هل يقوم الإنترنت بتخفيف قبضتنا على الحقيقة؟

الانترنت

ترجمة حفصة جودة

في الأسبوع االقادم، إذا سارت الأمور بشكل جيد فسوف يفوز أحدهم بالرئاسة، فماذا سيحدث بعد ذلك؟ هل يتقبل الطرف الخاسر هذه النتيجة؟ هل سيعترف معظم الأمريكيين بشرعية الرئيس الجديد؟ وهل سنكون قادرين على تنظيف أكوام الأكاذيب والخداع والاتهامات التي تم تبادلها بحرية في جو الانتخابات المشحون والخالي من الحقيقة؟

لا تزال الكثير من تلك الأمور غير واضحة حتى الآن، فالإنترنت شوه فهمنا الجمعي للحقيقة، في استطلاع رأي أجراه مركز “بيو” للأبحاث مؤخرًا، أظهرت الأبحاث أن 81% من المشاركين يقولون بأن أنصار الأحزاب لا يختلفون حول السياسة فقط، لكنهم يختلفون حول “الحقائق الأساسية”.

لعدة سنوات، كان التكنولوجيون والمثاليون يقولون بأن توافر الأخبار على الإنترنت سوف يكون نعمة للديموقراطية، لكن هذا لم يحدث.

منذ أكثر من 10 سنوات كان هناك مراسلاً شابًا يقوم بتغطية خبر تتداخل فيه التكنولوجيا مع السياسة، لكنني لاحظت العكس، فالإنترنت ممتلئ بالمتشككين في حقيقة أحداث 11 سبتمبر، وممتلئ بمناصري الأحزاب الذين يصدقون الأدلة التي تقول إن جورج بوش سرق الانتخابات من جون كيري عام 2004، أو أن باراك أوباما كان مسلمًا وولد في الخارج (وُلد في هاواي ويدين بالمسيحية).

وبطبيعة الحال، تعودت أمريكا منذ فترة طويلة على نظرية المؤامرة، لكن التهديدات على الإنترنت والنظريات الهامشية، بدت أكثر ضراوة مما كانت عليه قبل الإنترنت، خلال حملة أوباما الرئاسية عام 2008، كانت كل محاولة لدحض الشائعات بشأن مولده قد بدا أنها تزداد انتشارًا عبر الإنترنت.

في كتابي عام 2008، ذكرت أن الإنترنت سوف يستهل عصر “ما بعد الحقيقة”، فبعد ثماني سنوات من ذلك، وفي لحظات النهاية للانتخابات التي تقدم لنا مرشحًا قام في وقت ما بقيادة حملة للكذب بشأن ميلاد الرئيس أوباما ودينه، فإن هناك أسباب أكثر للقلق بشأن الحقيقة في العصر الرقمي الذي نعيش فيه.

لماذا؟ لأنه عند دراسة ديناميكيات انتقال المعلومات عبر الإنترنت اليوم، فسوف تجد أن معظم الأشياء تتآمر ضد الحقيقة.

أنت لست عقلانيًا

أساس المشكلة مع الأخبار على الإنترنت، هو شيء يبدو عظيمًا في بدايته، لدينا الكثير من وسائل الإعلام لنختار من بينها، فمنذ عشرين عامًا تجاوز الإنترنت صحيفتك الصباحية والنشرة المسائية، بتوفير مصادر متنوعة للمعلومات، تتنوع ما بين مجلات ممولة تمويلاً جيدًا، ومجلات للفضائح، ومجموعة أشخاص من مدينتك يدعون أن لديهم دليلاً يثبت أن هيلاري كلينتون ودونالد ترامب هما في الحقيقة شخصًا واحدًا.

تنوع مصادر الأخبار بشكل كبير، من المفترض أن يكون حصنًا للعصر الرشيد أو “سوق الأفكار” كما يُطلق عليه، لكن الأمور لا تتم على هذا النحو، فقد أكد علماء النفس وعلماء الاجتماع مرارًا وتكرارًا، أنه عند مواجهة خيارات معلوماتية متنوعة فإن الناس نادرًا ما يتصرفون بشكل عاقل، وبدلاً من ذلك فإنهم ينشغلون بالتصورات والتحيزات المسبقة، ويلجأون للقيام بالأمر الأسهل وهو التمسك بالمعلومات التي تؤكد أفكارنا وتتجاهل ما غير ذلك.

هذه الديناميكية أصبحت مشكلة في عالم الأخبار الجديد ذي الاختيارات اللامتناهية، فسواء كنت تتصفح فيسبوك أو جوجل أو نيويورك تايمز، فأنت تمتلك التحكم المطلق، إذا رأيت شيئًا لا يعجبك تستطيع ببساطة أن تستبدله بشيء أكثر متعة، كما أننا جميعًا نتشارك ما نجده في دوائرنا الاجتماعية المشابهة لنا، مما يؤدي إلى خلق مجموعات منغلقة ودوائر متشابهة على الإنترنت.

تنوعت الأبحاث كثيرًا في هذا الشأن، فشركات الشبكات الاجتماعية ترى أن فيسبوك يقدم أخبارًا متنوعة، بينما وجد باحثون يقومون بدراسة في كلية “IMT” للدراسات العليا في إيطاليا أن المجموعات المتجانسة على الإنترنت، تساعد على انتشار نظريات المؤامرة ونموها على الإنترنت.

يقول والتر أحد مؤلفي الدراسة: “هذا الأمر يخلق نظامًا بيئيًا تصبح فيه القيمة الحقيقية للمعلومات غير مهمة، وما يهم هو مدى تناسب تلك المعلومات مع سرديتك الخاصة”.

الأدلة الموثقة لا قوة لها

قدمت لنا التكنولوجيا الرقمية طرقًا أفضل لالتقاط ونشر الأخبار، ومع وجود الكاميرات ومسجلات الصوت في كل مكان، فبمجرد أن يحدث شيء، تستطيع أن تجد له دليلًا موثقًا على الإنترنت، وربما تعتقد أن وجود أدلة موثقة أكثر سوف يؤدي إلى اتفاق ثقافي أفضل فيما بتعلق بالحقيقة، لكن ما حدث كان العكس تمامًا.

فبالنظر إلى الفرق بين قضية اغتيال جون كينيدي وحادثة 11 سبتمبر، كان هناك مقطع فيديو واحد لديلي بلازا عام 1963 عندما تم إطلاق النار على كينيدي، بينما كان هناك المئات من القنوات التليفزيونية وكاميرات الهواة تصور المشهد في أثناء حادثة 11 سبتمبر، ومع ذلك فكلتا القضيتين لم يتم تسويتهما بالنسبة للأمريكيين، ففي استطلاع تم مؤخرًا، كان عدد الأشخاص الذين يعتقدون أن الحكومة تخفي الحقيقة بشأن أحداث 11 سبتمير، هو نفس العدد الذي يعتقد ذلك بشأن قضية اغتيال كينيدي.

يبدو أن الأدلة الموثقة فقدت قوتها، فإذا كانت نظرية المؤامرة في قضية كينيدي قد تجذرت لغياب الأدلة الموثقة، فإن نظريات المؤامرة بشأن أحداث 11 سبتمبر قد ظهرت بسبب فرط انتشار الأدلة، لذا فمع انتشار العديد من الصور حول أحداث 11 سبتمبر بدون وصف لملابسات التقاطها ومحتواها، يستطيع مؤيدو نظرية المؤامرة الاختيار من بين تلك الصور وعرض السردية التي يؤمنون بها، ومع ظهور برنامج “فوتوشوب” أيضًا، وإمكانية التلاعب بأي صورة رقمية، يستطيع الناس أن يرفضوا بكل أريحية أي أدلة موثقة لا تناسب رؤيتهم، وذلك بادعاء أنه تم تعديلها.

يقودنا ذلك إلى مشكلة أعمق، نحن جميعًا نميل إلى تنقية الأدلة الموثقة وفقًا لانحيازاتنا، يقول الباحثون عند عرض صورة أو فيديو أو وثيقة معينة على شخصين لهما وجهتي نظر مختلفة، فسوف يخرجان بأفكار مختلفة تمامًا بشأن ما شاهدوه.

هذه الديناميكية لعبت دورًا كبيرًا هذه العام، فبعض الناس يعتقدون أن ما كشفته وثائق ويكيليكس بخصوص حملة كلينتون الانتخابية يُعد دليلاُ دامغًا ضدها، بينما يراها آخرون أمرًا لا أهمية له، كما أنهم يؤكدون أنه قد تم التلاعب بالوثائق وسرقتها أو اقتطاعها من سياقها، كذلك تشير استطلاعات الرأي إلى أن من يؤيدون ترامب رأوا أن الشريط الذي تم تسريبه للرجل في أثناء حديثه بشكل غير لائق عن النساء، مجرد حديث جانبي في غرفة تغيير الملابس ولا يعبر عن أي موقف سياسي حقيقي، في حين اعتبر المعارضون له حديثه ذلك أسوأ ما يمكن أن يحدث على الإطلاق.

الكذب كمؤسسة

إن واحدة من المزايا العديدة للأخبار على الإنترنت هي إمكانية التأكد الفوري من حقيقتها، فالآن، عندما يكذب أي شخص بشأن أي شيء، يمكن للصحفيين أن يثبتوا أنه يكذب، وإذا كانت مواقع التحقق من الأخبار تفعل ذلك بشكل جيد، فإنهم سيظهرون في محركات البحث باستمرار، ما يوفر مرجعًا دائمًا وجاهزًا لمن يريدون تصحيح معلوماتهم.

لكن هذا لا يحدث في العادة، فهناك العديد من مواقع الأخبار التي تتحقق من صدق المرشحين وغيرهم بشكل مستمر، لكن ذلك لا يعني أنها تثبت كفاءتها دومًا في وجه التزييف والخداع.

ويعود ذلك بالأساس لكون الكذب قد تمت مأسسته، فهناك العديد من المواقع التي تتمحور مهمتها في نشر الأخبار الكاذبة، وبشكل ما، أصبحت تلك المهمة (مهمة نشر الأخبار الكاذبة)، حقيقية وحتى مربحة مثل مهمة نشر الأخبار الحقيقية، بل إن صفحات الفيسبوك التابعة للحزبين الديموقراطي والجمهوري دخلت إلى المعركة بقوتها، فقد كشف تحليل أجراه موقع بازفيد مؤخرًا لأكبر الصفحات السياسية على فيسبوك عن أن مواقع اليمين الأمريكي قد قامت بنشر أخبار كاذبة وغير حقيقية بنسبة 38% من مجموع ما نشرته، في حين قامت مواقع اليسار بالاعتماد على أخبار كاذبة في خُمس الأخبار التي نشرتها.

“في السابق كانت عمتك التي لم تكن تفهم الإنترنت تنشر الشائعات والتحليلات السطحية، لكن الآن يحدث ذلك بدعم من الحملات السياسية والانتخابية ومرشحي الرئاسة ومجموعات ضخمة من مستخدمي تويتر”، كما تؤكد كاتلين ديوي، مراسلة واشنطن بوست، والتي خصصت ذات مرة عمودًا في الصحيفة عنونته بـ”ما الذي كان غير حقيقي على الإنترنت في هذا الأسبوع؟”.

بدأت ديوي في كتابة عمودها عام 2014، لكن بحلول نهاية العام كانت قد توقفت عن مهمة التحقق من الأخبار بعد شعورها بأنها ليست قادرة على إقناع الناس بما تقول.

تشير ديوي وتقول “في العديد من الحالات، كان كشف الكذب يعزز من شعور الناس بكونهم غير معنيين بالموضوع محل النقاش، وفي النهاية تشعر كما لو أنك قدمت ضررًا أكثر من نفعك”.

لكن لا يزال هناك بعض المتفائلين بين المتحققين من الأخبار، يدركون تمامًا حدود إمكانياتهم في الكشف عن الكذب على الإنترنت، لكنهم رغم ذلك يصرون على بذل ما في وسعهم.

المصدر: نيويورك تايمز