لم يعد وودي آلن مجرد مخرج كبير له تاريخ طويل يمتد لـ 50 سنة لم يتوقف فيها ولو لعام عن صنع الأفلام، بل أصبح أشبه بصديق موجود معنا دائمًا سواء أمام الكاميرا أو خلفها كمخرج، أو حتى في أحاديثه بالمؤتمرات ومقابلاته الصحفية خاصة وهو يرافق عروض أفلامه في مهرجان كان، ودائمًا ما يكون الرجل مصدر بهجة ومتعة دائمًا بسوداويته المرحة أو مرحه السوداوي المحبب للنفس، فتصبح مقابلاته الصحفية وكأنها مشهد سينمائي آخر يستحق الحفظ كقطعة فنية، فلا فارق مع وودي آلن، فأفلامه هي امتداد لنفسه وهو امتداد لأفلامه، وحواراته التي يقولها عفو الخاطر في رده على الأسئلة التي يوجهها له الصحفيون تكاد تراها أمامك كسطور في سيناريو مطبوع جاهز للتصوير، أو كمشهد خيالي ينتظر أن ينسجه ضمن مشاهد فيلم آخر جديد، والواقع أن الرجل وقد تجاوز الثمانين ما زال يصنع الأفلام بنفس النشاط والبساطة بمعدل وإيقاع يكاد يفوق قدرتنا نحن كمشاهدين على المتابعة.
في فيلمه الأحدث مقهى المجتمع “café society” والذي يصلح ترجمته بـ “مقهى النخبة” يعود آلن إلى فترة حنينه الدائم إلى عقد الثلاثينات في أمريكا حيث قضى طفولته، وكان قد قدم تلك الفترة في عدد من روائعه مثل زيليج 1983، وأيام الراديو 1987، وحلو وخفيض 1999.
هنا أمريكا الثلاثينات التي سيطرت عليها هوليوود بأحلامها ونجومها كبديل براق عن الواقع الذي خنق الناس بكساده الاقتصادي، فنرى بطل الفيلم وهو الشاب بوبي دورفمان من عائلة يهودية من برونكس في نيويورك وقد توجه إلى كاليفورنيا بعد أن بارت تجارة والده للبحث عن عمل مع خاله فيل ستيرن وهو أحد أكبر وكلاء الفنانين في هوليوود وأكثرهم نفوذًا وانشغالًا، للدرجة التي لا يستطيع ابن أخته أن يقابله إلا بعد ثلاثة أسابيع، فالأمر ليس كنيويورك حيث يمكن لابن الأخت أن يقابل خاله حول مائدة عشاء حميمية دون ترتيب مسبق أو مواعيد مؤجلة.
ويتم اللقاء أخيرًا كعبء ثقيل على الخال الذى يجلس أمام ابن أخته متململاً يعده بوظائف صغيرة وسط مقاطعات دائمة من رنين الهاتف، لكن الدراما الحقيقية تبدأ مع سكرتيرة الخال الشابة الصغيرة الجميلة فيرونيكا التي يناديها الجميع بـ “فونى”، والتي تكون أشبه بمرشد سياحي صغير للفتى في المدينة الخيالية من دور عرض السينما الفخمة إلى بيوت النجوم المشاهير الأكثر فخامة، الفتاة تعلق على هذا العالم بنبرة ساخرة لأنها كما تقول تفضل عالم أكثر بساطة.
ينجذب الفتى إليها لكن فوني تخبره أنها مرتبطة بشخص آخر، والذي نعرف فيما بعد أنه خال الفتى ورئيسها في العمل فيل ستيرن، فهما يلتقيان سرًا والرجل الكبير يقرر أن يترك زوجته من أجلها، لكن القرارات الحاسمة في عالم وودي آلن تتبدل بتغير المناخ أو بمجرد حركة عقارب الساعة من الظهيرة إلى المغرب، فنفاجأ بأن الخال لم يترك زوجته بل قرر أن ينهي العلاقة مع سكرتيرته فوني لأنه لا يستطيع أن يترك زوجته بعد ربع قرن من الزواج.
هنا تجد الفتاة في عواطف الشاب بوبي الصادقة الساذجة تعويضًا عن خيبتها، وتتجاوب معه وتتحول لقاءاتهما الروتينية كصديقين إلى علاقة رومانسية صغيرة تنمو على مهل لمدة عام يقرر في نهايته بوبي أن يرتبط بالفتاة ويعود بها إلى نيويورك، حيث اكتشف أنه لا يستطيع الابتعاد عنها كنيويوركي أصيل، وبعد أن فتح أخوه الأكبر بين دورفمان رجل العصابات والذي يحصل على كل شيء بقوة السلاح مقهى أو ملهى ليلي للصفوة في مانهاتن وعرض عليه إدارته.
لكن عقارب الساعة تدور في الاتجاه الآخر، ومرة أخرى القرارات تتغير وكلعبة الدومينو المتساقطة يؤثر قرار هذا على قرار ذاك، والذي يؤثر بالتالي على عواطف شخص ثالث، وهكذا فالفوضى تحل على جميع أطراف اللعبة، فالخال بعد عام يكتشف أنه لا يستطيع الابتعاد عن سكرتيرته فوني وقد اتخذ هذه المرة قرارًا حاسمًا بالانفصال عن زوجته وقد بلغها فعلًا بالقرار، ليذهب إلى فوني في مقر عملها الجديد كفتاة تعمل كمسؤولة عن حفظ معاطف رجالات ونساء هوليوود في أحد أماكن السهرات التي يرتادها كريمة الكريمة من مجتمع هوليوود ليخبرها بأنه قد ترك زوجته من أجلها.
يعرف الفتى برومانسية خاله القديمة مع فتاته فوني، وأن الفتاة في غمضة عين قد اختارت أن تعود إلى خاله لتشبع رغبتها القديمة في الارتباط به، هنا ينتهى الجزء الأول من الفيلم ليبدأ الجزء الثاني في مانهاتن لنعرف أن الفتى قد أصبح مديرًا للمقهى الذي يمتلكه أخوه، والمقهى أو البار الليلي أصبحت سمعته تعلو والإقبال عليه يتزايد من نخبة المجتمع من مشاهير الساسة، ونجوم الاستعراض، وحيتان المال والاقتصاد، ونعرف أن الفتى ارتبط بفتاة أخرى على اسم حبيبته القديمة فوني وقد أنجب منها ولدًا، والحياة تسير كأجمل ما يكون، لكن في عين الفتى بوبي نعرف أن شيئًا ما قد انطفأ إلى الأبد، نظرته الساذجة التي تفرح وتتحمس بالأشياء قد راحت، فهو الآن يمضغ التفاحة الحلوة بهدوء أقرب إلى الفتور بعد طعنة العشق القديمة التي علمت القلب أن يحترس.
بعد عام آخر أو يزيد يكون اللقاء الثاني بالحب الأول فوني، وقد جاءت أخيرًا إلى نيويورك في ذراع خاله وهي ترتدي الفراء وتشبه كل شيء كانت تسخر منه قبل ذلك، تحاول أن تتحدث معه بينما هو يراوغ لقاءها وهو يتحسس جرحه القديم، لكن وكأنها تحاول مداواته وتطبيب جرحه تعرض عليه أن يعيدا عقارب الساعة إلى الوراء قليلًا، وأن يتقابلا ولو تحية لرومانسيتهما القديمة، وتعده بأن تطبخ له طبخة كانت قد وعدته بها منذ عام ولم توف بها.
يكشف الفتى عن روحه مجددًا ويعترف بمرارة أنه لم يتوقف عن حبه لها، ولم ينسها ولو ليوم واحد وها هي مرتبطة بخاله، ويقول لها بسخرية مريرة “أليست الحياة كوميديا من تأليف مؤلف سادي النزعة؟”.
بعد أن يطوف بها معالم مانهاتن كما فعلت هي معه في الماضى في بيفرلي هيلز، ومع الوجبة التي طبختها له مع أصدقاء إيطاليين نمت من جديد عاطفة الحب كنبتة جامحة أفلتت من قبضة القلب لتربطهما معًا من جديد، تقبله قبلة الترضية فجرًا في سنترال بارك، وكأن العالم قد خلا إلا منهما وأنمحت مفاهيم الزمان والمكان لبرهة كأنهما يعيشان حلمًا يعلمان أنه قصير وسيعود كل منهما إلى حياته بعد انتهائه، وفعلًا وفي أثناء زيارة قصيرة سريعة إلى بيفرلي هيلز وفي آخر لقاء بينهما في مقهى مكسيكي صغير كانا قد اعتادا أن يتقابلا به في زمنهما القديم يتفقان على ألا يلتقيان بعد ذلك، فكل منهما يثير في الآخر الرغبة والحلم، والأحلام كا قالت فوني تظل “أحلامًا”.
وتمضي حياتهما وينهي وودي آلن فيلمه بمونتاج متوازٍ بين كاليفورنيا ونيويورك، وكل منهما يحتفل بالعام الجديد ولكن في عينيهما تلمع نظرات الحلم بلقاء الآخر البعيد غير الحاضر في المكان، هذا هو الخيط الأساسي للحدوتة، لكن هناك خطوط أخرى رسمها آلن ببراعة عن الأخ الأكبر رجل العصابات “بين” الذي يحكم عليه بالإعدام فيتحول قبل تنفيذ الحكم إلى المسيحية لأن اليهودية كما يقول لا تؤمن بحياة بعد الموت، وهو يحتاج أن يعتقد أن جزءًا منه سيستمر – موجودًا – بعد موته وأن الأرض ليست هي النهاية، بينما الأم ترى أن تحول ابنها عن ديانة أجداده إلى المسيحية هي جريمة أكبر من القتل، وأن على اليهودية أن تعلن أن هناك حياة أخرى بعد الموت لكي تجذب زبائن أكثر.
التمثيل من بطلي الفيلم الأساسيين جيسى إيزنبيرج وكريستين ستيوارت في أفضل حالاته ويمس القلب مباشرة، ومشهد لقائهما في سنترال بارك يظل في الذاكرة بسبب رهافة أدائهما.
بالنهاية كافيه سوسيتى يثبت أن قريحة وودي آلن ما زالت خصبة، وما زالت قادرة على إمتاعنا 20 عامًا أخرى لو سار على درب أبيه وعاش حتى يتجاوز المئة، وظل كل عام يصنع فيلمًا، فصناعة الأفلام عند وودي آلن هي حاجة ملحة لكي يبعد عن ذهنه فكرة الموت الذى يقترب منه سريعًا ولم يحل لغزه إلى الآن، فكما قال آلن “صناعة الأفلام هي تشتيت مناسب للذهن عما يشغله من معضلات الوجود”.