ترجمة وتحرير نون بوست
لم يشهد الشرق الأوسط أية انتخابات رئاسية يتنافس فيها المرشحون في جو ديمقراطي منذ سنة 1976، حتى أن آلية الاقتراع العام لم تكن موجودة في ظل “الديمقراطية التوافقية” التي تم تبنيها في معظم البلدان. ويمكن القول، في هذا السياق، أن ميشال عون؛ هو الرئيس العسكري الثالث الذي يتم تعيينه دون انتخابات ديمقراطية.
بعث انتخاب رئيس جديد للدولة في لبنان، بعد ثلاثين شهرا من الفراغ الرئاسي بعض الأمل، في بلد زادت معاناته بسبب الحرب السورية، إلا أنه ووفقا لاستطلاع رأي محلي تبين أن قرابة 50 بالمائة من السكان يعتقدون أن “شيئا لن يتغير” فيما يتعلق بالوضع في لبنان. أما حوالي 26 بالمائة من السكان، فقد أعربوا أن “الوضع سوف يزداد سوءا”. وبالتالي ستكرس عملية اختيار ميشال عون عملية الموت البطيء التي تعيشها الديمقراطية اللبنانية التي لطالما اتسمت بعدم كفاءتها وبهشاشتها.
وكما هو الحال في معظم الديمقراطيات الغربية، كان انتخاب ميشال عون في الواقع، مثل كل الانتخابات الرئاسية التي تجري في المنطقة بالاعتماد على مرشح واحد فقط، حيث لا يواجه أية منافسة على الإطلاق. وفي سنة 1976، تم تزكية “إلياس سركيس” لمنصب الرئيس، في حين كانت البلاد تعيش في حالة من الحرب. وفي سنة 1982، تم انتخاب بشير الجميل لرئاسة لبنان أثناء الغزو الإسرائيلي، لكنه اغتيل قبل توليه للمنصب.
وبعد “اتفاق الطائف” ووضع لبنان تحت الوصاية السورية، أصبح المشهد السياسي اللبناني أكثر سوءا، بعد أن تم تكليف نظام دمشق بتعيين رئيس يجب أن يصوت البرلمان اللبناني له بالأغلبية الساحقة. وقد عين نظام حافظ وبشار الأسد كلا من “إلياس الهراوي”، الذي امتد حكمه من سنة 1989 إلى سنة 1998 و”إميل لحود” خلفا له من سنة 1998 إلى 2007. وقد تمتع هذين الرئيسين بتعديل دستوري فرضه نظام دمشق، يمنحهما الحق في تجديد حكمهما لمدة ثلاث سنوات أخرى، في حين أن الدستور يفرض أن لا تفوق فترة حكم أي رئيس، الست سنوات.
أما بالنسبة لميشال سليمان الذي تولى الحكم من سنة 2008 إلى سنة 2014، فقد انتخب بعد تسعة أشهر من شغور المنصب الرئاسي، أو بالأحرى تم اختياره بإجماع داخلي ودولي، منصوص عليه في اتفاق الدوحة لسنة 2008. أما آخر انتخابات رئاسية ديمقراطية يعود تاريخها إلى سنة 1970، فقد حدثت بين المرشحين، سليمان فرنجية وإلياس سركيس في جو منافسة شريفة، أدت إلى انتخاب فرنجية فقط بفارق صوت واحد.
انحراف في الممارسة الديمقراطية
تمثل العملية الانتخابية الحالية في لبنان نوعا آخر من الانحراف في الممارسة الديمقراطية الأساسية. وقد صوت 83 شخصا في البرلمان لصالح ميشال عون، مقابل امتناع 36 شخصا عن التصويت. وتعتبر هذه العملية هي الأولى من نوعها في تاريخ البلاد بعد أن أجمع معظم السياسيين أنه من غير الملائم إجراء انتخابات جديدة في سنة 2013، في ظل التوترات المحلية التي تعيشها البلاد وفي ظل الصراعات المجاورة التي تهدد أمنها.
وقد تعرضت معظم الاجتماعات البرلمانية، التي عقدت منذ أيار/ مايو لانتخاب رئيس جديد للدولة، للمقاطعة بشكل منهجي من قبل الكتلة البرلمانية الموالية لعون ومن حليفه حزب الله، الذين قاموا بعرقلة مسار هذه العملية الديمقراطية. ووفقا للدستور، يجب أن تحظى عملية تعيين رئيس بموافقة ثلثي مجلس النواب كما يجب أن يحضر 86 نائبا خلال جلسة التصويت. وقد خيل إلى الجميع في البداية أن المشهد السياسي اللبناني سيشهد أول ممارسة ديمقراطية نسبية منذ نهاية الاحتلال السوري، بعد ترشح كل من سمير جعجع، المعادي للنظام السوري وميشال عون، حليف حزب الله.
وتجدر الإشارة إلى أن ميشال عون يحظى بتأييد الشارع المسيحي أكثر من منافسه، ولذلك قرر تجاوز الديمقراطية وكسر معاييرها، وذلك لأسباب لا تتماشى مع كتلته النيابية في البرلمان، والخضوع لرغبة حزب الله الذي كان يسعى إلى تأجيل الانتخابات اللبنانية لاستغلالها كورقة رابحة مع حليفه الإيراني من أجل تسوية الأوضاع في سوريا.
ولاقت هذه المقاطعة الممنهجة انتقادات شديدة من المعارضة اللبنانية، والتي وصفتها بأنها غير دستورية “و “غير ديمقراطية “. وقد اعتبرت أن هذه الممارسة تنأى بعيدا عن ثقافة المنافسة السياسية ومتطلباتها الدستورية المتفق عليها مسبقا.
“عسكرة” نظام رئيس الجمهورية
يكرس صعود ميشال عون لرئاسة الدولة نزعة جديدة تميل نحو “عسكرة” نظام رئيس الجمهورية، منذ أواخر التسعينات. فقد تم تنصيب قائد الجيش “إميل لحود” من حكومة دمشق في سنة 1998، كما حظي بتعديل دستوري من قبل السلطات السورية، وقد تم إعادة نفس هذا السيناريو مع رئيس الدولة السابق للحكومة اللبنانية، ميشال سليمان.
أما بالنسبة لميشال عون، فقد احتل مناصب عسكرية خلال مسيرته السياسية الطويلة، وشغل منصب ضابط سابق وجنرال، ومن ثم أصبح قائدا للجيش خلال الحرب الأهلية التي اندلعت بين سنتي 1984 و1988، قبل أن يتم تعيينه رئيسا مؤقتا للوزراء لحكومة عسكرية كان يقودها الرئيس، أمين الجميل، قبل نهاية فترة ولايته، في ظل عدم وجود توافق في الآراء بشأن من سيخلفه بعد خروجه.
كما تعاني هذه الديمقراطية الفريدة من نوعها في الشرق الأوسط من ثغرة أخرى هيكلية منذ استقلال البلاد في سنة 1943، تتمثل في تقاسم السلطة على أساس طائفي. فوفقا للدستور اللبناني، يجب أن يكون رئيس الدولة مسيحيا مارونيا، ورئيس الوزراء سنيا، ورئيس البرلمان شيعيا. وتبين هذه المعايير أن الانتماء الديني يعد أحد الركائز الرئيسية للديمقراطية الحقيقية في لبنان.
وتخضع كل وظائف القطاع العام في الوقت الراهن إلى الحصص المنصوص عليها في الدستور اللبناني، حيث يتم تقاسمها بين 18 طائفة دينية، تشكل النسيج الاجتماعي للمجتمع اللبناني. فعلى سبيل المثال؛ لا يمكن أن يحظى مسيحي أرثوذكسي يوناني، بمناصب تفوق المكانة التي حددها له الدستور، حيث أن أعلى منصب ممكن أن يصل إليه ممثلو هذه الطائفة؛ هو نائب رئيس الوزراء. كما أنه لا يمكن أن يحظى المواطنون المنتمون لطائفة “الدروز” بالمراكز الثلاثة الأولى للجمهورية، التي تحتكرها الطوائف الرئيسية في البلاد؛ وهم المارونية والسنية والشيعية.
السلوك الانتخابي المنحاز
تمنع هياكل الدولة اللبنانية من معاقبة المنحازين عن الديمقراطية، الذين يقومون بتزوير بيانات صناديق الاقتراع، حيث أن بعض الناخبين يتقاضون أموالا طائلة، تدفعهم إلى تشويه مفهوم الديمقراطية. وتجدر الإشارة إلى أن أغلب سلوكيات الناخبين تكون منحازة نوعا ما، وذلك من أجل حماية طائفة دينية ما أو قائد أو حزب سياسي من بقية قادة المجتمع والأحزاب الدينية الأخرى.
كما يعاني النظام اللبناني من نقاط ضعف هيكلية أخرى بالمقارنة مع النموذج الغربي تتمثل في غياب الاقتراع العام وانتخاب رئيس من قبل برلمان يمثل جميع طوائف المجتمع، فضلا عن حالة التهريب التي يعيشها هذا النظام من قبل حزب مسلح، بما في ذلك حزب الله، الذي يستخدم ترسانته كتهديد ضد أي قرار ديمقراطي يضر بمصالحه الإستراتيجية. وهذا ما حصل في سنة 2008، عندما قررت أغلبية الحكومة تفكيك شبكة الاتصالات الموازية التي أنشأها حزب حسن نصر الله، ما دفع به إلى التهديد بقطع يد كل الذين يتجرؤون على مس هذه البنية التحتية المنسوجة سرا على مر هذه السنوات.
وفي حين يناقش معظم العلماء الكثير من القضايا الاجتماعية والثقافية الحقيقية حول حرية التعبير وحرية الصحافة، لازالت معظم الحريات غائبة على المشهد اللبناني عامة، فلا يزال الكثير من الصحفيين يتعرضون للتهديد أو حتى إلى القتل، بالإضافة إلى أن أغلب وسائل الإعلام الحالية ليست سوى مؤسسات إعلامي تمثل الأحزاب السياسية المهيمنة على المشهد السياسي اللبناني.
المصدر: صحيفة سلايت