الأمريكيون هم من أعاد بناء الجيش العراقي، بعد هزيمته المخزية أمام المئات من مقاتلي داعش في صيف 2014، وهم من قام بتسليح هذا الجيش وتدريبه وإعداده للمعركة. والأمريكيون هم من وضع خطة تحرير الموصل من تنظيم داعش؛ ويشرف الأمريكيون أنفسهم على تنفيذ الخطة، سواء عبر مركز قيادة العملية، أو عبر مئات العسكريين الأمريكيين الملحقين بقوات الجيش العراقي والقوات الكردية. والأمريكيون هم من يقدم الغطاء الجوي لكافة جبهات عملية الموصل، إضافة إلى توفير إسناد مدفعي أمريكي، كلما تطلب الأمر. وكما اتضح في اليوم الثاني عشر للعملية، الأمريكيون هم من يقرر استمرار الهجوم وتقدم القوات، ومن يقرر الوقفات التكتيكية، لهذا السبب أو ذاك. عملية الموصل، باختصار، هي عملية أمريكية، من ألفها إلى يائها. وليس فقط عملية الموصل. كذلك كان الأمر في محافظة الأنبار، سيما في الرمادي والفلوجة، وفي صلاح الدين قبل ذلك. الحرب ضد داعش في العراق هي حرب أمريكية في جوهرها، والعراقيون، جيشاً وميليشيات وكرداً، هم أدواتها.
من وجهة نظر الكثير من العراقيين، ليس ثمة بأس في ذلك. يعمل العراق على التخلص من سيطرة تنظيم إرهابي، مقاتل، شرس، ليس من السهل هزيمته، وقد تفضل الأمريكيون، لمصلحتهم المشتركة مع العراق، وقدموا العون والمساندة والعقل والقيادة، مهما كانت المساهمة الأمريكية كبيرة. ولكن المشكلة أن الأمريكيين يقودون هذه الحرب، في العراق، كما في سوريا، بقدر كبير من قصر النظر، بحسابات آنية، سريعة، تفتقد إلى الإطار الاستراتيجي بعيد المدى؛ والواضح أن حربهم ضد داعش تحث خطاها نحو توليد المزيد من الحروب.
لم يكن العراقيون فقط من اشتكى من جرائم الحشد الشعبي في الأنبار وديالى وصلاح الدين، بل أن تقارير المنظمات الحقوقية الدولية أجمعت على إن الميليشيات، التي تتمتع بغطاء الحكومة العراقية، لا تختلف في تصرفاتها عن داعش. تتقدم وحدات الحشد إلى أهدافها برايات طائفية، وتصريحات تهدد بالموت الطائفي؛ تمارس التعذيب والقتل بدون محاكمة؛ ولا تتورع عن نهب الممتلكات الخاصة وتدمير البيوت والمساجد. أغلب السكان السنة العرب من أنباء المناطق التي حررت من سيطرة داعش لا يمكنهم العودة إلى بلداتهم وقراهم ومدنهم حتى اليوم. كان الأمريكيون شهوداً على السجل المتراكم من جرائم الحشد، وكان عليهم أن يروا عواقب مشاركة هذا الوحش الطائفي في معركة الموصل. ولكن الواضح أنهم لم يفعلوا الكثير من أجل أخذ الحساسيات الطائفية في شمال العراق في الاعتبار. وكما حدث من قبل، بدأت قوات الحشد في الأسبوع الثاني من معركة نينوى التحرك نحو مدينة تلعفر، التي تقطنها أغلبية تركمانية من السنة والشيعة. وكما حدث من قبل، فالمتوقع، إن سمح لقوات الحشد باجتياح المدينة، مصحوبة بآلاف من الشيعة التركمان والوعود بالثأر الطائفي، أن تشهد تلعفر حملة جرائم ضد سكانها السنة.
حول مدينة الموصل ذاتها، جرى تقسيم مهمات القتال بين قوات الجيش والأمن، التابعة للحكومة العراقية في بغداد، وقوات البيشمركة، التابعة لحكومة إقليم كردستان في إربيل. ويبدو أن قوة المتطوعين السنة من أبناء محافظة نينوى، التي تلقت تدريبها على أيدي القوات التركية في بعشيقة، بخلاف قوات الحشد الشعبي، الطائفية والغريبة عن المنطقة، لم يسمح لها سوى بدور رمزي. والمؤكد، أن الإشكال السياسي المتعلق بحدود إقليم كردستان، وما بات يعرف بالمناطق المتنازع عليها بين إربيل وبغداد، لم يتم بحثه، ناهيك أن يكون قد حل. ولذا، وبالرغم من تصريحات التنسيق الودودة بين قوات بغداد وقوات إربيل، تحولت جبهات القتال حول الموصل إلى خارطة من السواتر الترابية، التي تحدد مدى تقدم القوات الكردية، وما يراه الأكراد حدود الإقليم التي لن يتم التراجع عنها مطلقاً بعد اليوم، إلا بالقوة المسلحة.
وليس بعيداً عن تلعفر، تبرز مشكلة قضاء سنجار، الذي تشتبك فيه هويات الجماعات العراقية كما لا تشتبك في أي مكان آخر. حررت سنجار من داعش في تشرين الثاني/نوفمبر 2015، بدعم كبير، أيضاً، من الطيران الأمريكي؛ ولم تزل على خرابها. وبالرغم من أن السيد البارزاني، رئيس الإقليم الكردي، ظهر في مؤتمر صحفاي محتفلاً بتحرير المدينة، فإن القوة الكردية المسيطرة في سنجار تنتمي إلى حزب العمال الكردستاني، بفروعه المختلفة. لا تقع سنجار في الطريق الواصل بين شمالي سوريا والعراق، وحسب، ولكنها تمثل، أيضاً، موقعاً تتقاطع عنده سياسات الحرب الأمريكية ضد داعش في سوريا والعراق. الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي يتواجد بثقل كبير في سنجار، ليس أكثر من فرع لحزب العمال الكردستاني، الذي تخوض ضده تركيا حرباً طويلة منذ منتصف الثمانينيات. يفرض الديمقراطي الكردستاني سيطرته على مناطق الأغلبية الكردية في شمال شرقي سورية، بتأييد شعبي وقاعدة تنظيمية ملموسة، أحياناً، وبالقوة القمعية، في أحيان أخرى. ويتمتع الحزب، بمسميات قواته المختلفة، بدعم أمريكي كبير، سواء على صعيد التسليح والتدريب، أو المساندة العسكرية التكتيكية.
وكما يدعي الأمريكيون أن نفوذهم محدود في العراق، وليس باستطاعتهم إجبار حكومة بغداد على منع مشاركة الحشد الشعبي في الحرب ضد داعش، يدعون أن ليس أمامهم سوى اعتماد الديمقراطي الكردستاني حليفاً في الحرب ضد مناطق سيطرة داعش في سوريا. وكما يغض الأمريكيون النظر عن جرائم الحشد في العراق، يتجاهلون كلية أجندة الديمقراطي الكردستاني الخاصة، وسعيه المحموم لإنشاء كيان مستقل على طول الشمال السوري، يفصل تركيا كلية عن جوارها السوري. وعود الأمريكيين لأنقرة بانسحاب قوات الديمقراطي الكردستاني من منبج، التي وافقت تركيا على أساسها على عبور وحدات الحزب من شرق الفرات إلى غربه، لم تتحقق. خلال الأيام القليلة الماضية، وبسلاح وإمدادات أمريكية، تحاول قوات الديمقراطي الكردستاني التقدم من عفرين، التي كانت أستولت عليها، تحت سمع الأمريكيين وبصرهم، من الجيش السوري الحر، نحو مدينة الباب، في سباق مع قوات الجيش السوري الحر المدعومة من تركيا. وبالرغم من أن تركيا أبدت استعداداً للمشاركة في اقتلاع داعش من الرقة، مشترطة عدم مشاركة قوات الديمقراطي الكردستاني في العملية، لم يبد الأمريكيون الموافقة حتى الآن. على العكس، في 27 تشرين الأول/اكتوبر، أكد الجنرال ستيفن تاونسند، القائد العسكري للقوات الأمريكية في شمال العراق وسوريا، مشاركة الديمقراطي الكردستاني في العملية المرتقبة.
خلف ذلك كله، يدرك الأمريكيون أن هذه ليست معركة ضد داعش وحسب، بل معركة إيران من أجل فتح طريق آمن من طهران إلى دمشق، حتى لو كان الثمن إطاحة البارزاني في إربيل وتهجير العرب السنة من مدنهم وبلداتهم وقراهم.
لا يوحي هذا المشهد باستقرار طويل المدى في المناطق المحررة من داعش، ليس فقط لأن هذه الحرب لن تقضي على التنظيم. حرب إدارة أوباما على داعش لن تكون سوى فاتحة نحو حرب كردية مع بغداد، حرب بين قوات الحشد وجماعات لا حصر لها، لن تقبل بسيطرة طائفية مسلحة في شمالي العراق وغربه، وحرب تركية، مباشرة أو غير مباشرة، ضد تجليات حزب العمال الكردستاني المختلفة في العراق وسورية. في حديثه الطويل مع جيفري غولدبرغ (ذي أتلانتيك، نيسان/ابريل 2016)، استدعى أوباما فيلم كرستوفر نولان «الفارس المظلم، 2008»، ليصف تصوره لبروز داعش في الشرق الأوسط. في «الفارس المظلم»، يقوم استقرار المدينة على تقاسم للنفوذ بين زعماء العصابات؛ ولكن قدوم «الجوكر» سرعان ما يطيح بهذا الاستقرار رأساً على عقب. داعش، من وجهة نظر أوباما، هي «جوكر» الشرق الأوسط، الذي تعمل إدارته على عودته إلى التفاهم التقليدي بين أوغاد العصابات المحلية، والاستقرار القديم. المشكلة، هذه المرة، أن عدد اللاعبين أصبح كبيراً، والأرجح أن زعماء العصابات من أصدقاء الولايات المتحدة لن يستطيعوا إعادة تأسيس الاستقرار من جديد.