تقتصر معلومات السواد الأعظم من الناس، عن قطاع غزة، على قزمية مساحته 360 كم2، وعلى عدد سكانه المليوني نسمة، وأنهم يتشابهون مع بعضهم البعض، وسواء كان وطنيًا (الانتماء والتضحية) أو اقتصاديًا (الحركة والعمل)، أو اجتماعيًا (العادات والأعراف)، أو ثقافيًا (الفكر والممارسة)، لكن عدد قليل يقف عند حقائق دامغة، وهي التي تكشف عما يُناقض ذلك كليًا كان أو جزئيًا، فعند عرض بعض من التفاصيل، ستكون هناك مفاجآت قد يعلم بها الكثيرون لأول مرة.
قبل ذلك، يجدر التنبيه على أننا كعرب وفلسطينيين بخاصة، دائمًا نجد ألسنتنا كثير السرَح بالعرض الإسرائيلي، باعتباره كيانًا لَممًَا – خليطًا من إثنيات وأعراق وأجناس مُختلفة -، اجتمعت من أنحاء الأرض، وأنه بقي على تشتته، حتى برغم تجمعه في دولة يُقال لها إسرائيل.
حيث الإشكنازيم – يهود من أصول غربية -، يترفعون عن السفارديم – من أصول شرقية -، ثم يمينيون متشددون يمقتون اليساريين الليبراليين، ثم متدينون (حريديون) يُكفرون العلمانيين وأتباع الهسكلاة، والإسرائيليون الأوائل يجتنبون المستوطنين، ويهود (أرض إسرائيل الكاملة)، يخونون أتباع (ناتوري كارتا، السلام الآن، بتسيلم)، وهم جميعهم يكرهون العرب كُره العمى، وهكذا، وبالمناسبة فقد سبق وأن عول الكثيرون من العرب على تفجر إسرائيل من الداخل بواسطة تفاعل المعادلات السابقة، لتنتهي بتفجرات صاخبة، تقضي على بنيتها المجتمعية، وقواها السياسية.
بعد سرد هذه البيانات، يجدر بنا العودة إلى مجتمعنا العربي، بسبب أنه يتعين علينا الوقوف على حقائق غاية في السوء، ربما تفوق تلك المنطبقة – كما ورد – على المجتمع الإسرائيلي، الذي بقي متماسكًا إلى الآن، وربما سيمتد تماسكه إلى فترات طويلة تُخالف توقعاتنا – وليس لأغراضٍ مُبيتة مُطلقًا -، حيث إن ذلك المجتمع، لا يزخر بأشكال مُعززة من العنصرية فقط، بل ويُبدي تشوقًا لا يُطاق بشأن ممارستها، وليس في ناحيةٍ أو أكثر، بل في كل الأنحاء.
منذ الصغر حدثنا الآباء عن نعرات عنصرية وقعت بشدة داخل المجتمع الفلسطيني، وسواء التي استمعوا إليها من أسلافهم أو تلك التي عاصروها على مدار حياتهم وبشكلٍ يومي (بدون تسميتها عنصرية)، وكنا فيما بعد، قد لمسنا أنماطًا متعددة تدل ببساطة على أنها عنصرية، حيث كانت لها آثارًا مُجدية في خلخلة المجتمع الفلسطيني، ووصوله إلى درجة لا يمكن من خلالها أن نجزم بأنه متماسكًا.
الأسوأ هو، ما إن تخف حِدة صورة واحدة منها، بفعل التغيرات والتقلبات التي تطرأ على المجتمع ككل، إلا وتتولد صورًا أخرى، وتكون على درجة أقسى وأشد، والتي تبرز جليًا وتمتد لتطال أساسيات الحياة، وسواء المتعلقة بمسألة الاعتداد والدونية، أو بمعاملات البيع والشراء، أو المتصلة بالروابط والمجاملات، أو بتلك المُرتبطة بالنشاطات الوطنية والثورية العامة.
كان من أعمق تلك الصور وأظهرها، صورة (الأسود – الزنجي – الأبيض)، وكانت الغلبة للأبيض، باعتباره حرًا، والتصاق الأسود بصفة العبيد، ويتواجدون للخدامة فقط، ثم صورة أهل البادية – البدو – على اختلافهم، وأهل الفلِح – الفلاحين والحضر – وهم أهل المدينة، والغلبة للبدو لـ(زعمهم) بأنهم ينحدرون من أنسال مُسماةً ولا شائبة فبها، ثم برز مصطلح القلاعية، نسبة إلى قلاع المدن، وتوطدت هذه بشكل خاص لدى مواطني مدينة خانيونس، نسبة إلى قلعتها التي تتوسط المدينة، ويقابلهم السيلاوية، نسبة إلى وادي سهيل، الذي انحدروا منه، والغلبة للقلاعية، لزعمهم، بأنهم أرقى عرقًا، ومن أهل البلاد الأصلاء.
ثم درج وبشكلٍ أوسع عما قبل، مصطلح (شمال وجنوب)، أي شمال القطاع والذي مركزه مدينة غزة، وجنوبه والذي مركزه مدينة خانيونس، والغلبة للشمال حيث يشعر المنتمون إليه، بأنهم أكثر رُقيًا وحضارةً وأعظم عتادًا وأموالًا، إلى الدرجة التي يترفعون فيها عن تولي الوظائف الحكومية المقيدة والدنيا على نحوٍ خاص.
وبالوصول إلى سنوات الخمسينات، برز داخل القطاع ككل مصطلح “مُواطنين ومُهاجرين”، والمواطنون هم أهل البلاد، والمهاجرون هم من هاجروا نتيجة الحرب الصهيونية عام 1948، وتم إسكانهم في مخيمات تمت إقامتها بمحاذاة مدن القطاع، والغلبة كانت للمواطنين بادئ الأمر، ومُتوازنة بعد عدة سنوات، وربما أصبحت تميل لهم الآن كما يبدو.
سنوات التسعينات، شهِدت انطلاق مصطلح جديد، وهو (داخل وخارج)، حيث يُقصد بالداخل، سكان القطاع، والخارج وهم الفلسطينيين الذين عادوا بناءً على اتفاقات أوسلو المُبرمة بين الفلسطينيين والإسرائيليين عام 1993، وكانت الغلبة لهم، كونهم يُمسكون بزمام الأمور منذ البداية، ويحتلون المراكز والمناصب المتفوقة، ويحوزون امتيازات حكومية من غير حدود.
ومع بلوغنا منتصف 2007، فقد شهدنا الانشقاق الفلسطيني الكبير، والذي تم بواسطة حركتي (فتح وحماس)، وبعد أن كانت الغلبة لـ (فتح)، فقد أصبحت متبادلة ومتوازنة تقريبًا، بدلالة أنهما لا تستطيعان إلى الآن، إيجاد تفاهمات ذات قيمة يُمكن أن تؤدي إلى مُصالحة حقيقية، حتى برغم ما نتج عن لقاء الدوحة (النادر)، والذي تم مؤخرًا، بين الرئيس الفلسطيني أبومازن وبين كلٍ من رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل ونائبه إسماعيل هنية.
الصور السابقة، هي حفنة من صور أخرى، وهي لا تزال سارية، وكما يبدو ستظل ممتدة مستقبلًا، وإن كانت بدرجات متفاوتة، وتبعًا للتطورات الاجتماعية وما يتعلق بها، وإذا كان لا بد من ذِكر أن هناك اختراقات لبعضها، فلا بد أن نذكر أشدها وأكثرها صعوبةً، وهي التي تكمن في الشمال والجنوب، باعتبار ليس مأمولًا تلاشيها، وفي ضوء أنها لا تزال تتفاقم إلى الآن بدلًا من انحسارها.