ربما كان الأمر يتجاوز “مجرد” نحو عشرين قتيلاً سقطوا في أزمة السيول الأخيرة في مصر، ويتجاوز كذلك، عكارة مياه النيل التي أثارت فزعًا خفيًّا في نفوس المصريين؛ حيث أعادت إلى ذاكرة الوجدان الجمعي لهم، بشكل غير مباشر، اللعنة التي استنزلها الله تعالى على مصر، بتحويل مياه النيل إلى دم أحمر قانٍ ضمن عقوبات فرضها الله تعالى على هذا البلد بسبب منع فرعون موسى “عليه السلام” بالخروج من مصر ببني إسرائيل، وقتما كان فيهم الإيمان.
ولسنا هنا في هذا الموضع في معرض تقييم تجربة السيول ذاتها، وما أدت إليه في صدد تعطيل االحياة اليومية للمواطنين في مدن محافظة البحر الأحمر، وعدد من مدن الصعيد القريبة منها في محافظتَيْ قنا وسوهاج، ولا كيف تعاملت الأجهزة المحلية مع الأزمة، ولا حتى الأزمة الإنسانية التي لا تزال موجودة في المدن الأكثر تأثرًا بكارثة السيول، مثل “راس غارب” الواقعة على خليج السويس.
إنما النقاش يتعلق بأمر أخطر وأعمق، ويمس صلب السياسة الراهنة للنظام، والتي كان لها دور كبير في تدهور الحالة الاقتصادية والمعيشية للمواطن المصري على الصورة التي وصلت إليها الآن.
ويخص هذا الأمر، الدور المتنامي للقوات المسلحة، وهيئاتها المختلفة، المدنية والعسكرية، في النشاط الاقتصادي المصري.
ومبعث تجدُّد ذلك الحديث، الصور المتداولة للطرق التي دمرتها السيول وآراء الخبراء في حالتها الفنية؛ حيث أجمعت آراء مهندسي طرق، وخبراء في الإنشاءات، على وجود أخطاء تصل إلى مستوى الجريمة عند تنفيذ هذه الطرق.
فساد وقصور متوارثان!
بداية، تتعرض مصر سنويًّا في مثل هذا التوقيت من العام إلى سيول تضرب بعض مناطق البحر الأحمر وشبه جزيرة سيناء، وفي بعض الأحيان تصل إلى عمق وادي النيل في مناطق مصر العليا في محافظات الصعيد المجاورة لسلسلة جبال البحر الأحمر، مثل قنا، وذلك بسبب التقاء منخفض جوي يأتي من جنوب أوروبا, مع منخفض السودان الموسمي الدافيء الذي يكون قريبًا من سطح الأرض.
وفي الثاني من نوفمبر من العام 1994م، تعرضت مصر لموجة من السيول المدمرة، طالت كل محافظات البلاد تقريبًا، وأدت إلى تدمير كامل قرية دُرُنْكة، وقرى أخرى في أسيوط وسوهاج ومحافظات مصرية أخرى، وراح ضحيتها حوالي 600 شخص في أسيوط وحدها، وخسائر بلغت 2 مليار جنيه مصري، أي ما يقدَّر بحوالي 650 مليون دولار بأرقام تلك الفترة [أي حوالي 9.1 مليار جنيه بعد تعويم الجنيه هذه الفترة].
سيول 94 كانت تاريخية ولكن لم تشهد مصر جهودًا حقيقية لمنع تكرارها
وبالرغم من أن هذه الكارثة قد أثارت في حينه، تساؤلات حول الكثير من الأمور الاستراتيجية المتعلقة باستعدادات الدولة لمواجهة مثل هذه الكوارث، وفتحت ملفات العديد من أوجه القصور في البنية الإنشائية للدولة، ولاسيما ما يتعلق بمخرات السيول، سواء فيما يخص استعدادها لتصريف مياه السيول من فوق الجبال بعيدًا عن الوديان المأهولة والقرى المجاورة، أو ما يتعلق بحظر البناء في مناطق مخرات السيل؛ إلا أن الدولة لم تتحرك لتدارك ذلك كما العادة.
كذلك ثار نقاش اجتماعي كبير حول حالة الطرق، وآليات إنشائها، وحالة المرافق العامة في القاهرة والمدن الكبرى المليونية.
وبطبيعة الحال، انتهى الأمر إلى “إعلانات” سياسية بالعمل على معالجة هذه المشكات، تداولتها وسائل الإعلام الحكومية، من دون إجراءات حقيقية.
والدليل على أن الأمور لم تشهد منذ ذلك الحين أي تغيير في طريقة إدارتها، هو الكوارث التي تعرضت لها محافظات ومدنٌ كبرى مثل الإسكندرية والبحيرة، في السنوات القليلة الماضية، وغرقتْ فيها بالكامل!
لكن الأهم فيما تطرحه كارثة السيول الأخيرة في البحر الأحمر ومدن الصعيد، هو ما يتعلق بما تطرحه في صدد “المشروعات القومية الكبرى” التي تعلن الدولة أنها أنجزتها، ودور الهيئة الهندسية وجهاز مشروعات الخدمة الوطنية، وغيرها من هيئات القوات المسلحة المصرية، المدنية والعسكرية في تنفيذها، وما تطرحه حول “القصور” و”الفساد” الحاصل في هذا كله، وفق ما كشفت عنه صور الطرق المنهارة.
القوات المسلحة.. فساد للسيطرة على الدولة!
عندما بدأ النظام الحالي في إسناد كل شيء إلى القوات المسلحة، حتى فيها يتعلق بالقوت اليومي للمواطن، من خلال القوافل التموينية، كان الأمر يتعلق بأنها – كما قال السيسي ورئيس وزرائه شريف إسماعيل أكثر من مرة – الأكثر كفاءة وانضباطًا، وكذلك الأكثر سرعة في تنفيذ المشروعات القومية الكبرى، في ظل ترهل الإدارة المدنية، وعدم قدرتها على الاضطلاع بمهام المرحلة الحالية.
ولم يخفِ النظام الحالي ممثلاً في شخص الرئيس عبد الفتاح السيسي، في كثير من المواضع عدم رضاه عن أداء الأجهزة الحكومية المدنية، واتهامها بالفساد، ووصْفه بأنه “للركب” في مفاصل الإدارة المحلية والحكومية بشكل عام.
السيسي أسند حوالي 28 مشروعًا للقوات المسلحة في عامَيْن تبلغ تكلفتها عشرات المليارات
ومن ثَمَّ؛ كان من بين المبررات المهمة التي كان ولا يزال السيسي يطرحها عندما يتناول الانتقادات التي تُوجَّه إلى الدولة بسبب إسنادها مهام مدنية عدة للقوات المسلحة، هو الكفاءة والنزاهة.
وكان هناك نتيجة لذلك، أو لعلها سببًا منذ البداية، وهو الافتراق الذي حصل بين الدولة أو بمعنىً أدق بين نظام العسكريتاريا الحالي، وبين رجال أعمال عهد مبارك.
وبطبيعة الحال؛ فإن القصة معروفة، ولكن ملخصها، أنه عندما تسلم السيسي الحكم، انتظر فلول النظام القديم، أن تعود الأمور إلى نصابها وفق تقديرهم هم لمفهوم “نصابها” هذا، وهو أن يعودوا “سادة البلد”، والمهيمنين على خيراتها، من خلال السيطرة على القرار الاقتصادي، ومفاصل الأنشطة الاقتصادية.
وطبعًا؛ فإن السيسي وقادة المؤسسة العسكرية لم تضع نفسها في خِضَم مخاطرة غير محسوبة مثل مقامرة الانقلاب على الشرعية، والتي تكاد نتائجها تعصف بالدولة بالكامل، في ظل مردودات الفعل في مصر وخارجها لما جرى، وخصوصًا لجهة كيف جرى بعد جريمة الفض، وما تلاها من أحداث؛ نقول إنهم لم يضعوا رقابهم تحت المقصلة – كانت أول رقاب سوف تطير لو فشل الانقلاب – من أجل أن يسلموا الدولة لقمةً سائغة مرة أخرى لنظام مبارك، الذي في الأصل انقلب عليه وعليهم الجيش في يناير وفبراير 2011م.
وبالتالي؛ فإنه عندما رصدت أجهزة السيسي الأدوار الكبيرة التي تقوم بها كارتلات وتحالفات رجال الأعمال في زعزعة الاستقرار الداخلي، ولعب لعبة الإعلام التي لعبوها مع الدكتور محمد مرسي، ضمن خطة إسقاطه؛ قرر النظام غلق منافذ النشاط الاقتصادي الاستراتيجية في الدولة أمامهم وأمام شركاتهم.
وفي ظل هكذا وضع؛ كانت المؤسسة العسكرية هي الملاذ الأخير للنظام، ليس حتى في هذا الأمر فحسب، وإنما في كل شيء، حتى في شؤون الأمن، بجانب النشاط الاقتصادي بطبيعة الحال.
وتقوم القوات المسلحة بالمشاركة في الأنشطة الاقتصادية العامة للدولة من خلال منظومة من الهيئات والإدارات المتخصصة، بعضها في الأصل تم تأسيسه للعمل في إطار منظومة القوات المسلحة، ثم أصبح له أدوار مدنية وأنشطة اقتصادية عدة، والبعض الآخر تم إنشاؤه وفي تفكير صانع القرار في القوات المسلحة، أن تقوم بأنشطة اقتصادية مدنية صرفة، أو أنشطة مشتركة بين القوات المسلحة، وقطاعات الاقتصاد المدني الأخرى.
ومن بين أهم هذه الهيئات والإدارات، ثلاثة لها نشاط متعلق بالطرق والمشروعات الإنشائية، وهي:
1. الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، هي إحدى الهيئات التابعة لوزارة الدفاع، ومن المفترض أنها هيئة عسكرية مستقلة ضمن القوات المسلحة المصرية، تتبعها خمسة إدارات فرعية، هي: إدارة الأشغال العسكرية، إدارة المساحة العسكرية، إدارة المياه، إدارة المشروعات الكبري، إدارة المهندسين العسكريين.
مهمة الهيئة الأساسية، هي تنفيذ مهام ذات طابع متخصص في المجال العسكري، ومن بينها عمليات التأمين الهندسي للأفرع الرئيسية للقوات المسلحة، مثل بناء المطارات العسكرية وتخطيط القواعد العسكرية، وتأمينها بالسواتر البرية والجوية المختلفة.
إلا أن طول الفترة التي قضتها مصر في حالة من السلام، دفع صانع القرار العسكري إلى أخر سلسلة من القرارات في اتجاهَيْن أساسيَّيْن قادا إلى تطوير دور الهيئة في المجال المدني، الاتجاه الأول، هو توظيف هيئات وإدارات القوات المسلحة في المجالات المدنية، الاقتصادية أو الاستثمارية منها، وغير الاقتصادية، أي في المجالات التي تحقق ربحًا أو المجالات المدنية المتعلقة بتقديم خدمات من صميم دور المحليات، مثل حفر آبار المياه في المناطق النائية.
الاتجاه الثاني كما سوف نرى، هو تأسيس هيئات وإدارات مخصصة أصلاً لكي تكون ذراع القوات المسلحة في بعض المجالات المدنية الاستثمارية الطابع، أي لتحقيق ربحية.
وعبر حوالي أربعة عقود من العمل، تشعب دور الهيئة الهندسية في كل المجالات تقريبًا، وفي مختلف محافظات مصر، بما في ذلك إنشاء المدن والمجتمعات العمرانية الجديدة، حتى في مجال إنشاء وتطوير المدارس والمستشفيات والوحدات الصحية.
الهيئة الهندسية متواجدة في مختلف مشروعات البنية الأساسية والبناء والتشييد في مصر تقريبًا
ومن بن أهم المشروعات التي أسندتها الدولة إلى الهيئة في السنوات الأخيرة، هو المشروع القومي للطرق، والذي يستهدف إنشاء حوالي 10 آلاف كيلومتر من الطرق الجديدة وتحسين القديمة، وخصوصًا تلك التي تربط بين المناطق النائية وأطراف الدولة، ووادي النيل، مثل مشروع طريق الواحات / الفيوم، وتطوير الطريق الساحلي الدولي، والطرق الرابطة بين مدن الصعيد ومدن محافظة البحر الأحمر الواقعة على ساحل البحر الأحمر، وخليج السويس.
2. الجهاز الثاني، وهو الذي نجده في كل مكان الآن من المدن المصرية، وحتى في القرى والأقاليم، هو جهاز مشروعات الخدمة الوطنية للقوات المسلحة، هو جهاز تابع للوزارة تم إنشاؤه بموجب القرار الجمهوري رقم 32 لسنة 1979م، في أواخر عهد الرئيس أنور السادات، لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الاحتياجات الرئيسية للقوات المسلحة، من أجل تخفيف أعباء الدولة إزاء القوات المسلحة، في مجالات الإنتاج الغذائي والمنتجات البترولية، وما اتصل به.
ثم تطور دور جهاز الخدمة الوطنية، لكي يكون استثماريًّا، وتوسع نشاطها بحيث يتبعها حوالي 17 شركة وكيانًا اقتصاديًّا تعمل في مختلف المجالات تقريبًا، بما فيها الطرق كذلك، بجانب التعدين وصناعة الأسمنت، مع سلسلة لا تنتهي من المنتجات الغذائية، مثل المياه المعدنية والمكرونة والأسماك والإنتاج الزراعي.
ولا توجد أرقام موثقة حول إجمالي استثمارات وتعاملات شركات الجهاز في هذه المجالات كافة؛ إلا أن أنشطة الجهاز الاستثمارية والخدمية في المجال المدني، صارت واضحة للعيان، في ظل “ترهل الإدارة المدنية وفسادها” كما يروج السيسي، أو في حقيقة، الأمر، في ظل سعي المؤسسة العسكرية إلى استعادة ما فقدته من أدوار مباشرة في عقود حكم مبارك، لصالح رجال الأعمال من المجموعة التي تأطَّر دورها السياسي وحازت الكثير من النفوذ، من خلال لجنة السياسات في الحزب الوطني.
3. الجهاز الثالث، هو جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة، وأنشئ بقرار جمهوري رقم 531 لسنة 1981م، وهو متخصص من الأساس، ومنذ النشأة في القيام بنشاط استثماري، ويشمل ذلك مختلف ألوان مشروعات البناء والتشييد، سواء السكنية أو الإدارية، وحتى المحال التجارية وأماكن انتظار السيارات، وذلك على الأراضي المملوكة للقوات المسلحة.
وبقطع النظر عن التفاصيل الفنية في كيف تقوم هذه الأجهزة بأدوارها؛ إلا أننا نقف أمام جملة واحدة يكررها السيسي لتبرير ذلك، وهي: الكفاءة النزاهة كما تقدم.
ولكن في حقيقة الأمر؛ فإن الواقع يكذب قول السيسي؛ فلم تكن أبدًا الكفاءة والنزاهة من سمات النشاط الاقتصادي للهيئات والإدارات العسكرية في كثير من الأحيان.
ملاحظات فنية على كارثة طرق البحر الأحمر
أول ملحظ فيما يخص كارثة السيول الأخيرة، هو ذلك الاجتماع الذي جمع بين اللواء عبد الفتاح تمام، سكرتير عام محافظة البحر الأحمر، مع مسؤولي الهيئة الهندسية في ديوان عام مجلس مدينة رأس غارب لبحث الكوارث التي وقعت في الطرق الجديدة التي أنشأتها الهيئة لربط مدن البحر الأحمر بالصعيد؛ حيث تشير تقارير صحفية إلى أن الاجتماع تناول “القصور” الذي تم في عملية مد الطرق الجديدة.
فالصور الموثوقة المتداولة للكارثة، تشير إلى أن كل ما أعلنته الدولة من أرقام حول حجم الإنجازات في شبكة الطرق الجديدة، كانت لمجرد الاستهلاك الإعلامي، وأن العبارات التي يتداولها السيسي مع القادة العسكريين خلال شرح هذه المشروعات، والتوقيتات التي يحددها لهم؛ إنما هي أحد مظاهر الفساد بعينه.
فتحت وطأة الرغبة في الظهور بأي إنجاز، وفي ظل عدم وجود رقابة حقيقية على هذه المشروعات، وعدم وجود هيئة مدنية محايدة – حتى الوزارات والمحافظات المعنية يسيطر عليها عسكريون متقاعدون – تعمل على تقييم الإنشاءات التي تمت، ومدى مطابقة هذه الطرق للمواصفات الفنية؛ تم تسليم طرق غير صالحة للاستعمال بالمعنى الحرفي للكلمة، كطرق سريعة تقع في مناطق معرضة في العام لمرة أو مرتَيْن من السيول المدمَّرة.
فمن خلال كلام خبراء عقبوا على هذه الصور، فإن هذه الطرق لم يتم منذ البداية اختبار نوعية التربة التي تم مدها عليها، وما إذا كانت صالحة لمد طريق أسفلتي سريع فوقها أم لا، وعند المد؛ لم يتم أولاً دك التربة بالدرجة الكافية، لأن ذلك بطبيعة الحال بحاجة إلى وقت وتكاليف لإنجازه، بينما “السيد الرئيس” وقف أمام الكاميرات يطلب اختصار وقت “الإنجاز” إلى الثُّلُث تقريبًا، كما تم استخدام خلطة أسفلت غير مطابقة للمواصفات، بما أدى إلى “تفكك” وليس “تجريف” تكسيات الأرض الأسفلتية.
فلو كانت هذه الطرق قد جُرِّفت لبدا ذلك واضحًا أنه بفعل السيل، ولكن الصور تبرز كتلاً أسفلتية جديدة تمامًا، وقد انفصلت عن بعضها البعض، وانفصلت بدورها عن الطريق، وهو ما يقول إن عملية مد الأسفلت على الأرض لم تتم بالمواصفات الفنية اللازمة، مثل استخدام مواد معينة في خلطة الأسفلت تساعد على تثبيتها في الأرض، وتجعلها بطول الطريق كتلة واحدة متماسكة.
ونصل هنا نقطة ثانية تبرز الفساد الذي تم في هذا الأمر، وينسحب بشكل عام – وفق تقارير وشهادات موثقة – على مشروعات أخرى نفذتها القوات المسلحة، وخصوصًا الهيئة الهندسية، وتتلخص في 1406 مشروعات، على رأسها “قناة السويس الجديدة”، والمشروع القومي للطرق، ومشروع استصلاح وزراعة مليون ونصف المليون فدان، ومشروع تطوير العشوائيات.
وهذا المشروع الأخير وحده، قيمته 2 مليار جنيه، وتم بالإسناد المباشر، بعيدًا عن قانون تنظيم المناقصات والمزايدات رقم 89 لسنة 1998م، الذي من المفترض أنه ينظم قواعد تنفيذ المشروعات الحكومية، بحيث لا يتم استغلالها لنهب المال العام من جانب موظفي ومسؤولي الحكومة، بينما المشرِّع المصري حدد قيمة المشروعات التي تتم بالإسناد المباشر، بما لا يزيد على 300 ألف جنيه للمشروع!
ويستند النظام في ذلك، إلى مرسوم أصدره الرئيس المؤقت، المستشار عدلي منصور، في سبتمبر 2013م، بتعديل القانون المشار إليه بما يسمح للمسؤولين الحكوميين بتجاوز الإجراءات المنظمة للمناقصات والمزايدات، في “الحالات العاجلة”، من دون أي تحديد لهذه الطبيعة العاجلة، مع رفعه قيمة الخدمات أو الممتلكات التي يمكن للمسؤولين في الدولة شراؤها وبيعها بالأمر أو الإسناد المباشر.
النقطة الثالثة التي تبرز الفساد الذي تم في مشروعات الطرق على وجه الخصوص، وأبرزته كارثة سيول البحر الأحمر، هو أن الهيئة الهندسية وغيرها من هيئات وإدارات القوات المسلحة المشرفة على مثل هذه المشروعات، لبعض هذه المشروعات لشركات إنشاءات ومقاولات من الباطن، لتسريع وتيرة العمل، مع عدم سماح إمكانيات القوات المسلحة اللوجستية بإنجاز هذه المشروعات.
هذه الشركات “المدنية”، في الغالب إما مملوكة لضباط كبار في القوات المسلحة من الباطن بدورهم، أو لضباط متقاعدين، وهو ما حرم في جانب منه شركات متوسطة وصغيرة مدنية كانت تستفيد من هذه المشروعات، في صورة فرص عمل واستثمارات تحافظ على نشاطها، أو تقوم بدفع عمولات لأجل الحصول على عقود من الباطن للمشاركة في التنفيذ.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن الأزمة الحقيقية في هذا الملف، هو غياب الرقابة الشعبية أو حتى البرلمانية، التي يمكن معها تحجيم هذا الفساد الذي طال أرواح البشر، ولو حاولنا تتبع تفاصيل هذا الملف؛ سوف نقف أمام مبالغ بعشرات المليارات.
ونختم بعبارة مهمة للناشط والاستشاري الهندسي المصري، الدكتور ممدوح حمزة، عقب فيها على وقائع فساد في أداء أجهزة وإدارات القوات المسلحة العاملة في المجال المدني والأنشطة الاستثمارية، ويقول فيها إن “فساد حسني مبارك كان للسمسرة، أما الفساد الآن فهو للسيطرة على جميع قطاعات الدولة”، وهو ما يعقد مهمة التصدي له في كل الأحوال!