إن الذي بنى مصر كان في الأصل غريبًا يحتقر المصريين وجرت دولته التي شيدها على سُنَّته إلى يوم الناس هذا، ويظهر أن الطريقة التي بُنيت بها مؤسسات الدولة في مصر الحديثة تُنتج هذه العلاقة غير الطبيعية بين الحكومة والمحكومين، طريقة بناء فوقية هابطة من سماء المماليك وليست صاعدة من أرض الشعب.
الحكومة تبدو دائمًا غريبة في توجهاتها ورؤاها عن توجهات الشعب وتطلعاته، غريمة له، تحتقره كما لو كانت سلطات احتلال تحمل عبئًا كعبء الرجل الأبيض إزاء الأجناس المتخلفة، تمتص خيرهم أو تبيد خضراءهم، أراد باني مصر الحديثة أن يؤسس لمجد أسرته فأقام جيشًا عظيمًا على هامشه يقبع الوطن، يسد حاجته ويقيم أوده، وليس يهم إن سد هو حاجته إليه من عدمها، إن زَرَعَ الباشا وهو الزارع الوحيد، فإنما يزرع ليسد حاجة الجيش من الزاد واللباس، وإن صنع الباشا وهو الصانع الوحيد فلحاجة الجيش إلى صناعة البارود والطرابيش، وإن اتجر الباشا وهو التاجر الوحيد، فلكي يضمن توجيه نتاج الزراعة والصناعة إلى حيث يشاء، حتى الطب والأطباء كان يتم إعدادهم على قدر حاجة الجيش إلى ذلك، فكان أن سُوِّيَ الأطباءُ على عَجَل ليلحقوا بالكتائب في جزيرة العرب أو جزيرة القرم.
أقام الباشا جيشًا حديثًا من المصريين المنزوعي الوطنية بفعل الطريقة الجائرة التي جمع بها الأنفار وكأنهم حمر مستنفرة، مخلفين وراءهم الزروع والديار تشكو الخراب والبوار، وألقاهم في حروبه التي زجَّ بهم في آتونها بغير قضية تمسهم كأنهم مرتزقة، والنتيجة أصبحت كما يعرف كل مجند في الجيش المصري يدخل مصنع الرجال وعرين الأبطال مترعًا بشعارات الوطنية، ويخرج منه مهزومًا تحت جرعات القهر وإذلال الكرامة التي يتجرعها في أثناء الخدمة العامة، وظلت هذه هي حال المواطن في كل مؤسسة حكومية يدخلها ليحصل على خدمة عامة، ابتداءً من أقسام الشرطة، مرورًا بقلم المرور، وانتهاءً بشباك الموظفين الحكوميين الذين يمثلون الحكومة في تسلطها وتجبرها على الناس.
يختصر الرحالة البريطاني ريتشارد بيرتون هذه الثقافة قائلًا: إن المصري إذا تعامل مع ضابط شرطة أو دخل مركز الشرطة لأي أمر كان فلا بد أن يضربه الضابط أو المسؤول عنه على قفاه Upon his kafa حتى قبل أن تثبت عليه التهمة”، ويقول بيرتون: “إنك تمر مع المتهمين الآخرين ليأخذ كل منهم (قفًا)، فإذا جاء دورك أخذت الذي أخذوا، والقفا خاص بالمصري دون سواه، فإذا كنت أجنبيًّا تحرزوا في إعطائك القفا وأحالوك إلى قنصلية بلادك.
وما زلنا نعاني الاغتراب والتهميش في أوطاننا بسبب طريقة بناء الدولة الحديثة الفوقية، لم يكن بالمصريين حاجة لحرب الوهابيين ثم اليونان بل كانت حاجة الباشا لضم الشام هي الباعث على ذلك، ولم تكن بنا حاجة إلى حفلات إسماعيل وديونه، ولم نسأل عن القرار الفردي بتأميم القناة، كما اليوم في التدشين لحفر تفريعة القناة أو التنازل عن السيادة المصرية على جزرها في البحر الأحمر بغير رجوع إلى الشعب المسؤول عن دفع الحساب دائمًا وليس المسؤول عن أي قرار دائمًا، فالقرار بيد صاحب القرار.
نحن شعب محكوم بالقوة وليس محكومًا بالفعل، فالحكم بالقوة أنتج هذه اليد الأمنية القوية عند كل نقطة تماس للناس بالسلطة، بينما حكم الناس بالفعل بمعنى تحقيق الأمن للناس: أمنًا عسكريًّا يحمي الحدود والتراب، وأمنًا غذائيًّا يوفر السلع الاستراتيجية ويضمن حصول الناس عليها، وأمنًا صحيًّا يوفر تأمينًا علاجيًّا كريمًا للمرضى، وأمنًا علميًّا يضمن مكانًا لمصر في عالم الغد بالبحث العلمي، فلسنا بهذا المعنى محكومين بالفعل، نحن في الواقع نعيش في دولة شديدة الرخاوة، أو شبه دولة كما قال الجنرال الحكيم، ولن نكون جديرين بالتنافس للبقاء أحياء، في حياة كريمة، إلا إذا صار الحاكم محكومًا والشعب هو الحاكم الحقيقي، على حد وصفة جمال حمدان الواقعية السحرية.