عام كامل مر على حادثة سقوط الطائرة الروسية بشبه جزيرة سيناء المصرية، أودت بحياة 224راكبًا، صبيحة سبت الحادي والثلاثين من أكتوبر من العام الماضي، والتي كانت متجهة من مطار شرم الشيخ إلى مطار سانت بطرس بورج، لتدخل العلاقات المصرية الروسية نفقاً جديدًا، فضلا عن العديد من التساؤلات التي تفرض نفسها مع إحياء الذكرى الأولى لهذه الحادثة.
تعليق روسيا لرحلاتها الجوية تفهمته القاهرة بشكل طبيعي، لاسيما بعد ضلوع بعض التنظيمات الإرهابية في الحادثة حسبما أسفرت نتائج التحقيقات، آملة أن تعود موسكو عن قرارها في أقرب وقت تماشيا مع العلاقات المتطورة بين البلدين والتي تدفع كل منهما إلى الحيلولة دون تعميق الأزمة حفاظا على روابط الصداقة بينهما، لكن وبعد مرور عام كامل على هذا الحادث وبالرغم من المساعي الدبلوماسية التي بذلتها مصر لإثناء الشريك الروسي عن قراره الذي أثر بصورة كبيرة على حركة السياحة في مصر، فضلا عن آثاره السياسية الأخرى، إلا أن هذه المحاولات باءت جميعها بالفشل حتى وإن تلقت القاهرة وعودا عديدة من الإدارة الروسية.
التعنت الروسي في استئناف الرحلات الجوية وعودة السياحة لمصر، كان أبرز علامات الاستفهام التي تطل برأسها تبحث عن إجابة، فضلا عما حققته القاهرة جراء التقارب مع موسكو، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي، وانعكاسات هذا التقارب على علاقات مصر الإقليمية.
القاهرة – موسكو.. تاريخ مثمر
تعود بداية العلاقات الدبلوماسية بين الاتحاد السوفيتي ومصر إلى 26 أغسطس 1943، حيث افتتاح أول قنصلية سوفيتية في القاهرة، ولم تكن البدايات سياسية وفقط، ففي أغسطس 1948 وقعت أول اتفاقية اقتصادية بين البلدين، بمقتضاها يتم مقايضة القطن المصري بحبوب وأخشاب من الاتحاد السوفيتي.
وبلغت العلاقات الثنائية ذروتها في فترة الخمسينات – الستينات من القرن العشرين حين ساعد آلاف الخبراء السوفيت مصر في إنشاء المؤسسات الإنتاجية، فضلا عن تمويل ما يقرب من 97 مشروعا، منها بناء السد العالي في أسوان ومصنع الحديد والصلب في حلوان ومجمع الألمونيوم بنجع حمادي ومد الخطوط الكهربائية أسوان – الإسكندرية، فضلا عن التعاون في المجال العسكري حيث زودت موسكو القاهرة بخبراء روس لتعليم الجنود المصريين، إضافة لتزويد الجيش المصري بالأسلحة المتطورة.
وكانت مصر في طليعة الدول التي أقامت العلاقات الدبلوماسية مع روسيا الاتحادية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، واستمرت العلاقات بين البلدين على نفس الوتيرة إبان فترة حسني مبارك.
دخلت العلاقات بين القاهرة وموسكو مرحلة من الوفاق غير المسبوق مع تولي السيسي مقاليد الأمور في البلاد، حيث اعتبرت مصر روسيا الشريك الأكثر وفاء ومساندة ودعما للنظام الحاكم في مرحلته القادمة
ومع بداية ثورة يناير المجيدة أبدت موسكو تحفظها على السياسة الخارجية المصرية في ذلك الوقت لاسيما بعد وصول تيار الإسلام السياسي للحكم، وهو ما أقلق الإدارة الروسية حينها بسبب دعمه لفصائل المقاومة في المستعمرات الروسية في الشيشان وغيرها، وهذا ما يفسر الترحيب الشديد بسقوط حكم الإخوان المسلمين، والدعم المطلق لـ 30يونيو، وتكريس حكم مابعد الإخوان بحزمة من المساعدات العسكرية والاقتصادية.
دخلت العلاقات بين القاهرة وموسكو مرحلة من الوفاق غير المسبوق مع تولي السيسي مقاليد الأمور في البلاد، حيث اعتبرت مصر روسيا الشريك الأكثر وفاء ومساندة ودعما للنظام الحاكم في مرحلته القادمة، خاصة بعد تردد بعض القوى الدولية في الاعتراف بشرعية السيسي معتبرة أن ما حدث في 30يونيه انقلابا على الشرعية، فما كان أمام السلطة حينها إلا البحث عن حليف قوي يدعم توجهاتها الجديدة، فكانت موسكو.
ثم جاءت الزيارات المتبادلة بين بوتين والسيسي لتسير في هذا الاتجاه، وهو ما أوهم المحللين في مصر حينها بأن روسيا هي البديل الجديد لأمريكا وأوروبا، وليس مشهد بوتين خلال تلقيه العشاء من فوق برج القاهرة، فضلا عن ارتداء السيسي لـ ” جاكيت ” بوتين في موسكو ببعيد…
ثم جاءت حادثة الطائرة الروسية التي سقطت في سيناء صبيحة السبت 31اكتوبر 2015، والتي كانت متجهة من مطار شرم الشيخ إلى مطار سانت بطرس بورج وعلى متنها 224 راكبا لقوا جميعا حتفهم، لتضرب بكل أوهام المحللين عرض الحائط، لتعلن موسكو فورا تعليق رحلاتها للقاهرة، وإجلاء رعاياها وتحذير مواطنيها من السفر لمصر، مما مثل صدمة هائلة للمقربين من نظام السيسي، وبات السؤال الأكثر حرجا يفرض نفسه على الجميع: أين الحليف الجديد؟ ولماذا تخلى عنا مع أول موقف ؟ هل من المنطقي الاعتماد على شريك قد يلقي بك في أول محطة حينما تتعرض مصالحه للضرر؟
تاريخ من التعاون المشترك بين مصر وروسيا
حادثة الطائرة الروسية .. علامة استفهام
الكثير من المقربين من دوائر صنع القرار في مصر أكدوا أن الموقف الروسي ليس أكثر من رد فعل مؤقت، وأن جبال الجليد التي بنيت بين البلدين في غمضة عين وإنتباهتها، ستذوب قريبا بقوة دفء العلاقات بين الجانبين، لكن ومع مرور عام على هذه الحادثة لم تحرك موسكو ساكنا، ولم تستجيب للتحركات الدبلوماسية المصرية بشأن العودة عن هذا القرار الذي ألقى بظلاله القاتمة على الاقتصاد المصري داخليا، وصورة مصر خارجيا، ثم جاءت الشروط الروسية الجديدة لاستعادة رحلاتها من جديد للقاهرة لتضع المزيد من الوقود على نيران العلاقات بين البلدين لتزيد اشتعالا، لتدخل العلاقات الروسية – المصرية نفقا مظلما جديدا..
بالرغم من استجابة الجانب المصري لاملاءات الروس، فضلا عن الجهود الدبلوماسية التي بذلتها القاهرة طوال الأشهر الماضية لإثناء موسكو عن قرارها، إلا أن ذلك لم يكن شفيعا لهم للتراجع
الشروط الروسية التي تمحورت في بناء صالات خاصة للسياح الروس والطائرات الروسية في مطارات البلاد، أو تخصيص عدد من المخارج الخاصة فقط بالسياح الروس في المطارات المصرية، فضلا عن التشديد الأمني غير المسبوق، إضافة إلى اشتراك خبراء أمن روس في عملية تأمين المطارات، أعتبرها البعض انتهاكا صارخا للسيادة المصرية، ومع ذلك لم ترفضها مصر بالكلية، بل فتحت قنوات اتصال مع الجانب الروسي، حيث استضافت خبراء روس أكثر من مرة للتفتيش على المطارات، وقدمت القاهرة لموسكو حزمة من التنازلات لم تقدمها لأي دولة في العالم.
وبالرغم من استجابة الجانب المصري لاملاءات الروس، فضلا عن الجهود الدبلوماسية التي بذلتها القاهرة طوال الأشهر الماضية لإثناء موسكو عن قرارها، إلا أن ذلك لم يكن شفيعا لهم في التراجع، والسماح باستئناف رحلاتهم الجوية، وعودة السياحة لمصر مرة أخرى، ما يعكس هشاشة العلاقات بين الجانبين على عكس ما كان يروج الإعلام المصري، وهو ما وضع عشرات من علامات الاستفهام حيال هذا التعنت، في الوقت الذي تتراجع فيه موسكو عن قرارها بحق تركيا بعد أقل من شهرين فقط، بالرغم من اعتراف أنقره بمسئوليتها عن إسقاط الطائرة الحربية الروسية على الحدود السورية، ما دفع البعض إلى القول بأن موسكو تتعامل مع الدول بأكثر من مكيال.
من راهنوا على قوة ومتانة العلاقات مع روسيا هاهم اليوم يبحثون عن تبريرات واهية بشأن الشروط المجحفة التي وضعتها موسكو لعودة سائحيها لمصر مرة أخرى، مؤملين عودة العلاقات بين البلدين في أقرب وقت، دون التحدث عن السقوط المدوي الذي وقعت فيه الدبلوماسية المصرية في تقييمها للعلاقات مع موسكو، وما تلاها من عزف منفرد للإعلام المصري على هذا الوتر أيضا.
الطائرة الروسية المنكوبة في سيناء
بالتأبين.. مصر تغازل روسيا
في الوقت الذي تعاني فيه محافظات شمال وجنوب سيناء والصعيد من سيول وأعاصير أودت بحياة العشرات في غيبة تامة للحكومة والسلطات التنفيذية، هاهي محافظة جنوب سيناء تنظم حفلا بميدان “السلام” بشرم الشيخ لتأبين ضحايا حادث الطائرة الروسية، في خطوة وصفها البعض بأنها مغازلة جديدة من القاهرة لموسكو لعلها تتراجع عن قرارها.
إننا فتحنا رسائل التعازي في السفارة فوجدناها مليئة بالتعاطف والمواساة وهو دليل قوي على وقوف الشعب المصري وتعاطفهم مع أسر الضحايا
السفير الروسي بالقاهرة، سيرجي كيريتشينكو، صرح خلال حضوره التأبين قائلا: إننا شعرنا بتعاطف وتسامح الشعب المصري منذ اللحظات الأولى لحادث سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء العام الماضي.
وأضاف “إننا فتحنا رسائل التعازي في السفارة فوجدناها مليئة بالتعاطف والمواساة وهو دليل قوي على وقوف الشعب المصري وتعاطفهم مع أسر الضحايا البالغ عددهم 224 من روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا، موضحا: “ما زالت صورة الطفلة البالغ عمرها عامان والتي لقيت مصرعها مع أسرتها في أذهاننا حتى الآن”.
وبالرغم من تعويل البعض على مثل هذه الخطوات لحلحة الأزمة بين القاهرة وموسكو، إلا أن البعض أكد أن هناك فجوة كبيرة في نظرة الروس للأمور مقارنة بالمصريين، فهم ليسوا أهل عاطفة ومشاعر قدر ما هم أهل مصالح وحسابات أخرى، تصب جميعها في صالح مواطنيهم والحفاظ عليهم وحياتهم، ومن ثم فمهما بذلت القاهرة من جهود دبلوماسية لن تثني موسكو عن قرارها إلا إذا تأكدت من الضمانات الموضوعة لتأمين رعاياها ومواطنيها.
حصاد التقارب المصري الروسي
منذ تولي السيسي مقاليد الأمور في مصر وتعويله على روسيا كشريك وحليف بديل للولايات المتحدة، عزف الإعلام وأجهزته المختلفة، على ما يمكن أن تحققه مصر من خلال هذا التقارب، فباتت الصحف والموقع الإخبارية وشاشات الفضائيات تفرد مئات المساحات للأخبار الروسية، والطفرة الاقتصادية التي حققتها خلال السنوات الأخيرة، وقدرتها على منافسة أمريكا، هذا من جانب، فضلا عن الأحلام المعقودة على الاستثمارات والدعم والمنح الروسية المزمع تقديمها لمصر سواء في مستوى الطاقة النووية أو التسليح العسكري، فضلا عن أوجه التعاون الاقتصادي المختلفة من جانب آخر.
ثم جاء الإعلان الروسي عن تمويل مفاعل الضبعة النووي، فضلا عن تزويد مصر ببعض الأسلحة المتطورة والمواد النفطية، بمثابة “العربون” الذي قدمته موسكو لتضمن ولاء القاهرة طيلة الفترة الماضية، وهو ما تجسد في تبعية القرار المصري للتوجه الروسي في العديد من الملفات، في مقدمته الملف السوري، حيث صوتت مصر لصالح المقترح الروسي داخل مجلس الأمن الدولي وهو ما تسبب في شرخ كبير في العلاقات بين القاهرة والعواصم الخليجية.
الشرخ في العلاقات المصرية السعودية لم يقتصر فقط على البعد الاقتصادي فحسب، بل إن بعض العواصم الخليجية من طالب بعدم ترشح السيسي لفترة رئاسية جديدة
التأييد المصري للروس في الملف السوري تسبب في فجوة كبيرة مع المملكة العربية السعودية، الداعم الأول بجانب الإمارات للنظام المصري منذ الإطاحة بالرئيس المعزول محمد مرسي في 2013، وهو ما تمثل في حالة التراشق الإعلامي والسياسي بين الجانبين الذي عقب الموقف المصري بمجلس الأمن، بداية بتقليل الدعم والتمويل، مرورًا بتوقف إمدادات النفط من شركة أرامكو، وانتهاء بسخرية وزير الأوقاف السعودي السابق ورئيس منظمة المؤتمر الإسلامي إياد مدني من الرئيس المصري.
الشرخ في العلاقات المصرية السعودية لم يقتصر فقط على البعد الاقتصادي فحسب، بل إن بعض العواصم الخليجية طالبت بعدم ترشح السيسي لفترة رئاسية جديدة، مناشدة إياه بالاكتفاء بهذه المدة، تاركا المجال لشخص آخر لم يسمى بعد، غير أن بعض الترشيحات الخليجية تصب في صالح الفريق أحمد شفيق.
ويبقى السؤال: لماذا يصمم النظام المصري على تقديم المزيد من التنازلات للروس بالرغم من تكشف الكثير من الحقائق التي تبين مدى هشاشة الاعتماد على موسكو كحليف وشريك قادر على تعويض الخسائر الناتجة عن فقدان حلفاء آخرين في مقدمتهم دول الخليج؟ ثم بعد مرور عام على سقوط الطائرة وفي ظل هذا التعنت الواضح في مقابل الغزل الصريح والعفيف الذي تنشده القاهرة حبا وعشقا في الدب الروسي..يبدو أن التساؤل حول توقيت عودة موسكو عن قرارها لازال قائما وربما يستمر لفترات طويلة