منذ اللحظات الأولى لاندلاع ثورات الربيع العربي في العام 2011، وبدأ اسم كركوك في الظهور من خلال قسم هام من سكانها، وهم الفئة الناطقة باللغة العربية، من يطلق عليهم “عرب كركوك”، وساهمت سياسة البعث سيئة الصيت في اجتثاث هؤلاء العرب من وظائفهم وبيوتهم، ثم تبرير طردهم منها بحجة أنهم يقطنون مناطق عائدة للأكراد الذين تم تهجيرهم.
تاريخ المدينة
كركوك تاريخيًا ومثل كل مناطق العراق كانت مقطونة بالعراقيين الأوائل “سومريين وآشوريين”، ثم مع انتشار المسيحية أصبحت آرامية “سريانية”، وبعد الفتح العربي الإسلامي، سكنها قسم من الجيوش العربية، وتشارك المسلمون مع سكانها الأصليين الآراميين المسيحيين، وفي زمن الدولة العباسية قطنها التركمان الذين مع الزمن تكاثرت أعدادهم، وأصبحوا الأغلبية في المدينة، وصارت التركمانية هي اللغة الغالبة في مركز المدينة، ويتقنها حتى الأكراد والسريان والعرب، أما بالنسبة للأكراد فإن تواجدهم التاريخي يعود إلى الدولة العثمانية حيث نزحوا كأفراد وعوائل متفرقة، وقطنوا المدينة، وأصبحوا جزءًا من أبنائها بل كانوا يتقنون التركمانية والعربية.
وعلى الرغم من عظم تلك الأزمة، تجاهلها الإعلام والمثقفون والباحثون والحزبيون على مر السنوات الخمس الماضية، دون أن يحاول أي منهم البحث عن حقيقة السكان العرب لكركوك من هم، ومن أين أتوا، ومتى، وما هي تكويناتهم، ومناطقهم؟
أزمة هوية
يرى بعض المحللين أن معضلة الدولة العراقية هي في استمرار الأكراد بإثارة موضوع كركوك، واعتبارها جزء من المنطقة الكردية، أو منطقة كردستان، خصوصًا وأن قانون إدارة الدولة العراقية، الذي أقره مجلس الحكم الانتقالي، قد أرجأ حل مشكلة كركوك باعتبارها حالة خاصة، إلى حين استكمال المصادقة على الدستور الدائم للدولة العراقية، مع بقاء حدود المحافظات العراقية الثماني عشرة من دون تغيير، وكذلك عدم إمكانية دمج محافظة كركوك مع أي محافظة أخرى أو إقليم فيدرالي، على الرغم من أن القيادة الكردية المتمثلة بمسعود البارزاني وجلال الطالباني، تؤكد دائمًا على أن كركوك هي جزء من المنطقة الكردية.
تهجير العرب
مؤخرًا اتهمت كتلة العربية البرلمانية – التي يرأسها صالح المطلك نائب رئيس الوزراء العراقي السابق – القوات الكردية بتهجير العرب من منازلهم في كركوك، بتهمة التورط في هجوم تنظيم داعش على المدينة.
وقالت الكتلة في بيان إن القوات الكردية من البشمركة والأمن الداخلي (الأسايش)، ترغم سكان عدد من الأحياء العربية والمختلطة جنوبي كركوك على مغادرة منازلهم بتهمة مساعدة التنظيم الذي شن هجومًا كاسحًا يوم الجمعة الماضي على المدينة.
نفي كردي
“نون بوست” وضع هذه الاتهامات على طاولة الصحفي الكردي أحمد شويش، الذي نفاها تمامُا، لافتًا إلى أن تصريحات مدير المرصد العراقي لحقوق الإنسان مصطفى سعدون بخصوص اتهام القوات الكردية بتنفيذ عمليات ترمي لترحيل السكان العرب من محافظة كركوك عارٍ من الصحة، ولو حصل ذلك لما سكتت الحكومة العراقية عن ذلك وهي بالفعل لم تعلق على الأمر حتى الآن.
وأضاف شويش، أن كركوك من أكثر القضايا العراقية الشائكة دون شك، عدا عن كونها نفطية فهي منطقة تشابكية بين الكرد والشيعة والسنة، بالإضافة للمكون المسيحي بطوائفه المتعددة، الأمر الذي يعني بشكل أو بآخر أنها منطقة صراع سياسي، يهم كل طرف مكون أن يكون له يد طولى فيه، من هنا فإنها تجسد تضارب المصالح في ظل حالة اللاوفاق العراقية الوطنية، وتمترس الدولة خلف أجندات إقليمية.
أجندات طائفية
رفض شويش لهذه المعلومات لم يمنعه من التأكيد لـ “نون بوست” أن هناك بعض الأصوات – لم يسمها – طالبت إثر حادثة الهجوم على كركوك، بوضع قوانين أشد دقة أو صرامة مع النازحين القادمين من مناطق سيطرة تنظيم داعش، في حين ذهب البعض إلى المطالبة بطرد بعضهم، وكما أثبتت التحقيقات التي نشرت مؤخرًا، فإن بعض المنتمين إلى تنظيم داعش من المكون السني من أبناء مناطق الحويجة، متهمين بمساعدة خلايا نائمة للتنظيم ضمن المدينة، فربما يكون من حق القوى الأمنية هناك – حسب قوله – التصرف تجاه المتورطين والمساندين والداعمين لهم، دون المساس ببقية النازحين.
وأضاف أن هناك جهات مسؤولة عديدة في الإقليم نفت القيام بأي عمل انتقامي، كما لم يتم عرض حالات موثقة من جهة محايدة تثبت ما ذهبت إليه أنباء الترحيل، وهو ما يعني أنه محاولة لتوفير غطاء سياسي لبعض الخلايا النائمة، وحتى صرف النظر عن الخطر الذي أحدق بكركوك والأهالي هناك، فقط لكون “داعش” تدعي أنه تنظيم سني، أو يدافع عن أهل السنة، وهذا الفعل يشكل خطرًا على واقع ومستقبل الحياة في العراق بأكمله.
دعم داعش
وحول قراءته لتوقيت هذه التصريحات الآن، يرى الصحفي الكردي أنها تأتي في وقت متوقع في سياق الذود عن التنظيم كلما تعرض لهزائم وخسائر كبيرة، من بعض الجهات الداعمة إقليميًا ودوليًا، لتضفي طابع الطائفية على الأمر برمته، وتحويل الصراع بالمنطقة عمومًا، لصراع بين السنة والكرد أو أي عنصرين من العناصر الممثلة بالإقليم، لتوفير مزيد من الوقود للمعركة المشتعلة بالفعل.
أهداف خفية
في المقابل يرى المحلل السياسي أسامة الهتيمي أن مشاركة قوات البيشمركة الكردية في معركة الموصل، والتي وصل تعدادها لنحو 50 ألف جندي تقريبًا، تستهدف بالأساس تنظيم داعش، وهو ما تتفق فيه قوات البيشمركة مع المشاركين الآخرين، غير أن ثمة أهداف خفية وراء هذه المشاركة الكردية التي تعد الأكبر بين المكونات المشاركة في هذه المعركة – بحسب الهتيمي – عبرت عنها التصريحات الصحفية والإعلامية التي أدلى بها الكثير من الجنود الأكراد المشاركين في المعركة، والتي تركزت على الرغبة الكردية في تثبيت حدود إقليم كردستان، وفق تصور الأكراد، حتى ولو كان ذلك دون اتفاق مع الحكومة العراقية المركزية.
نقطة خلاف
الهتيمي يرى كذلك أن كركوك الغنية بالنفط ما زالت إحدى نقاط الخلاف بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان، الذي يتمتع بالحكم الذاتي منذ سنوات، ومن ثم فإن الأكراد يسعون بمختلف الطرق إلى إحداث تغيير ديمغرافي فيها، حتى تبقى أمام العراقيين والمجتمع الدولي خالصة للأكراد، وهو ما دفع قوات البيشمركة إلى أن تستغل الهجوم الذي قام به تنظيم داعش في كركوك، لإجبار الكثير من العوائل العربية والتي بحسب بيان الأمم المتحدة بلغت نحو 250 عائلة على النزوح من المدينة، حيث اعتبرت على لسان منسقة الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في العراق “ليز جراند” أن ذلك بمثابة عقاب جماعي.
أدلة قاطعة
وردًا على نفي شويش للأمر، أكد أنه من الطبيعي أن ينفي الأكراد صحة هذه الأخبار، متهمين المرصد العراقي الذي كشف عن هذه السياسية العرقية المقيتة – وفق قوله – بتزييفها وترويجها، على الرغم من أن المرصد أجرى عديد من اللقاءات الميدانية على أرض الواقع مع الكثير ممن تم إجبارهم على النزوح، كاشفًا أن هذا الإجبار لم يقتصر على الذين أتوا إلى المدينة في أعقاب اندلاع معركة الموصل، وإنما شمل أيضًا الكثير من سكان المدينة من العرب، ومن ثم فإن الأكراد مطالبون بأن يردوا على هذه الشهادات الواقعية، وأن يسمحوا لكل المراقبين والمؤسسات الحقوقية أن تجري تحقيقًا لتأكيد أو نفي صحة هذه الأنباء.
وزاد المحلل السياسي المصري أن الاتهامات الموجهة للأكراد وقوات البيشمركة، لم تنحصر في المرصد العراقي فقط، بل إنه وبشكل رسمي فقد اتهمت كتلة العربية البرلمانية – التي يرأسها صالح المطلك نائب رئيس الوزراء العراقي السابق – القوات الكردية بتهجير العرب من منازلهم في كركوك بتهمة التورط في هجوم تنظيم داعش على المدينة، وبالتالي فإن إثارة القضية لم تنحصر في المرصد العراقي، وأصبحت قضية سياسية يتناولها البرلمان العراقي الذي لم يكن ليثيرها لولا أن توافرت لديه أدلة قاطعة تؤكد حدوث عملية الإجبار على النزوح، وهو ما يدعم – بحسب الهتيمي – صحة وجهة النظر التركية في المطالبة بالمشاركة في معركة الموصل، رغم الرفض العراقي، إذ تذرعت أنقرة وقتها أن معركة الموصل يمكن أن تتحول إلى حرب طائفية وعرقية، وأنها حريصة على ألا تتطور الأمور إلى هذا، غير أن الواقع ربما يؤكد ما كانت تركيا قد حذرت منه.
تجاهل رسمي
على الرغم من نفي شويش وتأكيد الهتيمي، وتفاعل الأمم المتحدة والبرلمان العراقي، وتداعي الأزمة في وسائل الإعلام ومواقع التواصل، إلا أنه لم يصدر إلى الآن أي موقف رسمي من رئيسي الجمهورية والحكومة العراقيين بشأن توضيح الأمر أو نفيه، ما يعني أن هناك أمور تحاك في الظلام لإسباغ الأزمة الحالية بصبغة طائفية تضر بالجميع.