بعد طول صمت تحدث البرادعي عن بعض ما حدث وأصدر بيان في أول نوفمبر الجاري فرمى بحجر في الماء المغلي، وقد لا يحمل البيان الصادر عنه كثير من المفاجآت ولكنه يحمل اعترافات ذات قيمة كبيرة لصدورها من شريك في مؤامرة انقلاب العسكر على الديمقراطية الوليدة في مصر.
وقبل التطرق لهذا البيان الهام، نذكر ببعض الأحداث ربما كانت مفيدة قبل قراءة البيان:
تمسك الغرب بتعيين محمد البرادعي رئيسًا للوزراء بصلاحيات كبيرة في عهد الدكتور محمد مرسي، بل ومطالبة الرئيس صراحة بذلك، كما أن مصر رفضت ترشيحه للتعيين في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأن الذي رشحه ودعمه هم الأمريكان والأوروبيون، وهذا ليس عيبًا في الرجل فربما يعرفون من إمكانياته ما لم يعرفه مواطنوه.
وعليك أن ترجع قليلًا بالذاكرة، وتحديدًا في يونيو 2012، ووفقًا لتصريحات البرادعي نفسه في لقاء له بقناة النهار، ونشرته جريدة الوطن المصرية في 29 نوفمبر 2012، حيث قال إنه جلس مع المشير حسين طنطاوي والفريق سامي عنان، قبل إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية، والتي فاز فيها مرسي، وذكروا له أنهم تعرّضوا للخداع من المستشارين، بمن فيهم مستشارو “الإخوان المسلمين”، وكانوا في حالة من البؤس، هل تدرون لماذا جلسوا ولماذا شعروا بالخيانة والبؤس؟ ولماذا شاطرهم البرادعي هذا الشعور؟ بل قال لهم أنتم من وضعتمونا في هذه الورطة، نعم إنها ورطة كبيرة أن تكون إرادة الشعب على غير إرادة العسكر وحلفائهم، فقد جاءت على غير ما كانوا يتوقعون ويرسمون.
لم يبرّر البرادعي سبب الجلوس مع العسكر، غداة إعلان النتيجة، وكيف تتسرب لهم نتيجة الانتخابات قبل إعلانها، ولماذا لم يذكّرهم البرادعي بالديمقراطية واحترامها وقواعدها؟ بل عنّفهم بأنهم السبب فيما وقعوا فيه، وهو للأسف اللجوء للصناديق التي يشارك فيها السوقة والدهماء وعامة الشعب الذي لم يحصل على القدر الكافي من وعي عتاة الليبرالية الحديثة.
وعلاقة العسكر بالبرادعي هي علاقة ممتدة وليست وليدة لحظة الانقلاب على مرسي، فها هو يجتمع منفردًا في نوفمبر 2011 مع رئيس المجلس العسكري الحاكم المشير حسين طنطاوي، غداة قرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة تعيين كمال الجنزوري رئيسًا للوزراء، فهو يشارك العسكر في كل القرارات المصيرية من بداية الثورة وحتى الانقلاب.
وقد تكون حالات الاختفاء والظهور وتوقيتاتها المميزة للدكتور البرادعي ذات دلالة كبيرة، فها هو يخرج في نوفمبر 2015 وبعد أكثر من عامين على انقلاب خلّف معتقلين تجاوز عددهم ستين ألفًا، وصنع شرخًا كبيرًا في بنية المجتمع المصري، ليس أقلها حالات الشماتة في القتل، بدعوى إحنا شعب وأنتوا شعب، وضياع كل قيم الديمقراطية والليبرالية التي ينادي بها البرادعي.
وبعد كل ما سبق، خرج علينا، في نوفمبر العام الماضي، ليذكرنا أن الرئيس مرسي “مزّق البلاد إربًا”، وكأنه يبحث عن تبرير لركوب الدبابة، وهي تمر فوق جسد الديمقراطية المقتولة برصاص الليبراليين الجدد، واعترافه بأنه وقّع خطة مع المبعوث الأوروبي برناردينو ليون، حول عزل الرئيس محمد مرسي الذي اختاره الشعب، وأشعرتهم بحالة من البؤس وخيبة الأمل، فكان لا بد من الانقلاب على كل ما اختاره الشعب، بعد رفضه الحوار مع الرئيس الشرعي للبلاد.
ثم يعاود الظهور بعد عام وقبل ما سمي بثورة الجياع ببيان نوفمبر 2016 ليقرر أنه كان ضحية للعسكر حيث قال في بيانه “عندما فوجئت في بداية الاجتماع أن رئيس الجمهورية كان قد تم احتجازه بالفعل صباح ذلك اليوم من قبل القوات المسلحة – دون أي علم مسبق للقوى الوطنية -… أصبحت الخيارات المتاحة محدودة تمامًا وبالطبع لم يعد من بينها إمكانية إجراء استفتاء على انتخابات مبكرة”، لم يكن من بين تلك الخيارات رفض بيان العسكر والانسحاب من الاجتماع، أو مطالبة العسكر بالإفراج الفوري عن الرئيس، أو على أقل تقدير تدوينة في تويتر تبرئ ساحة القوى التي أسماها بالوطنية.
وللتذكرة لم يكن خروج البرادعي من مصر حزنًا على الدماء التي سالت في مذبحة ميدان رابعة العدوية، كما يحاول أن يروج بعضهم، والدليل أن مذابح تمت قبل “رابعة” سواء للساجدين أمام الحرس الجمهوري، أو مذبحة المنصة، وكان رد فعله، وهو نائب رئيس في ذلك الوقت، المطالبة بالتحقيق، ثم الصمت على عدم فعل ذلك، كما أنه رفض أن يدلي بشهادته حول تلك المذابح، وكان السبب الحقيقي للخروج اكتشافه نكوص العسكر عن العهد الذي قطعوه مجتمعين بقتل الديمقراطية وخيانة الشرعية، فقد فوجئ بأن الخيانة مركّبة، وأن آماله قد تبددت.
فماذا تعني هذه الإطلالة الجديدة؟ من وجهة نظر الكاتب أن شخصية بوزن البرادعي ذو العلاقات الدولية المتميزة لا يخرج عن صمته دون نصح المقربين، ودون موافقة من يحمل الريموت في البيت الأبيض، إلا أن البيان يعني اعترافًا صريحًا بأن ما حدث هو انقلاب وليست ثورة كما يحلو للبعض وصفها، ويجعل المطالبة بعودة الرئيس المختطف نقطة البداية لأي حل، وحتى يخرج البرادعي من هذا المأزق وقع في مغالطة، حيث ادعى أن الجموع الغفيرة المحتشدة في كل أنحاء مصر منذ 30 يونيو بقيت حتى الاجتماع الشهير بين العسكر والقوى المشاركة في الانقلاب، ونسي أن الجموع الغفيرة قد انصرفت بعد حفل ساهر في ميدان التحرير ولم يبق في الميادين سوى مؤيدي الشرعية.
إن خروج هذا البيان في هذا الوقت الذي تعاني فيه مصر من مشكلات لم تشهدها من قبل ومن حالة غليان نتيجة الفشل المتتالي في منظومة الحكم العسكري الفاقد للرؤية والشرعية معًا ليؤكد أن هناك فصل جديد في مسار الثورة المصرية يوشك أن يبدأ.
على صانعي القرار الباحثين عن بدائل للعسكر، والرامين بطوق النجاة لنظامٍ مات إكلينيكيًا، بعد أن قضى ستين عامًا في قتل الحرية والنهضة في مصر، أن يبحثوا عن وجوه وأوراق جديدة، لعلها تجدي معهم نفعًا، وما أظنها تفعل.