تعيش تونس هذه الأيام على وقع فعاليات الدورة الـ 26 لأيام قرطاج السينمائية و التي تتواصل حتى يوم 28 نوفمبر الجاري، حيث أصبحت هذه التظاهرة الفنية تمثل إحدى المناسبات الأكثر أهمية لعشاق السينما في تونس والعالم العربي وذلك بالنظر لقيمة الأفلام التي تعرض فيها إلى جانب شهرة الأسماء التي تصر على حضور هذه التظاهرة ومحاولة الفوز بإحدى جوائزها خصوصا بعد أن تحولت هذه الأيام إلى تظاهرة سنوية بعد أن كانت في الماضي تقام كل سنتين.
وبالإضافة إلى العدد الكبير من الأفلام الممثلة لعديد الدول العربية والعالمية التي تشارك في هذه الدورة فإن تونس أيضا تحاول أيضا عرض خيرة أفلامها الطويلة والقصيرة لعل احدها يفوز بجائزة التانيت الذهبي خصوصا أن هذه الدورة السادسة والعشرين تأتي بعد خمسين سنة من انطلاق هذه التظاهرة مما جعل إدارة المهرجان تقرر تكريم المتوجين بالتانيت الذهبي على مدار نصف قرن.
وسنقدم لكم في هذه التقرير الأفلام التونسية الأربع التي تشارك في هذه الدورة من أيام قرطاج السينمائية :
فيلم “شوف“
يرصد فيلم “شوف” أكثر المواضيع المفضلة لمخرجه كريم الدريدي، وهي الملاكمة والفوارق الاجتماعية والاختلافات الثقافية، ويصور الفيلم الذي عرض سابقا في مهرجان كان، عالم المخدرات والعنف والعصابات في ضواحي مدينة مرسيليا، ويستعين فيه المخرج بممثلين من ابناء هذه المناطق نفسها، ورغم أن عنوان الفيلم “شوف” يأتي من كلمة عربية عامية الا انها تستخدم اليوم في اوساط المهربين في مرسيليا كلقب لعضو العصابة الذي يراقب كل شيء في الحي ويعتبر عينها الساهرة لرؤية كل ما يجري.
ويروي الفيلم على مدى ساعة و48 دقيقة، قصة سفيان، وهو شاب في الرابعة والعشرين من العمر غادر الحي للدراسة، ثم تخلى عن دراسته وعاد اليه لينتقم لشقيقه الذي قتله منافسوه في تجارة المخدرات.
ومن خلال هذه القصة، يصور “شوف” الاحياء المهمشة والمتروكة لمصيرها، ليس في ضاحية مرسيليا وحدها وانما في ضواحي العديد من المدن الفرنسية المهددة بالانفجار والتي يخرج منها الكثير من المجرمين ورجال العصابات والاسلاميين المتشددين.
ويصور كريم الدريدي في هذا الفيلم الواقع كما هو،حيث بنى السيناريو بلمسات ذكية واقعية، تعكس قدرة كل شاب في المافيا الناشطة في المخدرات على التلاعب وعلى تزوير الحقائق او اختلاقها، لكنهم جميعا يسقطون الواحد تلو الآخر ضحية العنف الذي انتهوا اليه.
واستعان المخرج بممثلين مبتدئين لأداء معظم الادوار، وهم من ابناء هذه الاحياء نفسها، وقد اخضعهم المخرج لورشات عمل على مدى عامين لتحسين ادائهم الذي بدا مقنعا الى حد بعيد.
فيلم “غدوة حي”
يدوم هذا الفيلم للمخرج التونسي لطفي عاشور 83 دقيقة وقد تم إنتاجه سنة 2016 و تقع أحداثه في الحاضر ولكن تعود جذوره إلى ليلة هروب الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي في 14 جانفي 2011 و يعيد فيه رسم المصائر المتداخلة لثلاثة أشخاص يعيشون في تونس ما بعد الثورة، في وطن يراوح نفسه بين الأمل والإحباط والوهم.
وتدور قصة الفيل حول تحقيق صحفي تقوم به صحفية جمعتها الصدفة بفتاة تونسية ومراهق من أبناء الأحياء الشعبية في تونس العاصمة حيث يروي هذا الفيلم أبرز مراحل الثورة في تونس وخيباتها ويحاول فيه المخرج طرح السؤال حول آمال الشعب التونسي بعد كل الخيبات التي احاطت بالثورة في تونس، كما يحاول فيه لطفي عاشور عرض جانب من حياة الصحفيين عبر بطلة الفيلم الممثلة التونسية أنيسة داود التي تحاول نقل الأحداث برؤية جديدة تجمع فيها بين المهنية وملامسة واقع المواطن التونسي البسيط.
وللإشارة فإن مخرج هذا الفيلم لطفي عاشور يشارك في هذه الدورة من أيام قرطاج السينمائية بفيلم آخر قصير في مسابقة الأفلام القصيرة هو فيلم “علوش”، ويعتبر هذا المخرج من صنف المسرحيين الذين يمارسون فنّ السينما وهم قلّة في تونس، وفي العالم قلة هم من توفقوا في المجالين.
فيلم “تالة مون آمور”
وينقل هذا الفيلم الطويل للمخرج مهدي الهميلي عبر مجموعة من الشخصيات والأحداث بعض تفاصيل قصة يتداخل فيها الذاتي بالجماعي في سياق متغير بحثا عن معادلة صعبة لكن الامل بتحقيقها يبقى مشروعا طالما ثمة رغبة تحركها، ويدوم هذا الفيلم 87 دقيقة وتم إنتاجه عام 2016.
وتدور احداث الفيلم خلال ثورة الحرية والكرامة موفى سنة 2010 وبداية سنة 2011 في منطقة تالة من ولاية القصرين في الوسط الغربي التونسي ، ويعتبر الشاب “محمد” (جسد دوره الممثل التونسي غانم الزرلي) الشخصية المحورية في الفيلم وهو سجين سياسي سابق فر من سجنه اثناء هذه الاحداث مستغلا حالة الفوضى التي تمر بها الجهة والبلاد عموما وتسلل الى مدينه “تالة” بحثا عن خطيبته “حورية” (جسدت دورها الممثلة نجلاء بن عبد الله) العاملة بمصنع بالمدينة وكان قد تركها منذ نحو سنتين بعد إدانته في احداث الحوض المنجمي سنة 2008 .
وفي طريقه للبحث عن “حورية” متنكرا أحيانا وبوجه مكشوف احيانا اخرى وفى اوج احداث العنف والفوضى والملاحقات البوليسية وعمليات الكر والفر بين المتظاهرين وقوات الامن يكتشف “محمد” الكثير من الاشياء وخاصة ارتفاع منسوب الوعي بضرورة التغيير والإطاحة بنظام الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي لدى قطاعات واسعة من المجتمع ومنهم من كان بالأمس من ابناء النظام ، فضلا عن مشاركة المرأة في هذا الحراك الشعبي رغم معارضة بعض افراد العائلة، لكنه بعد معاناة السجون وحرقته على وفاة صديقه برصاص البوليس آنذاك فقد سئم حياة المواجهات مع البوليس وقابل دعوات مواصلة النضال ضد “الطاغية” بكثير من الرفض والبرود فهمه الوحيد هو ايجاد خطيبته “حورية”، ملخصا رغبته بالقول “انه يريد أن يعيش مثل خلق الله” كما ورد على لسانه في الفيلم.
وفي غمرة الاحداث الدامية ولقاءات الصدفة مع اصدقاء الامس وجيرانه يكتشف “محمد” الحقيقة المرة وهي زواج “حورية” من شخص لا تحبه، تخاف منه وتخشاه وهو من يقف امام طموحها في مشاركة شباب المدينة ونسائها نضالاتهم ضد نظام بن علي، وهذا المنعطف الدرامي كرس مرة اخرى سيطرة خط “انكسار الذات والانا ” (في السينما التونسية) في المجتمع التونسي بعد ثورة 14 جانفي 2014.
ورغم سيطرة مشاهد المواجهات والعنف والسنة النار والعبارات البذيئة للبوليس وعدد من الشخصيات على الفيلم فإن هذا العمل لا يبدو البتة مجرد فيلم عن الثورة التونسية بل هو فيلم عن الحب والقيم الجميلة التي يولدها في نفس العاشق وجدانه في ذات الوقت، وفيه اشتغل المخرج أكثر على معضلة الحب المستحيل التي طالما أرقت المخرجين.
فيلم “زينب تكره الثلج”
أما فيلم “زينب تكره الثلج” فهو من إخراج التونسية كوثر بن هنية وهو فيلم وثائقي طويل مدته 94 دقيقة وتم إنتاجه عام 2016, و تقدم فيه المخرجة تجربة سينمائية مغايرة حيث الذي لا يوحي عنوانه الخفيف بأي علاقة للأحداث قدر ما يحمله من رؤية عميقة للحياة والمجتمع التونسي.
و يطرح الفيلم أزمة طفلة في التاسعة تفقد اباها في حادث مرور، مما يعرضها لصدمة نفسية، لكن الأم التي تبدأ ترتيب حياتها من جديد وتقرر الارتباط برجل يقيم في كندا وتجد في السفر فرصة لكي تهدأ ابنتها وتتعايش في مجتمع جديد، ويقنع الجميع زينب بالسفر وانها سوف تشاهد الثلج هناك، تبدو الصغيرة التي تكره الثلوج غير متحمسة وحينما تسافر تجد صعوبة في التوائم مع الاجواء بكندا ومع المدرسة والحياة الجديدة التي فرضت عليها، لكن المخرجة لا تكتفي بهذه الحالة وانما تراقب مراحل نمو الصغيرة وتنتظرها بعد سنوات كبرت فيها وصارت فتاة علي اعتاب المراهقة لتكشف كثيرا من التغيرات التي طرأت عليها في المجتمع الجديد، وكيف تغيرت قناعاتها تجاه اشياء عديدة واهمها انها صارت تحب الثلوج وتمارس رياضاتها ببراعة.
وكشفت مخرجة الفيلم كوثر بن هنية في لقاء صحفي بأن الاسرة التي قدمتها في هذا الفيلم هي اسرة ابنة عمتها، وانها عملت علي تصوير الحياة الحقيقية لها ليكون فيلما حميميا، ولهذا قررت ان تكون طوال الوقت ملتصقة بالشخصيات ومراقبة لهم عن قرب، وقد بدأت معهم من تونس وانتقلت معهم أيضا الي كندا، وعايشت حياتهم والتغيرات التي تطرأ عليهم، ليست الابنة فقط بل الام كذلك.