يعد نموذج العلمنة، الإطار النظري والتحليلي الرئيسي الذي نظرت من خلاله العلوم الاجتماعية إلى العلاقة بين الدين والحداثة، ولكن يبدو أن مفهوم “العلمنة” قد أشكل كثيرًا في حقل الدراسات الاجتماعية وخاصة علم اجتماع الدين، إذ تداخلت تعريفات “العلمنة” ودلالاتها وحصل التباس بين السيرورات التاريخية للعلمنة نفسها، وبين النتائج المسبقة التي يفترض بهذه السيرورات أن تمارسها على الدين.
وفي هذا المقال سنستعرض دراسة عالم الاجتماع خوسيه كازانوفا “الأديان العامة في التاريخ الحديث” وعلى وجه الخصوص الفصل المتعلق بالعلمنة والتنوير، الذي يقوم على فكرة محورية رئيسية وهي: أن ما جرت العادة على اعتباره نظرية علمنة واحدة، يتألف في الحقيقة من ثلاثة اقتراحات في غاية التباين والانفصال والتفكك وتدرس كل منها بمعزل عن الآخر، وهي:
العلمنة بمعنى تمايز النطاقات العلمانية عن المؤسسات والمعايير الدينية.
العلمنة بمعنى أفول المعتقدات والممارسات الدينية.
العلمنة بمعنى تهميش الدين وتحجيمه في نطاق مخصخص.
في مفهوم العلمنة
يعد التمييز بين مفهوم “علماني” واشتقاقه “علمنة” من جهة، وبين النظرية السوسيولوجية للعلمنة من جهة أخرى، تمييز جوهري، لأن المفهوم نفسه متعدد الأبعاد وينطوي على دلالات ضمنية متراكمة عبر مساره التاريخي.
يرجع الأصل اللغوي لمفهوم العلمنة، للكلمة اللاتينية Saeculum التي تتضمن مرادفاتها ثلاث دلالات متقاربة، وهي “قرن، زمن، عالم”، فتصبح كلمة العلمانية تشير إلى ما هو زماني، ودنيوي، ودهري، إذ تمثل كلمة “قرن” الدلالة الأولى للمفهوم.
أما الدلالة الثانية لمفهوم العلمنة، فتتمثل بكونها “فعلًا قانونيًا” تترتب عليه نتائج قانونية حقيقية بالنسبة للفرد، وهنا تدل العلمنة على السيرورة الشرعية (القانونية) التي يترك بموجبها الشخص الديني الدير، من أجل العودة إلى “الدنيا” وإغواءاتها، فيصبح بالتالي شخصًا “زمنيًا”.
وأخيرًا، تكون الدلالة الثالثة لمفهوم العلمنة، دلالة السيرورة التاريخية، إذ استعمل المصطلح للمرة الأولى، لدلالة على قيام الدولة، وعلى نطاق واسع، بمصادرة الأديرة والأراضي والأوقاف التابعة للكنيسة واستملاكها، عقب الإصلاح البروتستنتي والحروب الدينية التي نجمت عن هذا الإصلاح.
وبالتالي أصبحت العلمنة تعني “الممر” والانتقال، أو نقل الأشخاص والأشياء والوظائف وغيرها من موقعها التقليدي في النطاق الديني إلى النطاقات الزمنية، وأصبح من المتعارف عليه الإشارة إلى العلمنة باعتبارها استيلاء المؤسسات الزمنية على الوظائف التي كانت المؤسسات الكنسية تسيطر عليها.
ويشير الشكل التالي إلى نموذج التصنيف الكنسي للكون الذي ساد في تصورات المسيحية السابقة للحداثة في أوروبا الغربية:
ووفق، هذا النموذج، فإن العلمنة بوصفها مفهومًا، تعني: المسار التاريخي الفعلي الذي ينهار بموجبه هذا النظام انهيارًا تدريجيًا، بحيث تسقط الجدران التي تفصل بين “الديني” و”الزمني” في “هذا العالم” وكذا تنهار بنى الوساطة المقدسة بين “هذا العالم” و”العالم الآخر” إلى أن يختفي النظام التصنيفي بأكمله.
وهو ما رمز له ماكس فيبر بقوله: انهيار جدران الدير، فالجدار الذي كان يفصل بين المملكتين الدينية والزمنية في “هذا العالم” ينهار، وينهار كذلك الجدار الفاصل بين “هذا العالم” و”العالم الآخر”، ويستمر الانهيار حتى يكون هناك عالم واحد فقط، هو “هذا العالم” بشقه “الزمني” فقط، ولا بد للدين أن يجد فيه موقعه الخاص.
في نظرية العلمنة
يرى كازانوفا أن مقولة العلمنة، هي المقدمة المنطقية غير المعلنة للكثير من نظريات الآباء المؤسسين للعلوم الاجتماعية الحديثة والذين سلموا بها “ضمنًا” دون تشكيك أو اختبار، من كارل ماركس إلى جون ستيوارت ميل، ومن أوغست كونت إلى هربرت سبنسر، ومن إميل دوركهايم إلى ماكس فيبر، ومن فيلهلم فوندت إلى سيجموند فرويد وغيرهم.
أما الأسس الأكثر منهجية لصياغة نظرية العلمنة، فهي تلك الموجودة في أبحاث إميل دوركهايم، وماكس فيبر، فقد أرسى كلاهما أسس الدراسة الاجتماعية – العلمية للدين، ورغم اختلاف “نظرية التمايز” بين دوركهايم وفيبر إلا أنها تمثل نواة نظرياتهما السوسيولوجية، حيث إن مقولة العلمنة هي نواة نظرية التمايز التي وضعها كلاهما.
غير أن دوركهايم وفيبر تبنوا تكهنات حول أفول الدين وانحساره أمام غزو العالم الحديث، وأنه سيتراجع دوره، ووظيفته، وتتغير طبيعته تدريجيًا وهكذا دواليك حتى يضمحل ويندثر الدين بالكامل.
أما نظرية العلمنة الوظيفية الجديدة، كما صاغها توماس لوكمان في كتابه “الدين غير المرئي” فهي لم تفترض الأفول الحتمي للدين في المجتمعات الحديثة، وإنما مجرد فقدان الدين لوظائفه الاجتماعية العامة والتقليدية، وكذلك خصخصة الدين وحصره في نطاق خاص.
إذًا هناك اتجاهان رئيسيان في نظرية العلمنة:
نظرية مبنية على الأصول الأيدولوجية في النقد التنويري للدين، التي ترى عملية التمايز الوظيفي تقود بشكل حتمي لتآكل الدين واندثاره.
نظرية التمايز الحديثة المستقلة ذاتيًا للنطاقين الزمني والديني، والتي لا تفترض الأفول الحتمي للدين، وإنما تراجع وظيفته في المجال العام وخصخصته.
الكتاب بالنسخة الأصلية
المراحل الثلاث المنفصلة لنظرية العلمنة
تمايز وظائف المجتمع وعلمنته
تعد مقولة “تمايز وظائف المجتمع” نواة نظرية العلمنة ومقولتها الأساسية، وهي مفهمة سيرورة التحديث المجتمعي، كسيرورة تمايز وظيفي وتحرر للنطاقات الزمنية (الدولة، الاقتصاد، العلم) من النطاق الديني وتمايز الدين وتخصصه.
حيث أصبح بإمكان النطاقات الزمنية المختلفة أن تقوم بذاتها كليًا، وأن يتمايز كل منها عن الآخر، وأن تتبع ما دعاه ماكس فيبر “استقلاليتها الداخلية والشرعية” في دراسته القيمة “أشكال الرفض الديني للعالم واتجاهاتها”.
ووفق نظرية التمايز، فإن النطاق الديني في البنية المكانية الجديدة يتحول إلى نطاق آخر ينتظم بنيويًا حول محور الداخلي المستقل، ويخضع لقوة المحورين الجاذبة: الدول والأسواق، وبالتالي يصبح الدين قائمًا بذاته متخصصًا في وظيفيته “الدينية الخاصة” مع فقدانه وإهماله لكثير من الوظائف “غير الدينية” التي لم يعد قادرًا على الاضطلاع بها بصورة فعالة.
أما العوامل التي ساهمت بإطلاق سيرورة التمايز الحديثة، فيمكن إرجاعها إلى أربعة تطورات تزامنت في الظهور، تحولت هي فيما بعد إلى نواقل لسيرورات التمايز، وهذه العوامل/ النواقل هي:
الإصلاح البروتستانتي، نشأة الدول الحديثــــة، نمو الرأسمالية الحديثة، الثورة العلمية الحديثة
وبما أن العوامل السابقة قد تطورت في أماكن وأزمنة مختلفة فهذا يعني أن أشكال العلمنة ونتائجها ستتنوع كذلك، فإذا كان الإصلاح الديني ناقل لسيرورات العلمنة، فيتوقع العثور على أشكال مختلفة في الدول الكاثوليكية عن البروتستانتية، وكذلك فإن قيام أشكال مختلفة من الدول مثل فرنسا وإنجلترا يعني أشكال مختلفة للعلمنة، وكذا في توغل السوق والثورة العلمية.
ومن المعروف أن النزاع بين الكنيسة والعلم، في حقيقة الأمر لم يكن قائمًا حول صحة النظريات الكوبرنيكية عن الكون أو بطلانها بقدر ما كان بسبب بروز العلم كنهج مستقل ومتمايز وجديد لبلوغ الحقيقة – بدلًا من أو مضافًا إلى الحقيقة الدينية -، فالنزاع كان حول تمايز مؤسسة معرفية جديدة (العلم) كمصدر لبلوغ الحقيقة، بعيدًا عن الكنيسة/ الدين، إذ كانت مساعي كل الرواد – جاليليوس وكيبلر ونيوتن – لتتويج كتاب الطبيعة إلى جانب كتاب الوحي (الكتاب المقدس)، كسبيل معرفي وشرعي ومنفصل.
لعل دراسة دافيد مارتن نظرية عامة للعلمنة (A General Theory of Secularization) من أهم الدراسات التاريخية والسوسيولجية المقارنة حول العلمنة، قارن فيها بين ثمانية أنماط رئيسية للعلمنة، والتي أخذ فيها بالحسبان العوامل الثلاثة الأولى (البروتستانتية والدولة والتنوير) بالإضافة لطبيعة السوق الدينية.
وتعد أشهر نظريتين للدين “الحديث” هما نظرية توماس لوكمان حول “الدين غير المرئي” ونظرية روبرت بلا، حول “الدين المدني” الشكل العام للدين الحديث.
أفول الدين وانحساره
وقع دوركهايم وفيبر في المزاعم الفكرية التي سادت في عصرهم حول مستقبل الدين، إذ يرى كلاهما أن الأديان التاريخية القديمة لن يكتب لها البقاء أمام غزو العالم الحديث، أو على حد تعبير دوركهايم: “الآلهة القديمة هرمت وماتت أصلًا”، وبأنها لن تستطيع، في مطلق الأحوال، مزاحمة الآلهة الجديدة، والتي يعتقد دوركهايم أن المجتمعات الحديثة سوف تستحدثها، وكان فيبر يرى أن “الكنائس القديمة سوف تظل مجرد ملاذ لأولئك الذين لا يستطيعون مواجهة مصيرهم الزمني بشجاعة الرجال”.
وكان لنقد الدين في عصر التنوير، دور كبير ساهم في تعزيز نقد الدين وجعل انحساره نبوءة ذاتية التحقق في بلدان كثيرة، وتمثل النقد التنويري للدين بثلاثة أبعاد، هي:
بُعد معرفي موجه ضد الأفكار الميتافيزيقية السائدة
بُعد عملي – سياسي موجه ضد مؤسسات الكنيسة.
بُعد ذاتي – تعبيري موجه ضد فكرة الله نفسها.
لقد أجمعت الحركة التنويرية على أن “دين الكاهن” مع سقوط الكنيسة، محكوم عليه بالاندثار، غير أن بعض التيارات في الحركة التنويرية تريثت خشية العواقب التي قد يؤدي إليها مجتمع بلا دين، فظهرت تيارات تنويرية ثلاث:
التيار المحافظ وأفضل من يمثله فولتير الربوبي، الذي أدرك نتائج الخطاب الإلحادي على مروجيه.
التيار الليبرالي ارتضى أي ديانة طالما تعترف بالدولة ولا ترتبط بالاقتصاد (مخصخصة).
تيار الدين – المدني، الذي نادى بالحاجة لدين مدني علماني، يؤدي وظيفة معيارية – اندماجية.
خصخصة الدين
يقصد بخصخصة الدين، إبقاء الدين مقيدًا بواسطة نزعات التمايز الحديثة، التي ترغمه على البقاء في نطاق ديني محدود وخاص، وأن أي مشاركة للدين في المجال العام ينبغي ألا تهدد بالضرورة التمايز الوظيفي الحديث أو أن تتعدى على مؤسسة “زمنية” قائمة (الدولة، الأسواق، العلم) وانحصار الدين في المجال الخاص للأفراد.
وتعد أعمال توماس لوكمان ونيكلاس لوهمان أعقد وأهم الصياغات العلمية حول خصخصة المقولة الدينية وحصر مجالاته.
عن الكاتب والكتاب
خوسيه كازانوفا: أستاذ مشارك في علم الاجتماع بالمعهد الجديد للبحوث الاجتماعية – جامعة شيكاغو.
صدر كتاب “الأديان العامة في العالم الحديث” لأول مرة سنة 1994م بالإنجليزية وتمت ترجمته إلى العربية لاحقًا من قبل “المنظمة العربية للترجمة” توزيع: “مركز دراسات الوحدة العربية”، الطبعة الأولى سنة 2005، بيروت.