الرئيس الأمريكي باراك أوباما يشاهدها، والمرشحة الرئاسية الأمريكية هيلاري كلينتون قالت عنها عام 2011: “مشاهدات الجزيرة في أمريكا بازدياد، لأنها أخبار حقيقية”.
بمنحة قدرها 150 مليون دولار، أسس أمير قطر السابق حمد بن خليفة آل ثاني، الجزيرة، لتنطلق القناة مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1996، وبميزانية مفتوحة ونخبة من المبدعين، استقطبت القناة ملايين المشاهدين، وانتشرت لتصبح شبكة من الخدمات الإعلامية المتنوعة.
يوافق اليوم مرور 20 عامًا على انطلاقتها، وتحتفل بهذه الذكرى بالإعلان عن أكبر عملية تطوير منذ التأسيس.
فماذا قدمت في عقدين؟ وماذا ينقصها؟ وما أبرز الانتقادات الموضوعية؟ وما طبيعة التطوير الذي أعلنت عنه؟ وهل هو كافٍ أم لا؟
ماذا قدمت الجزيرة في عقدين من الزمن؟
- أولاً: الانتشار النوعي
حرصت الشبكة على استقطاب أكبر قدر من المتابعين، بتغطية أكبر قدر من الاهتمامات، فوصلت للجمهور العربي المتعطش للتثقيف السياسي غير الخاضع للأنظمة الديكتاتورية بـ”الجزيرة العربية”، ولهواة التثقيف العام بـ “الجزيرة الوثائقية”، وللأطفال بفضائية “براعم”، وللأشبال بفضائية “جيم/ الجزيرة للأطفال”، ولعشاق الرياضة بباقة “بي إن سبورت/ الجزيرة الرياضية” التي تحولت مؤخرًا لباقة “بي إن” للترفيه المتنوع، وللنخب السياسية بـ “مركز الجزيرة للدراسات”، ولطلاب الإعلام بـ “مركز الجزيرة للتدريب والتطوير”.
خصصت نافذة للتغطيات المباشرة بـ “الجزيرة مباشر”، ولم تكتف باللسان العربي فأطلقت “الجزيرة الإنجليزية”، ونافست الإعلام المحلي بـ”الجزيرة التركية” و”الجزيرة البلقان” والنافذة الأهم “الجزيرة مباشر مصر” التي ارتبط ظهورها بثورة 25 يناير 2011 المصرية، وأغلقت عام 2014 بعد إخفاق الجولة الحالية من الثورة المصرية، أطلقت أيضًا قناة “الجزيرة أمريكا” لكنها كانت مشروعًا فاشلاً من البداية، فأغلقتها بعد 3 أعوام.
- ثانيًا: الانتشار الكمي
ظل منحنى مشاهدات القناة في صعود حاد منذ التأسيس وبلغ ذروته عام 2011، حيث الربيع العربي، وتلاه هبوط بطيء بسبب اتجاه الجماهير مرة أخرى للإعلام المحلي، وكذلك بسبب انقسامات ما بعد الثورات العربية، لكن بقيت القناة العربية على رأس القنوات الأكثر مشاهدة حتى نهاية 2013.
في مارس/ آذار 2013 أعلنت شركتا إبسوس وسيغما أن عدد مشاهدي الجزيرة وحدها أكبر من مجموع مشاهدي القنوات الإخبارية العربية كلها، ثم بدأ هبوط حاد إلى اليوم.
- ثالثًا: الجودة
اعتمدت الشبكة على التطوير الدائم من قدرات العاملين فيها وتوفير بيئة العمل المحفزة على الإبداع، وحرصت على فرز واستقطاب الإعلاميين الأكفاء والفنيين أيضًا، للحفاظ على تصاعد منحنى الجودة على كافة الأصعدة.
إعلاميوها على قدر من الكفاءة التي أهّلت المستقيلين منها للريادة في مشاريعهم الخاصة، مثل غسان بن جدو الذي أسس “الميادين” اللبنانية، ويسري فودة الذي كان عماد قناة “أون تي في” المصرية حتى وقت قريب، وكذلك حافظ الميرازي في قناة “دريم” المصرية، وغيرهم.
وعلى المستوى الفني، مثلاً، حصل استوديو القناة على جائزة PromaxBDA كأفضل استوديو إخباري في العالم عام 2014.
- ثالثُا: المحتوى
تفوقت الجزيرة بتقديم أنماط جديدة على الشاشة لم يعهدها المشاهد العربي، فتحت شعار “الرأي والرأي الآخر” دأبت على تقسيم شاشتها إلى نصفين، نصف يعرض الرأي، والثاني يعرض الآخر، حتى لو كان تنظيم القاعدة مقابل الإدارة الأمريكية، والمقاومين في فلسطين مقابل ممثلي سلطات الاحتلال، وممثلي السلطة ومعارضيها، دون سقف – في المعظم – لانتقاد الأنظمة العربية، فأجبرت المؤيد والمعارض والمحتل والمقاوم والحاكم والمحكومة على متابعتها.
تبنت معظم القضايا الإقليمية والعالمية العادلة، ففضحت ممارسات الأمريكيين في العراق، وكانت النافذة التي بثت أقسى صور ضحايا الانتفاضات الفلسطينية، والعدوان الإسرائيلي في لبنان عام 2006 وغزة أعوام 2008 و2012 و 2014، وقدمت الدعم الإعلامي الحصري للمقاومة.
أما في الربيع العربي فكانت جزءًا من الفعل وعاملاً حاسمًا في إسقاط بعض الأنظمة الديكتاتورية، بتقديم الدعم الإعلامي للثوار في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، والإبقاء على بث صور الميادين ومقاومة الحظر والتشويش وحجب الأنظمة لنبض الشوارع.
ضرائب النجاح
الوصول لهذه الريادة كان باهظ الثمن، أُغلقت مقرات القناة في عدة دول أو فُرضت على عملها قيود بأيادٍ عربية، وقُصفت مكاتبها بطائرت غربية.
قصف الأمريكيون مكتبها في كابول عام 2001، ثم بغداد عام 2003، وناقش الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش مع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير في 2004 مذكرة سرية نشرتها “ديلي ميرور“، تقترح قصف مقر القناة الأم في الدوحة، واستهدف الإسرائيليون مكتبها في غزة عام 2014 برصاص تحذيري، واستهدف الروس مقارها وطواقمها في سوريا عدة مرات.
قدمت الشبكة عددًا كبيرًا من شهداء الصورة، من بينهم طارق أيوب عام 2003، وعلي حسن الجابر رئيس قسم التصوير في ليبيا عام 2011، وقائمة لم تنته من الشهداء في سوريا منذ 2011.
أما قوائم المعتقلين فهي طويلة وتتمدد بمرور السنوات وتوسع نطاق التغطية، ابتداءً بسامي الحاج في جوانتانامو، وتيسير علوني في سجون إسبانيا، وصولًا إلى عبد الله الشامي وباهر محمد وبيتر غريستي ومحمد فهمي في السجون المصرية بعد الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو/ تموز 2013.
كل هذه الضربات ثبتت قواعد الجزيرة وقوت ظهرها، أما ضربة الجارين السعودي والإماراتي بعد الانقلاب العسكري المصري فقصمته، حين سحبت الدولتان دبلوماسييهما من قطر في مارس/ آذار 2014 وتبعا ذلك بسلسلة من الإجراءات التصعيدية على المستوي السياسي والاقتصادي والإعلامي، وصولاً لتهديد الإدارة السعودية السابقة بإغلاق الحدود مع قطر، جراء موقفها من الانقلاب العسكري في مصر والسياسة التحريرية للجزيرة في تغطية الفعاليات المناهضة له.
تحديات التطوير
- أولاً: الانتقادات الموضوعية
الاستجابة للضغوط الخليجية، بالتعتيم على الحراك المعارض في البحرين، لم يكن قرارًا صائبًا، حتى لو افترضنا صحة التبريرات التي تقول إنه كان حراكًا طائفيا يزعزع أمن الخليج ويهدد وحدته لصالح إيران، لكن الحاصل أن الجمهور الشيعي – معتدلين ومتطرفين – وضعوا الجزيرة في خانة العداء بعد محبّة، وحق المشاهد ألا تُحجب عنه المعلومة ولو نُقلت بحياد سلبي.
بلغ الردع الخليجي للجزيرة (وقطر) ذروته في الأشهر الأخيرة من حياة الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز، واضطرت الإدارة لتقليص مساحة الملف المصري على القناة وتخفيف حدة اللهجة ضد النظام المصري الحالي، بإيقاف بعض البرامج الهامة مثل “المشهد المصري” ثم إغلاق “الجزيرة مباشر مصر”، هذا التغيير كان وقعه بالغ السوء في قلوب جمهور الجزيرة المصري.
بوفاة الملك عبد الله، طويت صفحة قمع الجزيرة وقطر بالترهيب، وبدأت حقبة التنسيق والتفاهمات بالترغيب، أعيد فتح مكتب الجزيرة في الرياض وتفعيله على نحو غير مسبوق، وتُرك للإدارة حرية نسبية في تناول الملف المصري وباقي الملفات الإقليمية، لكن تحت السقف السعودي.
هذا السقف اصطدم برأس المصريين مرة أخرى في أثناء حراك الشارع الأضخم منذ الانقلاب العسكري بعد قرار السلطات المصرية نقل تبعية جزيرتي تيران وصنافير من مصر إلى السعودية، حيث عتمت الجزيرة على حراك الشارع، وقد تناولنا تفاصيل تغطية الجزيرة للحدث مرفقًا بالشواهد في تقرير سابق.
يتكرر الأمر مرارًا بصور أخرى في اليمن، حيث تستمر الجزيرة في دعم الثورة ضد المنقلبين عليها أو تحالف الرئيس المخلوع صالح والحوثيين، لكن السقف الخليجي اضطر إدارة القناة مثلاً، لتناول حادث قصف التحالف العربي لبيت عزاء في صنعاء، بتغطية خجولة مقتضبة.
رغم أن تسلسل المواقف يثبت أن الجزيرة تستثمر أي انفراجة في الضغوط الخليجية لضبط سياستها التحريرية لتوافق رسالتها الأصلية المعلنة، إلا أن المشاهد لن يتفهم هذه التعقيدات، وليس مطالبًا بذلك، وليس أشد على المشاهد العربي من الخذلان في منتصف الطريق.
- ثانيًا: ثبات خريطة البرامج
خسرت الجزيرة عدة برامج متميزة على مدار العقدين، لكنها لم تسد فراغها ببرامج بنفس تميزها، مثل “سري للغاية” الذي كان يقدمه يسري فودة، و”مع هيكل” الذي كان يقدمه الراحل محمد حسنين هيكل، و”الشريعة والحياة” الذي كان ضيفه شبه الدائم الشيخ يوسف القرضاوي.
تعاملت القناة أيضًا مع البرامج المتميزة الأخرى بثبات، كالمطرب الذي ظل يقدم للناس أغنيتهم المفضلة ويكررها عليهم مرارًا حتى كرهوها وكرهوا الغناء.
تجارب التطوير الناجحة:
ثلاث تجارب للتطوير الناجح، عوضت جزءًا من الخلل الذي أصاب الجزيرة، والاستمرار في الاستثمار فيها سيعيد الجزيرة للصدارة من جديد.
كان خطأً كبيرًا استثمار 500 مليون دولار لافتتاح “الجزيرة أمريكا” التي لم تحقق أكثر من 18.000 مشاهدة يوميًا، لكن إطلاق خدمة AJ+ لمقاطع الفيديو الإخبارية القصيرة، هو أهم تطوير أنجزته الشبكة في تاريخها.
الخدمة الإنجليزية وحدها حققت في أقل من عامين ونصف: 7.2 مليار مشاهدة لـ 6.789 مقطعًا، وبميزانية ضئيلة جدًا ومجهود واحتياجات أقل بكثير من تعقيدات البث الفضائي، في وقت يتجه فيه الجمهور لإعلام شبكات التواصل الاجتماعي.
مصدر الصورة: tubularlabs.com
التجربة الثانية كانت “مدونات الجزيرة”، المشروع الذي انطلق قبل نحو 3 أشهر، ونجح في أن يكون وعاءً لصناعة رموز شبكات التواصل الشبابية من كتاب الرأي.
الثالثة هي موقع “الميدان” المخصص للشباب أيضًا، لكن للمتميزين في كتابة التقارير والتحليلات، والذين لا يُشترط عليهم في الغالب مؤهلات أكاديمية أو شهادات عليا في الإعلام، لم ينطلق الموقع بعد، ومن المتوقع أن تكون الانطلاقة – وفق بعض المصادر – في نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، ويتوقع له أن يمثل إضافة نوعية للإعلام الشبابي، وفق ما رشح من معلومات أولية عن طبيعة عمل الموقع.
هل التطوير الذي بدأت القناة في تطبيقه اليوم كافٍ؟
أعلنت القناة عن خريطة برامجية جديدة، أضافت فيها ثمانية برامج هي: المقابلة – للقصة بقية – سباق الأخبار – خارج النص – رواد الأعمال – مغتربون – المسافر – ساعة تحقيقية.
تفاصيل هذه البرامج هنا.
تبدو أفكار هذه الحزمة من البرامج واعدة، والقالب الفني مشوق، وتنوعها بين السياسي والترفيهي والتثقيفي العام نقطة قوة، واختيار معظم مقدميها يبدو موفقًا، لكن لا تزال القناة بحاجة لبعض الإصلاحات الجوهرية، لم تعلن عنها القناة بعد، ولا يُعرف بالتحديد هل ستطبق تدريجيًا على المستوى القريب أم لا.
أولاً: على المستوى الفني والتقني: تحتاج النشرات الإخبارية لتعديلات مهمة في المساحات المخصصة للأخبار، وترتيب أولوياتها في النشرات الكاملة، وبالأخص نشرتي منتصف اليوم وحصاد اليوم، كما تحتاج القناة لتفعيل خدمة “دليل البرامج الإلكتروني – EPG” في القمر الاصطناعي، ليتمكن المشاهد من الاطلاع على جدول برامج اليوم وتوقيتاتها بسهولة أي وقت في أثناء المشاهدة.
ثانيًا: على مستوى السياسة التحريرية: تحتاج القناة لاستعادة ثقة المشاهد العربي بالتحلل قدر المستطاع من القيود الخليجية، بنفس مقدار حرصها على استعادة إبداعها وتميزها.