أطلق العديد من أعداء الثورات العربية التي انطلقت سنة 2011 في 5 أقطار عربية اسم الربيع العبري على ما أسماه المحتفون بالثورات “ربيعًا عربيًا”.
استحضر أصحاب مقولة الربيع العبري نظرية المؤامرة وادعى بعضهم أن الثورات هي صناعة مراكز الدراسات الاستراتيجية الصهيونية وأنهم من خططوا لها وحركوا الثوار للنزول للشوارع والإطاحة بأكبر الديكتاتوريات في العالم العربي.
طبعًا هي مقولات مردودة على أصحابها، فما الذي يدفع الكيان الصهيوني للتخطيط للإطاحة بحكام نجحوا في تنفيذ مخططاته بنجاح.
أليس هؤلاء الحكام هم من نجحوا في تجهيل شعوبنا وتفقيرها وحرموها من الديمقراطية عقودًا وتركوا خيرات أمتنا لأعدائها وذهبوا في التطبيع مع الكيان الصهيوني أشواطًا كما خططت مراكز دراسته وكما يريد؟
الجواب على هذه الأسئلة وغيرها يدلل على أن الثورات التي أعادت بوصلة شعوبنا للعلم والديمقراطية والتحرر وتحرير فلسطين لن تكون أبدًا من التخطيط الصهيوني.
مجموعة من الأدلة الأخرى يمكن اعتمادها أيضًا لعل من أهمها حجم المؤامرات التي تحاك من أجل إسقاط التجارب من قبل الكيان الغاصب نفسه أو من قبل وكلائه في المنطقة، وحجم الأسلحة التي أعدتها وزيرة داخلية فرنسا صديقة إسرائيل لوأد الثورة التونسية، والانقلاب الدموي في مصر، ومساعي التخريب للثورة الليبية.
كلها أدلة على أن هبة الشعوب وأهدافها وما لحقها من صعود لإسلاميين وسطيين يتبنون مشروع تغيير حضاري جاذب ويوحد الأمة أقلقت الكيان الغاصب وحلفاءه ودفعتهم للتخطيط بشتى الطرق العنيفة منها والناعمة لوأدها أو تحويل وجهتها من ربيع عربي إلى ربيع عبري يخدم أهداف الكيان الصهيوني ووكلائه في مزيد من إضعاف الأمة وتفتيتها.
الوسائل العنيفة عادة ما تكون ظاهرة مثل الانقلاب العسكري الدموي في مصر والذي لحقه صمت دولي رهيب ومريب أو دعم داعش التي أساءت للإسلام والمسلمين بقدر إساءتها للربيع العربي وثواره، إضافة إلى مساعي تقسيم سوريا وليبيا والعراق لكن الوسائل الناعمة عادة ما تدس كالسم في الدسم وتمرر في ثقافة المجتمع وأفكار نخبه وممارسات الدولة والأحزاب السياسية كأنها مكسب من مكاسب تقدم المجتمع أو تحصينه وفرض السلم الأهلي بين صفوفه بل أحيانًا على أساس أنها هدف من أهداف ثورته، ووسائل التأثير الناعم في وجهة الثورات العديدة منها:
الضغط الدبلوماسي
حيث ازداد نشاط البعثات الدبلوماسية للقوى الغربية في المنطقة العربية بشكل ملحوظ ومدروس بلغت حد التخطيط الاستراتيجي لبعض الأحزاب وصنع الرموز السياسية والضغط من أجل التأثير والتدخل السافر في مسائل سيادية على غرار ما حصل من ضغط على المجلس الوطني التأسيسي التونسي من أجل إلغاء فصل تجريم التطبيع.
السيطرة على المجتمع المدني
في دول كانت قابعة تحت الديكتاتوريات لعقود لا تقاليد لها في المجتمع المدني، ارتفع عدد الجمعيات المدنية ليصل عشرات الآلاف، عدد كبير منها لا تأثير لها، كما يبرز المؤشر العربي الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات سنة 2015، والذي يبين أن 3% فقط من الشعب التونسي على سبيل المثال قام بنشاط مدني أو انخرط في مؤسسة مدنية.
في المقابل عدد كبير من الجمعيات المرتبطة بأحزاب سياسية ومراكز دراسات ووزارات خارجية أمريكية وأوروبية تنشط في مجال تكوين شباب وقيادات الأحزاب السياسية العربية والمساهمة في رسم السياسات العامة لبلداننا وتوجيه الرأي العام، طبعًا أهدافها لن تكون في مصلحة ثورة ترنو لتحرر الدول العربية من تبعيتها لهذه الدول.
الاختراق الفكري للنخب والشعوب
كثيرة هي المقولات التي تنجح في تزويقها وترويجها نخبنا وتتقبلها بكل سرور شعوبنا، مقولات أنتجت في مراكز دراساتهم وهب للترويج لها عن وعي وغير وعي نخبنا، انطلقت إثر الثورات بمقولة اللائكية وما أحدثته من فتنة في مجتمعاتنا قسمته بين منتصر للدين وضارب له، فتنة أنتجت ردة فعل عنيفة باسم الإسلام وصراع إيديولوجي حاد بين الإسلاميين وخصومهم، لإخماد هذه الفتنة ومواصلة إنجاح المسار الديمقراطي وحماية الأوطان كان لا بد من حل والحل هنا فكري، حيث وجدت نخبتنا ضالتها في فكرة إنهاء الصراع الإيديولوجي وترويج فكرة نهاية الإيدولوجيا المعلوم مصدرها وأهدافها.
حل في ظاهره مقنع فمن خلاله نوجد أرضية مشتركة بين أبناء الشعب الواحد على حل مشاكله المعيشية في الاقتصاد والسياسة ونضرب الفرقة بينهم لكن في عمقه خطير، خطورته تكمن أولاً في قتل فكرة الاختلاف ال‘يجابي والمثري داخل المجتمع وتماهي بين الاختلاف المحمود والصراع المذموم، وثانيًا في التعامل مع الأفكار الحضارية الكبرى الصاعدة والمحركة للشعوب في معاركها ضد الاحتلال والظلم والجهل والتبعية، والمقصود هنا الفكرة الإسلامية كإيديولوجيا والدفع نحو تحييدها عن السياسة والحكم وإحالتها لمجتمع مدني عاجز مسيطر عليه من قبل لوبيات ولائها لغير الأمة وهو عين ما يبحث عنه الخصوم، والحال أنهم يحركون جيوشهم لاحتلال العراق وتدمير فلسطين باسم المقدس ويستنهضون شعوبهم باسم الحلم الحضاري.
فكرة قد تكون إيجابية إن توفرت لها شروط نجاحها، وشرط نجاحها هو إحالتها على منظومة قوية قادرة على تأطير المجتمعات والتأثير في السياسة، لكن هي بالضرورة سلبية في حال التخلص منها وتركها لمنظومة مدنية ضعيفة ماديًا وسياسيًا، ويسيطر عليه لوبيات عدوة للأمة معرقلة لخطوات تقدمها.
الانقسام القبلي والمذهبي
لم يدخر خصوم الثورات العربية جهدًا في إثارة النعرة الداخلية على الأساس العرقي أو المذهبي أو القبلي، فعملوا على تصعيد الخلاف بين الأقباط والمسلمين في مصر وبين السلفية والصوفية في تونس وبين السنة والشيعة في العراق وسوريا واليمن بين قبائل الشرق وقبائل الغرب في ليبيا، تصعيد لم يلق نجاحًا في تونس ونجح إلى حد ما في مصر وينخر الآن في ليبيا وذهب أشواطًا في تحطيم العراق وسوريا واليمن.
اختلافات الأصل أنها تثري الشعوب وتوحدها تجاه العدو، نجح الأعداء في النفخ فيها واستخدامها في تحويل وجهة بوصلة الصراع من الصراع مع كل مقومات الجهل والتخلف نحو بناء مقومات التقدم والتحرر إلى صراعات داخلية زادت في تخلف شعوبنا وقطعت طريق التقدم أمامها.
لماذا التغيير والثورة؟
سؤال أطرحه في نهاية المقال اضطرارًا لا مزايدة وثورجية، بل للتذكير ببعض المنطلقات واستباقًا لبعض الأسئلة ورفع للبس قد يطرأ على أذهان القارئ، حيث إن الثورة فعل يقوم به مجموعة مستحضرة التضحية حد الشهادة من أجل تغيير وضع قائم لوضع أحسن لها وللأجيال القادمة، فإذا أصبحت إجراءات الثوار مجرد تطبيق لإملاء الأطراف التي كانت تقوم بوظيفة الإملاء على الأطراف التي وقعت عليهم الثورة حد برمجة المجتمع وتنشئة الشباب على هذه الإملاء فالنهايات معلومة.
وهنا ليس المطلوب مواجهة القوى المعادية للعرب والمسلمين بجبهة ضعيفة ومشتتة، وإنما قياس كل الخطوات خاصة الاستراتيجية منها والتي على أساسها تنشأ الأجيال القادمة بمقياس مصالح الأمة الكبرى لا على أساس مصالح قطر أو طرف.
ولن ترضى عنك قوى الصهيونية والإمبريالية حتى تتبع خطواتهم.