بالرغم من الصورة الذهنية الخاطئة عن القارة الإفريقية كونها موطئ الفقر والمرض والجهل، إلا أن لخبراء المال والأعمال رأيًا آخر، حيث تعد القارة السمراء من أكثر المناطق جذبًا للاستثمار في العالم، لذا باتت العديد من مناطق إفريقيا لا سيما الشمال والجنوب قبلة للقوى الدولية الباحثة عن الفرص الاستثمارية الواعدة خاصة في مجال الطاقة والبتروكيماويات والتعدين.
وانطلاقا من إيمان منظومة الأعمال في تركيا بأهمية القارة وما تحمله في باطنها من خيرات هائلة، كان التوجه نحو إفريقيا هدفًا هامًا لرجال الأعمال الأتراك، وهو ما تجسد في غزو بعض البقع الإفريقية بمئات المشاريع في شتى المجالات.
وبالتزامن مع هذا التوجه الجديد حيال القارة السمراء، سعت تركيا إلى تفعيل تواجدها الإفريقي بشكل منهجي أكاديمي عملي، ما دفعها إلى تنظيم أول منتدى أعمال تركي إفريقي يجمع بين رجال الأعمال من مختلف أنحاء القارة ونظرائهم الأتراك، يومي الأربعاء والخميس، الثاني والثالث من نوفمبر، في خطوة اعتبرها البعض نافذة محورية نحو تفعيل الحضور التركي داخل إفريقيا.
علاقات واعدة
العلاقات الاقتصادية بين تركيا وإفريقيا أقل ما يقال عنها إنها علاقات واعدة، تبعث على الأمل والتفاؤل حيال مستقبل من التعاون المثمر بين الجانبين، ومن ثم كان الحرص المتبادل من كلا الطرفين على توثيق هذه العلاقات أمرًا منطقيًا ومتوقعًا، لا سيمًا في ظل الثقة والاحترام المتبادل.
تكرس الانفتاح التركي على إفريقيا منذ عام 2002 حين وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، لتدخل العلاقات التركية الإفريقية أقوى مراحلها في ظل عقد عديد من القمم بالعاصمة التركية حضرها وشارك فيها زعماء وقادة إفريقيا، وهو ما أدى بالتبعية إلى ارتفاع حجم التبادل التجاري بين الطرفين من 3 مليار عام 2005 إلى 25 مليار دولار العام الماضي.
وتضم الصادرات التركية لإفريقيا مواد منها الحديد والصلب والوقود المعدني ومواد التشحيم، والملابس الجاهزة، أما وارداتها من إفريقيا فقد انتقلت من 3.3 مليارات دولار عام 2003 إلى 9.6 مليارات دولار عام 2012، وشملت الواردات مواد كثيرة منها زيوت التشحيم واللؤلؤ والأحجار الكريمة والمواد الكيميائية غير العضوية والكاكاو.
حجم التبادل التجاري بين تركيا وإفريقيا ارتفع من 3 مليار عام 2005 إلى 25 مليار دولارعام 2015
ولأن الاقتصاد لا يمكن عزله عن السياسية، فقد زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خلال سنوات حكمه الأولى حين كان رئيسًا للحكومة، عددًا من الدول الإفريقية من بينها إثيوبيا وجنوب إفريقيا، بينما احتضنت إسطنبول في 2008 قمة تركيا – إفريقيا بمشاركة 49 دولة إفريقية وممثلي 11 منظمة إقليمية ودولية من ضمنها الاتحاد الإفريقي، وتعزز فيها التعاون بين الجانبين في شتى المجالات، ونجحت في تعزيز تلك العلاقات خاصة بعدما أصبحت تركيا “شريكًا استراتيجيًا” للاتحاد الإفريقي.
كما شهدت العلاقات الدبلوماسية بين تركيا والعديد من الدول الإفريقية تطورًا كبيرًا، تجسد في تضاعف عدد السفارات التركية في القارة من 12 سفارة سنة 2009، معظمها في شمال إفريقيا، إلى 47 سفارة في الوقت الراهن، فضلاً عن مساهمة أنقرة في مشاريع الإغاثة الرسمية لبعض الدول الإفريقية والتي تقدر سنويًا بنحو 781 مليون دولار.
ومن الدلائل التي تعكس حجم الاهتمام التركي بإفريقيا كقبلة اقتصادية واعدة، ما صرّح به أردوغان خلال زيارته للعاصمة الكينية نيروبي في يونيو 2011 حين أكد على أن “مسألة تنمية العلاقات التجارية مع كينيا من إحدى أولويات تركيا في السوق الإفريقية خاصة وأنها تعد من أهم الأسواق في شرق القارة”، ملفتًا أن حجم معاملات تركيا العام الماضي مع كينيا بلغت 144 مليون دولار، وهو يعتبر رقمًا ضئيلاً مقارنة بمكانة الاقتصاد الكيني في إفريقيا، حسبما أشار الرئيس الكيني، أوهورو كينياتا، حينها، مطالبًا بمضاعفة هذا العدد إلى مليار دولار، معبَرًا عن يقينه من إمكانية تحقيق هذا الهدف.
كما حققت المؤسسة التركية للتعاون والتنمية انطلاقة نوعية في الانفتاح على إفريقيا، إذ استطاعت من خلال مكاتبها في ثلاث دول إفريقية، هي: إثيوبيا والسودان والسنغال، أن تسهم إسهامًا مباشرًا في عديد من مشروعات التنمية داخل 37 دولة إفريقية، كما أنها قدَّمت مساعدات إنسانية عاجلة للعديد من الدول الإفريقية فضلًا عن برنامجها الخاص بالتنمية الزراعية في إفريقيا الذي بدأ في شهر أغسطس 2008 وصولًا إلى سنة 2010، وذلك بهدف تطوير الزراعة في 13 دولة إفريقية، هي: بوركينافاسو، وجيبوتي، وإثيوبيا، وغينيا بيساو، ومالي، والسنغال، وجزر القمر، ومدغشقر، وتنزانيا، وكينيا، ورواندا، وأوغندا، كما بذلت تركيا جهودًا وإسهامات مباشرة في الأزمات الإنسانية التي شهدها بعض دول القارة الإفريقية وذلك من خلال المؤسسات الدولية.
كما أن زيارة الرئيس التركي إلى بعض الدول الإفريقية بينها ساحل العاج وغانا في فبراير هذا العام تعد دليلاً واضحًا على أهمية القارة بالنسبة لأنقرة، حيث توجه أردوغان إلى كوت ديفوار برفقة وفد يضم وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، ووزيرة البيئة والتخطيط العمراني فاطمة غُلديميت صاري، ووزير الاقتصاد مصطفى إليطاش، ووزير الدفاع عصمت يلماز، و150 من رجال الأعمال الأتراك، لبحث الفرص الاستثمارية هناك.
قمة إفريقيا – تركيا الثانية، في غينيا الاستوائية نوفمبر 2014
الأول من نوعه
إن العمق الذي تحمله العلاقات التركية – الإفريقية وما أسفر عنه من تطورات ملحوظة خلال فترة قصيرة جدًّا، يعد دليلًا على نجاح الرؤية التركية.
ويعد منتدى الأعمال التركي الإفريقي المزمع عقده غدًا وبعد غد في مدينة إسطنبول، برعاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أكبر دليل على نجاح هذه الرؤية، فهو الأول من نوعه، حيث من المقرر أن يجتمع المستثمرون الأتراك المعنيون بالقارة الإفريقية، وزعماء القارة، لبحث الفرص الاستثمارية الممكنة، وتفعيل سبل التعاون المشترك بين الجانبين، وبناء تعاون طويل الأمد بين الأطراف التجارية في تركيا ودول إفريقيا.
وتنصب محاور المنتدى حول بحث الفرص المتاحة في مجال الطاقة والنفط والمعادن، لا سيما في ظل زيادة المنافسة العالمية ورفع شركات الطاقة الدولية من وتيرة سرعة بحثها عن أسواق جديدة.
كما تقع مسؤولية تنظيم المنتدى على كاهل وزارة الاقتصاد التركي بالتعاون مع مفوضية الاتحاد الإفريقي ومجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي ومجلس مصدري تركيا، حيث من المتوقع مشاركة عشرات الوزراء من الدول الإفريقية، إضافة إلى بعض المسؤولين في الاتحاد الإفريقي، وبنك التنمية الإفريقي، ومدراء في مؤسسات خاصة، وممثلون عن الشركات.
من جانبه أكد تامر طاشقن، منسق المجالس الإفريقية بمجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي، أن حجم الأعمال في القارة الإفريقية يبلغ 1 تريليون دولار، مضيفًا: “اكتسبنا خبرات واسعة في قطاع الطاقة بتركيا، واليوم تعاني العديد من الدول الإفريقية من مشكلة الكهرباء، هذه الدول تناشد المستثمرين الأجانب من أجل الاستثمار في قطاع الكهرباء”.
تنصب محاور المنتدى حول بحث الفرص المتاحة في مجال الطاقة والنفط والمعادن، ل اسيما في ظل زيادة المنافسة العالمية ورفع شركات الطاقة الدولية من وتيرة سرعة بحثها عن أسواق جديدة
طاشقن شدّد على أهمية هذا المنتدى كونه فرصة عظيمة نحو زيادة حجم الأعمال بين تركيا وإفريقيا من 25 مليار دولار إلى 50 مليار بحلول 2020، مضيفا: “ينبغي تطوير أهداف عالم الأعمال العالمي بشكل مستمر، وخلال التطوير يجب جذب الاستثمارات إلى البلاد وزيادة الإنتاج وحل مشكلة البطالة، ولتحقيق كل ذلك يجب التعريف والترويج للبلاد”.
ويسعى القائمون على المنتدى إلى تفعيل أواصر التعاون مع المشاركين الأفارقة من خلال عقد اللقاءات الثنائية والجانبية المشتركة، وهو ما دفع ضيوف المنتدى إلى الإقامة في إسطنبول لمدة أسبوع آخر بالرغم من أن مدة المنتدى المقررة رسميًا يومان فقط.
المحلل الاقتصادي، ريتشارد مارشال، قال إن “الشركات التركية معروفة بإصرارها على المجازفة بالدخول في الأسواق غير المستقرة التي تتفادى الشركات متعددة الجنسيات الأخرى التعامل معها، مثل السوق الليبية”، وأبرز مثال على هذه المخاطرة، التزمت تركيا باستثمار 100 مليون دولار في الصومال بحلول سنة 2017، رغم التهديدات الأمنية هناك جراء تواجد جماعات متشدد في البلاد مثل “حركة الشباب” التي تمثل خطرًا على العمال الأتراك هناك.
مارشال أشار إلى أن مجالات التعاون بين الجانبين لا تقتصر فقط على مصادر الطاقة والتعدين فحسب، فهناك مجال آخر لايقل أهمية وستُفرد له مساحات كبيرة من اللقاءات الثنائية بين الطرفين، ألا وهو مجال المقاولات والبناء، حيث سجلت الشركات المتخصصة في هذا المجال عائدات مالية هامة تقدر بـ28% من النشاطات الاقتصادية الدولية لتبلغ 30 مليار دولار بين سنة 2010 وسنة 2013، كما أدرجت المجلة الأمريكية “أنجينيرينغ نيوس” 42 شركة تركية ضمن قائمة أفضل 250 مشغل دولي لسنة 2015.
وأكد ريتشارد مارشال أن “هذا القدر من التسامح قد أتاح لتركيا مزيد من الفرص وفتح لها عديد من الأبواب في القارة الإفريقية، وتجدر الإشارة إلى أن الصومال على وجه الخصوص ستستفيد من الاستثمارات التركية الموجهة إلى البنية التحتية في السنوات القادمة، كما أن شركة “دي بي وارلد” تسعى للاستفادة من الوضع وعبرت عن رغبتها في تحديث بنية ميناء بربرة التحتية، كما تواصل السلطات الإثيوبية بحثها عن طرق لتعزيز تجارتها التصديرية”.
تنتج إفريقيا 12% من إجمالي احتياطي النفط العالمي
لماذا إفريقيا؟
الاختيار التركي للقارة الإفريقية كقبلة جديدة للاستثمار ليس اختيارًا عشوائيًا، فالقارة السوداء تمتلك عددًا من المقومات الاقتصادية والموارد الطبيعية غير مسبوقة، حيث تقع 40% من الاكتشافات النفطية والغاز الطبيعي العالمية خلال عام 2015 في قارة إفريقيا، كما تمتلك حوالي 129 مليار و100 مليون برميل (نحو 7.6%) من مجموع احتياطات البترول المؤكدة في العالم، والتي تبلغ نحو 1 تريليون و7 مليارات برميل.
كما تملك القارة حوالي 124 مليار برميل من احتياطي النفط، وهو ما يقدر بحوالي 12% من إجمالي احتياطي النفط العالمي، هذا بالإضافة إلى 100 مليار برميل على شواطئ القارة في انتظار أن يتم اكتشافها، وفي 2007م أنتجت إفريقيا ما يعادل 6.5% من إجمالي الغاز الطبيعي حول العالم، بينما ما تزال تملك حوالي 500 تريليون متر مكعب من احتياطي الغاز الطبيعي، تمثل 10% من إجمالي احتياطي الغاز العالمي.
أما من حيث الدول التي تعتمد على ثروات إفريقيا النفطية، فتصدر القارة ما نسبته 23% من إجمالي إنتاجها من البترول للولايات المتحدة الأمريكية، وحوالي 14% للصين، و8% لكل من إيطاليا والهند، بينما تحظى دول الاتحاد الأوروبي بأكثر من 25% من إجمالي الإنتاج.
كما تتميز القارة الإفريقية بكميات كبيرة من عنصر اليورانيوم الهام في الصناعات النووية، حيث تشارك بأكثر من 18% من إجمالي الإنتاج العالمي لليورانيوم، فضلاً عن إنتاج 25% من إجمالي إنتاج الذهب في العالم، إضافة إلى تصدرها سوق الألماس العالمي، حيث تقوم بإنتاج 40% من إجمالي الألماس عبر العالم، تنتج إفريقيا 80% من إجمالي البلاتين المنتج حول العالم، كما تنتج 27% من إجمالي كمية الكوبالت المنتجة حول العالم، وما نسبته 9% من إجمالي إنتاج الحديد حول العالم، ويتراوح احتياطي القارة من الحديد والمنجنيز والفوسفات واليورانيوم من 15 – 30% من إجمالي الاحتياطي العالمي لهذه المعادن.
تملك القارة حوالي 124 مليار برميل من احتياطي النفط، وهو ما يقدر بحوالي 12% من إجمالي احتياطي النفط العالمي، هذا بالإضافة إلى 100 مليار برميل على شواطئ القارة في انتظار أن يتم اكتشافها
كما تتميز بعض دول القارة بعديد من الفرص الهائلة، حيث تتصدر ليبيا الدول الإفريقية في احتياطات البترول، بحجم يبلغ 48 مليار و400 مليون برميل، تتبعها نيجريا بـ37 مليار و100 مليون برميل ثم أنجولا بـ12 مليارًا و700 مليون برميل، بينما تحتل الجزائر المركز الرابع باحتياط يبلغ 12 مليارًا و200 مليون برميل، ثم مصر بـ3 مليارات و500 مليون برميل، ويبلغ معدل إنتاج البترول في العالم يوميا 91 مليون برميل، وتساهم دول إفريقيا بـ8 مليون و375 ألف برميل منه.
مما سبق يتضح أن أنقره تراهن من خلال هذه الرؤية الاستراتيجية التوسعية إفريقيا على أن تكون طرفًا فاعلاً قادرًا على المناورة والاستفادة من الاقتصاديات الإفريقية التي تشير إلى قدرة القارة السمراء على أن تكون في صدارة الدول الأكثر امتلاكًا للموارد الاقتصادية الطبيعية في العالم.
كما أن الرهان على التقارب الثقافي والإيديولوجي والتاريخي من شأنه أن يدعم الدور التركي بشكل متعاظم من طرف الدول الإفريقية، لتصبح لاعبًا أساسيًا قادرًا على الإسهام في توطيد الشراكات الدولية وفق نظرية الدبلوماسية المتناغمة المغلفة بالعمق الاقتصادي القادرة على منافسة الوجود الدولي في القارة السمراء.