّا كبيرًا وعملًا مباشرًا قابلًا للإنجاز؟ أو هي شرارة بندقية ولعلعة رصاص ينطلق من كل صوب لإجبار العدو على التخلي عما اغتصبه اغتصابًا؟
مبررا “أن الجواب على مثل هذه التساؤلات هو الذي سيعفي الكثيرين من الكتاب من الخوض في موضوعات أصبحت بلا طائل مثل: من أعد للثورة؟ وما منطلقها؟ وما أهدافها القريبة والبعيدة؟ وما علاقتها بالتراث الوطني؟ وما انتماؤها الفكري؟ كما أنه هو الجواب الذي سيعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر، وبه ينتهي الجدل العقيم الذي يدور حول دور كل من جمعية العلماء وحزب الشعب في تفجير الثورة، وهو الجدل الذي حاول البعض المزايدة فيه بتقديم أحدهما على الآخر بدون دراية ولا دراسة موضوعية.
جمعية العلماء كانت في الطليعة الثورية
الشيخ محمد البشير الإبراهيمي
ويعتقد الدكتور سعد الله – رحمه الله – جازمًا أن نَشْرَ الوثائق والنصوص سيساعد على وقف ذلك الجدل العقيم، فهي وثائق ونصوص تبرهن على أن جمعية العلماء كانت في الطليعة الثورية وأن رئيسها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي كان لسانها البليغ المعبر عن توجهاتها وعقيدتها في وقت كانت فيه الأحزاب وقادتها تشهد تحجرًا بل تراجعًا، مما جعلها تواجه أزمات حادة بعثرت كثيرًا من الآمال والعقائد في استراتيجية التنظيم نفسه وفي زعمائه.
التفسير الحزبي لتاريخ الثورة أساء إلى الثورة نفسها حتى الآن
مبينًا بأن “التفسير الحزبي لتاريخ الثورة قد أساء إلى الثورة نفسها حتى الآن”، معللاً ذلك بقوله “فمن جهة ندعي أنها ثورة شعبية وتلقائية ومن جهة أخرى ندعي – باسم حزب كذا – أنه لولا الزعيم الفلاني ولولا التنظيم الخلّاني لما كانت الثورة أصلًا، وهذا افتئات على الواقع وعلى حق الشعب في الانتماء والاختيار، ومع ذلك فإننا نذكر، للمقارنة والتوضيح، أن زعماء الحركة الوطنية ليسوا سواء في الثبات على المبدأ، وفي الالتزام بحق الشعب في الحرية والذاتية السياسية.
ومن الإنصاف أن نقول إن هناك فرقًا بين تبنّي الثورة والدعوة لها وبين الانضمام لجبهة التحرير والالتزام بشرعيتها”، والذي يدرس تطور الأحداث خلال خريف وشتاء 1954 يدرك أن اللجنة التي كونت جبهة التحرير وأعلنت الثورة لم تكن معروفة حتى لزعماء الحزب الذي خرجت منه، فما بالك بقادة التنظيمات الأخرى؟
بيان نوفمبر، ليس ميثاقًا أو عريضة مرجعية ذات فلسفة وتصورات حضارية
كما يذهب الدكتور سعد الله في تقديمه لكتاب “في قلب المعركة” للشيخ الإبراهيمي، إلى الجزم بأن “من يطالع بيان أول نوفمبر سنة 1954 يلاحظ، بدون شك، أن البيان لا يجيب على بعض النقاط بوضوح كالهوية والإسلام والعروبة، وأنه ليس ميثاقًا أو عريضة مرجعية ذات فلسفة وتصورات حضارية، وإنما هو وثيقة سياسية – صحفية – كتبت فيما يبدو على عجل وصيغت في عبارات بسيطة وعملية، فكيف نتوقع أن يتبنى الشيخ الإبراهيمي ذلك البيان على علاته، وهو الأديب النابغ والممثل الرمز لجمعية أخذت على عاتقها استرجاع الشخصية العربية الإسلامية للجزائر؟ نقول هذا لكي يكون مفهومًا عند من لم يفهم بعد لماذا احتضن الشيخ الإبراهيمي الثورة من أول وهلة ولم يفعل ذلك مع جبهة التحرير”.
رأي جمعية العلماء لم يكن مجرد رأي سياسي، بل عبارة عن (فتوى)
ويعلل شيخ المؤرخين ذلك بقوله “أن رأي الشيخ الإبراهيمي لم يكن مجرد رأي سياسي يعبر عن قبول كذا أو رفضه، مثل بقية الزعماء، لأن رأي الشيخ الإبراهيمي كان عبارة عن (فتوى) تقول فيه جمعية العلماء للشعب الجزائري إن الجهاد قد حق عليك وإن السلطات الفرنسية في الجزائر إنما هي سلطات كافرة يجب مكافحتها شرعًا”.
بالإضافة إلى الوزن السياسي لهذه الفتوى، “فالشيخ الإبراهيمي كان من رجال الدين البارزين وكان مشهودًا له بالتعمق في الفقه والأصول وأحكام الشريعة الإسلامية، ولذلك قلنا إن رأيه ليس في وزن رأي زعيم آخر في بلاده أو في خارجها، فقد كان ينظر إليه على أنه يمثل فتوى شرعية للجهاد والتحرير”.
للأجيال عمومًا، الجزائـر قطـعـة قدسـيـة وقصيدة أزلية
ختامًا لا يسعنا إلا نختمها بهذه الأبيات الرائعة البليغة، لشاعر الثورة مفدي زكريا – رحمه الله – التي يجب أن تحفظها الأجيال المسلمة عن ظهر قلب، بل ليتدبرها كل جزائري أصيل ليعرف مغزى، جهاد شعب الجزائر، أكثر من قرن من الكفاح عبر العصور و الأجيال:
هذا (نوفمبر) قم وحـي المدفعـا *** واذكر جهادك والسنين الأربعـا
واقـرأ كتابـك للأنـام مفصـلا *** تقرأ به الدنيا الحديـث الأروعـا
إن الجزائـر قطـعـة قدسـيـة *** في الكون لحنها الرصاص ووقعا
وقصـيـدة أزلـيـة أبيـاتـهـا *** حمراء كان لها (نفمبـر) مطلعـا
نظمت قوافيها الجماجم في الوغى *** وسقى النجيـع رَويَّهـا فتَدفّعـا
غنى بها حر الضميـر فأيقَظـت *** شعبا إلى التحرير شمر مسرعـا
…………… *** …………..
وأراده المستعمـرون عناصـرا *** فأبى مـع التاريـخ أن يتصدعـا
واستضعفـوه فقـرروا إذلالـه *** فأبت كرامتـه لـه أن يخضعـا
واستدرجـوه فدبـروا إدماجـه *** فأبـت عروبتـه لـه أن يُبلعـا
وعـن العقيـدة زوروا تحريفـه *** فأبى مع الإيمـان أن يتزعزعـا