يعاني لبنان الآن من فراغ سياسي، وهذا ليس بالأمر المفاجئ، فقد أصبح الشرق الأوسط بمثابة شعوب مقسمة، خاصة بعد اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، الأمر الذي جعل لبنان تحت رحمة القوى العالمية التي تحاول كل منها التلاعب بالانقسامات العرقية والطائفية لكي تخدم مصالحها الخاصة، ومع بلوغ المنافسة الإقليمية ذروتها، فإن لبنان أصبح يسعى جاهدًا لتشكيل حكومة ولانتخاب رئيس بهدف ملء الفراغ السياسي الذي يعاني منه منذ سنتين ونصف، لكن هناك مؤشرات تدل على أن هذه المعاناة قد تنتهي قريبًا.
تعمل الحكومة اللبنانية بموجب اتفاق الطائف لسنة 1989، الذي أنهى 15 سنة من الحرب الأهلية الطاحنة في البلاد، لكن هذا الاتفاق كان أيضًا بداية حقبة من الشلل السياسي، وقد نص اتفاق الطائف على أن السلطة اللبنانية يجب أن تكون مشتركة بين الطوائف الرئيسية الثلاثة في البلاد، بطريقة تكون فيها رئاسة الوزراء من نصيب السنّة، وتكون الرئاسة من نصيب المارونيين، أما رئاسة مجلس النواب فتكون من نصيب الشيعة.
وفي الحقيقة، فإنه على مدى ربع القرن الماضي، حاول حزب الله أن يضمن للشيعة مكانتهم في لبنان، وألا يتم استبعادهم من قبل السنة والغرب الذي يسعى إلى الحد من تأثير إيران على لبنان، لذلك عمل حزب الله على حماية مصالح الشيعة وإضفاء الشرعية على دورهم في الحياة السياسية من خلال إقامة تحالفات استراتيجية مع طوائف أخرى كي يتعزز نفوذهم في المجال السياسي.
وعندما لم تنجح تلك الاستراتيجية، عزز حزب الله مكانته في البرلمان، وركز جهوده على تعطيل القرارات السياسية، وإن فشلت هذه الاستراتيجية، فيمكن لحزب الله الاعتماد على قوة ميليشياته في خلق حالة من الفوضى، وشلل كامل للنظام، وكما سبق وذكرنا، فإن حزب الله أقام عدة تحالفات مع طوائف أخرى، ومن أهم هذه التحالفات هي تلك الذي أقيمت مع قائد الجيش السابق ميشال عون في شهر شباط/ فبراير من سنة 2006، أي قبل أشهر قليلة من الحرب بين حزب الله وإسرائيل، وفي تلك الفترة، كان حزب الله يحاول درء جهود السنة في محاولاتهم لنزع سلاح حزب الله، وذلك بسبب دوره في عملية اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري سنة 2005، وقد شهدت العلاقة بين حزب الله وميشال عون عدة تقلبات، لكن حزب الله حاول دائمًا المحافظة على علاقته مع الزعيم الماروني البارز على أمل أن يصبح رئيسًا يومًا ما، وقد يتحقق ذلك خلال الأيام القليلة القادمة.
وفي المقابل، لطالما حاول سعد الحريري، نجل رفيق الحريري، تشكيل حكومة تقوم بانتخاب أول رئيس ماروني، على أن يتم لاحقًا تنصيب الحريري رئيسًا للوزراء، ورغم أن للحريري وزن سياسي مهم، إلا أنه يفتقر للمصداقية، كما أن إفلاس شركته “سعودي أوجيه” أثّر سلبيًا على سمعته، وساعد على تعزيز مكانة الزعيم السني المنافس له، وهو وزير العدل السابق أشفر ريفي، لكن سعد الحريري قرر أن يقوم بمحاولة أخيرة للحفاظ على مكانته.
أقام الحريري اتفاقًا مع عون عن طريق وساطة فرنسية، وسيؤدي هذا الاتفاق إلى تنصيب عون رئيسًا للبلاد وإلى كسر الجمود السياسي فيها، وسيكون ذلك خلال اجتماع برلماني اليوم31 تشرين الأول/ أكتوبر، وذلك في إطار المحاولة السادسة والأربعين لانتخاب رئيس للبلاد، لكن السؤال الذي يجب أن يطرح الآن هو ما إذا كانت القوى الخارجية ستوافق على هذه الانتخابات، خاصة منها المملكة السعودية وإيران، ويبدو أن إيران قد أبدت موافقتها المبدئية على ذلك، لكن مع بعض التحفظات، فحزب الله لديه علاقة قوية مع إيران ومع عون أيضًا، لكن يبدو أن هناك انعدام للثقة بين كل من إيران وعون، خاصة بعد الاتفاق الذي جمع هذا الأخير بسعد الحريري الذي يعارض حزب الله، شأنه شأن حليفته المملكة العربية السعودية. وبذلك فإن حزب الله وحلفاءه الشيعة قد يواصلون دعمهم لميشال عون على الرغم من أن حزب الله قد يكون قادرًا على تعطيل تشكيل الحكومة إذا أراد ذلك.
يبدو أن الاتفاق بين عون والحريري كان أمرًا مفاجئًا بالنسبة للمملكة السعودية، وقد أصبحت الرياض تتعامل بصرامة أكبر مع حلفائها السنيين، متوعدة إياهم بالتوقف عن دعمهم إذا لم يتمكنوا من تحقيق نتائج ملموسة، وبما أن سعد الحريري أثبت أنه غير قادر على كسر الجمود السياسي، كما أنه أصبح غارقًا في الديون، فإن المملكة السعودية أدركت أنها لا تستطيع الاعتماد عليه، وبالتالي، بإمكاننا أن نجزم أن السعودية قد لا تعارض التسوية التي تمت بين عون والحريري، وفي الواقع، فإن الوزير السعودي لشؤون الخليج، ثامر الصبحان، والذي قد يصبح سفيرًا في لبنان عما قريب، يجري حاليا محادثات مع الشخصيات الرئيسية للتباحث في مستقبل البلاد، الأمر الذي تراقبه إيران عن كثب.
وفي الحقيقة، فإن السياسية اللبنانية تعتبر معقدة ولا يوجد أي دليل على أنه سيتم انتخاب عون أو أنه سيتم كسر الجمود، وحتى وإن أصبح عون رئيسًا، فإن عملية تشكيل الحكومة ستؤجل مرات عديدة، كما أن رئاسة عون قد تثير تساؤلات عما إذا ستكون تمهيدًا لبداية عدة تسويات وتنازلات في دول أخرى في المنطقة.
من الواضح أن هذه التسويات لن تكون في سوريا أو العراق، خاصة مع المعارك القائمة في حلب والموصل، أما بالنسبة للحرب في اليمن، فإنه قد يكون هناك أمل في حوار سعودي إيراني، أما السعودية، المدعومة من قبل الولايات المتحدة، فهي تشعر بالقلق إزاء تسليح إيران للمتمردين الحوثيين، خاصة بعد الهجمات الصاروخية التي نفذها الحوثيون ضد السفن الأمريكية، وقد أبدت إيران أيضًا قلقها إزاء الغارات الجوية التي نفذتها المملكة السعودية، وما سببته من إصابات في صفوف المدنيين.
وتجدر الإشارة إلى أن كل محاولات التسوية السياسية في اليمن باءت بالفشل، لكن السعودية لا تزال تبحث عن مخرج للأزمة يحفظ لها ماء الوجه، وهو ما لا يمكن تحقيقه دون الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع الحوثيين وإيران، ومن وجهة النظر الإيرانية، فإنه بإمكانهم استخدام الحرب اليمنية للتوصل إلى تسويات في دول أخرى، بما في ذلك لبنان، لكن هذه التسويات قد تكون بمثابة “لعنة” للمنطقة في الوقت الراهن، خاصة وأن التنافس السعودي الإيراني بلغ ذروته، رغم أن التطورات الأخيرة في لبنان قد تبقي الأمل قائمًا في المستقبل.
المصدر: ستراتفور