وإني لأعبده فأعبدني
“شربنا على ذكر الحبيب مدامة.. سكرنا بها قبل أن يخلق الكرم”
“أحمي حميئًا، أطمي طميئًا، وكان الله قويًا عزيزًا”
فإنى العارف، والغوث والشيخ، وإنى الكاشف لما انبهم، والفاتح لما أغلق، والصديق غير الصديق، والمكنون في ملكوت الكون، والشارب من نهل المعارف، والرائي بعين الباطن، والمدرك بالنفس، والعابد لي، والناسخ في.
من سلك طريق البحث في الفرق في الإسلام وجد أمرًا عجبا، وليس أعجبهم القدرية أو المعتزلة، وليس غيرهم، بل الطبيعي إن تكالب العلماء على فرقة ففندوا القول فيهم ومنهم فتبدو النتيجة بمحو هذه الفرقة من حياة المسلمين لا من تاريخهم، غير أن في فرقة الصوفية أمورًا ظاهرها الإسلام وباطنها الكفر، وبعضها تبدو لنا كافرة، وإذا ما خاطبت الناطق بها أشعرك بضحالة إيمانك، وقصر فكرك، وضعف عقيدتك أمامه.
وما امتازت به الصوفية عن غيرها ـ حتى كتب لها البقاء إلى وقتنا – أنها ما شددت فنفرت، بل تراخت فأقبل الناس عليها زمرا، وإن اختلفت طبائعهم وأجناسهم، بل وإن اختلفت أديانهم أيضًا، فالدين عندهم واحد لا فرق فيه بين اليهود والنصارى والمسلمين – كما يقول الحلاج – فالمعبود عنده واحد وإن اختلفت ضروب العبادة ومسالكها.
مفهوم التصوف
ولكل موجودٍ تعريف وتفصيل، وتعريف لفظة الصوفية اتسم بالغرابة أيضًا كما اتسم أهلها، فكما قبلت الناس جميعا على اختلاف مشاربهم قبلت كل ما قيل فيها من تعريف وتوصيف غير أنها لم تمل لتعريف دون الآخر، ولكننا أملناها عنوة إلى ما نرتضيه لها من تعريف.
فمن ناحية مفهوم اللفظ (الصوفية) من حيث اللغة، كثر التعريف فيها حتى تجاوز الحد، ونجمل القول في ذلك فنقول: من العلماء من نسب لفظة الصوفية إلى الصوف، فخرجت الصوفية باعتبار أنها منسوبة إلى الصوف، فنقول تصوف أي لبس الصوف، وقيل: نسبةً إلى الصفة وهم الفقراء من صحابة النبي (صلى الله عليه وسلم) ومنهم سيدنا أبو هريرة (رضي الله عنه)، غير أن هذا مردود عليه: بأن النسب إلى “الصفة” صفي وليس صوفي.
وقيل: مأخوذة من صفاء القلب، غير أن اللغة لا تؤيد ذلك، وقيل: مأخوذة من الصف، أي الصف الأول القريب من الله وعارضت اللغة ذلك أيضًا، ولاضطراب القول في تعريف التصوف قال أبو الفتح البستى:
تخالف الناس في الصوفي واختلفوا.. وكلهم قال قولًا غير معروف
ولست أمنح هذا الاسم غير فتى.. صافي فصوفي حتى سمي الصوفي
وما نقبله من هذه التعريفات وتؤيده اللغة هو أن ننسب الصوفية والتصوف إلى الصوف ولبسه، فقد تآزروا به ولبسوه، حتى عرفناهم به، فقبلوه وقبلناه.
ولسادة الصوفية أقوال في فهم التصوف، وقد قال كلٌ منهم على حسب حالته وارتقائه في دار التصوف، فهذا معروف الكرخي المتوفي سنة 200هـ يقول: “التصوف الأخذ بالحقائق، واليأس مما في يدي الخلائق”.
ويقول شهاب الدين أبو حفص السهروردي المتوفي سنة632هـ: “الصوفية رزقوا سائر العلوم التي أشار إليها المتقدمون، ومن أعز علومهم علم النفس ومعرفتها، ومعرفة أخلاقها”، أي أنه جعل التصوف الحق هو الإحاطة بالإدراك والفهم للعلوم الشرعية وغيرها، ويثب الصوفيون فوق علماء الظاهر (علماء الشريعة) بمعرفتهم أيضًا بأحوال النفس وخباياها.
ومن أراد تفصيلاً في هذا فله: الرسالة القشيرية، واللمع للطوسي، وعوارف المعارف.
العشق
الفرق بين التصوف والزهد
كثير ما نخلط بين التصوف والزهد، وهذا من الخطوب العظيمة، والمصائب الجلية، فليس كل زاهد صوفي، لأننا لو أقررنا ذلك لحق لنا أن نقول إن النبي (صلى الله عليه وسلم) وصحابته (رضوان الله عليهم) هم رؤوس التصوف، فمن كان سيدًا في الزهد كان سيدًا في التصوف وذاك هو الخطأ بعينه، فالزهد: هو الترك مع الامتلاك، أي أنك تملك من المال والثراء والغنى غير أنك لا تأبه بهذا، ولا تسعى لجمعه، فهذا هو سيدنا عمر عندما رأى أحدهم وقد رقعت ثيابه فسأله عن حاله، فأجاب الرجل: إني زاهد، فسأله سيدنا عمر فما تملك من الدنيا، وقد علم أن الرجل لا يملك شيء، فقال سيدنا عمر لست زاهدًا بل إن الدنيا قد زهدت فيك، فاشترط الفاروق أن تملك حتى تزهد، وإلا فهذا لا يعد زهدًا.
وهذا سيدنا عثمان حيزت له الخلافة، وأمسك بزمام الأمة، وملك من المال ما رفع به شأن الإسلام غير أنه يقول: “لولا أنني خشيت أن أسد ثلمة (ثغرة) في الإسلام بهذا المال ما جمعته”، وعلى هذا كان منوال النبي (صلى الله عليه وسلم) وصحابته، وكذا التابعين مثل الحسن البصري، وابن سيرين، وابن جبير، وابن المسيب.
وقد استطاع مؤرخو الصوفية أن يجعلوا حياة هؤلاء الزاهدين مرحلة توطئة للصوفية، وبذلك جعلوا الصوفية مترتبة على الزهد الذي عاشه النبي (صلى الله عليه وسلم) وصحابته والتابعين من بعده، وهنا تبرز القضية الأكبر هل التصوف سيق من مصادر إسلامية أم من مصادر أجنبية عن الإسلام.
مصادر التصوف
إن لهم علمًا لا ينافسهم عليه أحد، بل هو ما يملكون ولا نملك، حتى علو على الناس، وتفردوا بالقول في الأحوال والمكاشفات والمقامات، فبلغوا في الغموض ما لم يبلغه غيرهم، حتى كشفت لهم الحجب، وعلموا من الغيب ما عجز عنه الأنبياء، ورأوا الله وخاطبوه فخاطبهم، وتوسلوا إليه فنزل فيهم فقالوا: حلولاً، واتحد بهم فقالوا: اتحادًا، فإن الولي هو الله، والله هو الولي، حتى رأيتني أعبد نفسي فأعبده، وأخرج من ذاتي لأنظر إليه فأمتع عيني به، ومن أنا علي فأعطيت نفسي علم لدنى، “وعلمناه من لدنا علمًا” وما قلته من القول السابق ليس بقولي، وإنما لبست لباسهم، وتمخرقت بخرقة الصوفية فصار لساني لسانهم، وقولي قولهم.
أما عن المصادر فما تركت فئة من فئات الكفر من خلق الله إلا وأتت عليها فأخذت منها.
تأثرهم بفلاسفة الهند
سمعنا عن الفلاسفة في الهند، وقولهم بتناسخ الأرواح، وإن الجسد ليبلى ولكن الروح لا تبلى، ورأينا فعلهم وقولهم عند المتصوفين فآمنوا بوحدة الوجود، والحلول والاتحاد.
ونجمل القول في تأثرهم بفلاسفة الهند، فنجد أبا الريحان البيروني الخوارزمي (ت: 440هـ) بعد أن تكلم عن قضية التانسخ في معتقدات الهند في كتابه “تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة” يقول: “ذهب من الصوفية من قال: إن الدنيا نفس نائمة والآخرة نفس يقظانة وهم يجيزون حلول الحق في الأمكنة كالسماء والعرش والكرسي، ومنهم من يجيزه في جميع العالم والحيوان والشجر والجماد”، فجعل مصدر قضية الحلول والاتحاد عند المتصوفة هندية المنشأ، أو بالأخص تعود إلى البراهمة، وقيل إن الزهد والتقشف ربما عرفته الصوفية من تلك الأفعال التي أتى بها بوذا في حياته، وأصبحت تعاليمًا ينتهجها البوذيون من بعده، أو نرجع بشيء من الصوفية إلى فكرة النيرفانا وهي: التجرد والسعي إلى الحياة المثالية نتيجة لحياة أخلاقية شديدة، وللحق فإن القول الأخير لا يعضد فكرة تأثرهم بفلاسفة الهند، لأن الزهد والتقشف عرف عند الرهبان، وغيرهم، بل نحن المسلمين نرى أن عدم التعلق بالدنيا هو من أجل الإيمان، فلا الزهد ولا التقشف موقفان على البوذية أو غيرها، كما أن فكرة الحياة المثالية، أو طلب المثل العليا ليس حكرًا على البوذية.
ولو رجعنا للفظة التناسخ، أو الانسلاخ، أو الوحدة الوجدية، أو الاتحادة والحلول لوجدنا أن تلك الألفاظ لها صلة قوية جلية بين الصوفية والمعتقدات الهندية، ولما كانت معتقدات الهند من الشهرة بمكان فوقفنا هنا على إظهار تلك الصلة من أقوال المتصوفة الفلاسفة مثل ابن الفارض القائل:
“وشكري له والبر مني واصلٌ.. إلي ونفسي باتحادي استبدت
ولم أله باللاهوت عن حكم مظهري.. ولم أنس بالناسوت مظهر حكمتي
إلي رسول كنت مني مرسلًا.. وذاتي بآياتي علي استدلت”
ولا نعدم مثل هذه الأبيات عند المتصوفة، بل إن تلك المادة عندهم غزيرة لا انتهاء لها، فهذا أبو يزيد البسطامى يقول: “سبحاني سبحاني ما أعظم شأني ثم قال حسبي من نفسي حسبي” ، ويقول أيضًا “كنت أطوف حول البيت أطلبه فلما وصلت إليه رأيت البيت يطوف حولي” ، وهذا يؤكد قولتهم إن الله يتحد بهم ـ تعالى الله عما يقولون ـ وروي عنه “دخل أبو يزيد مدينة فتبعه منها خلق كثير فالتفت اليهم فقال: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني}، فقالوا: جن أبو يزيد فتركوه”، والمخزى في هذا الأمر أن أبا يزيد هذا له درس رائع في مقرر اللغة العربية عند الصف الأول الإعدادى الأزهري.
ولا نلقى أي عنتٍ أو جهدٍ في البحث عن تلك الجواهر الزائفة في كتب المتصوفة، ولذلك أهله مثل: الحلاج، ومحيي الدين ابن عربي، وابن سبعين، وغيرهم.
ومن الذين قالوا بأن مصدر التصوف راجع إلى الأفكار الهندية من المستشرقين، هم: فون كريمر، وريتشارد هارتمان، وهورتن، ولا أعرف من المسلمين من قال بذلك سوى أبي الريحان البيروني.
حلقات الصوفية
تأثرهم بالفرس
وصرح كثيرٌ من المفكرين بأقوال كثيرة تؤيد من يقول: إن التصوف به من دين الفرس وطبائعهم، ونلخص القول في ذلك بأن هذه الفكرة تعتمد على تلك الصلات القديمة بين الفرس والعرب قبل الإسلام، ثم الالتحام الذي تم بين العرب الذين دخلوا تلك البلاد، ورفعوا راية الإسلام هناك، بل نرى ما كان للفرس من قيمة عظيمة لما أحدثته في النهوض بالدولة العباسية، والمحاربة من أجلها، فلا ننكر أن العباسية تدين بالولاء للفرس في قيام دولتهم، فلا مانع من أن يتغاضى العباسيون عن بعض ما يأتون من أفعال وافقوا أو خالفوا فيها الإسلام، وإذا كان أمير المؤمنين العباسي وافق، فلما لا ينخرط في مسالكهم الكثير من المسلمين العرب وغير العرب، ويدعم ذلك: أن من المتصوفة الأول ما هو فارسي الأصل.
ومن ينظر بعين مجردة من الأهواء يلحظ هذا التشابه بين النزعات والعقائد الفارسية القديمة، وبعض التعاليم والمذاهب الصوفية، ولا نجانب الصواب إن قلنا إن لنا في “المانوية” و”المزدكية” خير دليل على ما نقول.
وللصوفية في حقيقة النبي المبرأ مما يقولون، أقوالٌ، منها أن النبى أول مخلوق خلقه الله، ومنه تقرعت المخلوقات الأخرى في الأسفل والأعلى، بل هو قبة الكون، وإليه مرد الأمور وأحكامها، ولا يفصل في أمرٍ إلا بالرجوع إليه ـ والحمد لله على ذلك، فبعضهم جعل أولياءهم ممن يحكمون في الكون ـ وهذا يشبه ما ورد في الكتاب الزرادشتي المعروف باسم “زند فاستا” ما يفيد أن هرمس إله الخير في الزرادشتية لم يخلق كونه بالأمر المباشر، بل من خلال الكلمة القدسية أو الإلهية، وهي تعنى عند الصوفية “محمد”.
فالرسول عند الطريقة البريلوية لديه من القدرة ما يتحكم به في أمور الكون وتسييره، وهو حاضر ناظر في الأفعال، وينكرون بشرية النبي، وإنما هو نور من الله.
وإذا كانت عقائد الشيعة ما هي إلا استنساخ لما أمسى عليه الفرس، فإن بعض المتصوفة أخذ تلك العقائد من الشيعة وآمن بها، ونقول: إن البعض منهم يتبارى في إرضاء الشيعة، وخلق الصلات معهم، والاشتراك بينهم في النسب والأصل، مثل: الطريقة الختمية التي تقول: بوحدة الوجود، ولقائهم رسول الله، وإن نبيهم محمد يحضر احتفالاتهم بمولده النبوي، وينسبون أنفسهم إلى الإمامية الاثنى عشرية.
وكذا تتفق الطريقة الرفاعية ـ المنسوبة إلى أحمد الرفاعي ـ مع الاثنى عشرية في بعض الأفكار الجوهرية منها إيمانهم بكتاب الجفر، واعتقادهم بالأئمة الاثنى عشرية، ومما زاد المبلة طينًا قولهم بأن الرفاعس هو الإمام الثالث عشر بعد الاثنى عشر ـ وهذا مثل لويس السابع عشر ـ كما يوافق الرفاعية الإمامية في حزنهم يوم عاشوراء”(8)، فنقول للعراق: “أحسن ما نبقى زي العراق وسوريا” والحق يقال لا فرق بيننا فإن كانوا اثنى عشرية فنحن كفتجية رفاعية.
ولا يقف الأمر عند ذلك فمن أراد أن يرى عجبًا، وينضح عرقًا، ويفور الدم منه والرأس، فليتابع الطريقة العزمية الآن في مصر.
تأثرهم بالمسيحية
فالإسلام ينكر الرهابنية، ولا يقبلها أبدًا، ولكننا لا نستطيع إنكار الرهابنية عند المتصوفة، وما هو أصيل في الشهرة أن لبس الصوف، وترك الملبس الآخر، والعزف عن تناول الأطعمة الحيوانية هو من أعمدة التنسك والرهبنة، كما نرى في المتصوفة ذلك، ونرى فيهم هذا الاختصاء الذي قال به الصحابي عثمان بن مظعون، وكانت هذه اللفظة في هذا الوقت مقصورة على المسيحية ورهبانيتها.
ولنا القول بالتشابه بين عزلة الرهبان في الصوامع، وبعدهم عن الحياة العامة، وهجر الأولاد والزوجة، وترك المال والضياع سعيًا لهذه العزلة، مع عزلة المتصوفين، ولا نأخذ هذا القول بعين الجد، فقد فعله النبي (صلى الله عليه وسلم).
وهناك تشابه بين أقوال المسيح عليه السلام، وبين ما نجده في أدبيات الصوفية، فقد مر المسيح (عليه السلام) بقومٍ صفر الوجوه، نحاف الأجسام، فسألهم: “لماذا أنتم على هذه الحال؟” قالوا: “بسبب العشق لله”، فقال لهم: “إنكم أقرب الناس إليه” وهذا يصل بأي شكل إلى قول رابعة العدوية إذ تقول: “ما عبدتك خوفًا من نارك ولا طمعًا في جنتك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك.
وتقول أيضًا:” أحبك حبين: حب الهوى…وحبا لأنك أهلٌ لذاك”
وإن كنت في نفسى لا أعول على هذا المصدر كثيرًا لكنني أوردته لكثرة القول به.
تأثرهم باليونانية أو الأفلاطونية
والطالب صدقًا يرى في عقائد الصوفية من قضايا الحلول والاتحاد ووحدة الوجود إيمانًا صارخًا بتلك المعتقدات مثل إيمان: أبي اليزيد البسطامي وسهل التستري والترمذي الملقب بالحكيم وابن عطاء الله الإسكندري وابن سبعين وابن الفارض والحلاج ولسان الدين بن الخطيب وابن عربي والرومي والجيلي والعراقي والجامي والسهروردي المقتول وبايزيد الأنصاري وغيرهم.
فهل هذه الأمور أخذت أخذًا من الأفلاطونية الحديثة أو اليونانية، فلا نقول بذلك أبدًا، ولكن نرى أن أصحاب تلك المعتقدات تأثرو باليونانية بشكلٍ أو بآخر، فكانت تلك القضايا، ولكن منذ متى؟!
يقول الدكتور عبد القادر محمود: “فإذا عدنا إلى تاريخ الاتصالات الأولى نجد أن الثقافة اليونانية كانت هي الثقافة المسيطرة على العقول في الشرق منذ عهد الإسكندر بالإضافة إلى ثقافات الشرق نفسه، لكن الذي نؤكده أن باب الاتصال المباشر كان الأفلوطينية المحدثة ولو أن المسلمين حسبوها لأرسطو حين اعتقدوا خطأ أن كتاب الربوبية له، وهو في الواقع لأفلوطين الذي عرفوا من ورائه أفلاطون والثقافة اليونانية القديمة”، فلا نؤمن بما آمن البعض بأن أفكار الحلول والاتحاد وغيرها هي من اليوناينة بل نقول: هي من آثار دراسة الفلسفة الأفلاطونية على عقول بعض المتصوفة فخرج لنا هؤلاء بتلك الأفكار إثر تعمقهم بالأفلاطونية”.
ويتزامن هذا التأثير مع عصر الترجمة في عهد الخلافة العباسية، فلو قلنا في القرن الثاني أو الثالث الهجريين فهذا يوافق حياة أبي يزيد البسطامي والحلاج القائلين بالحلول والاتحاد، ولو قلنا إن التأثير طرأ في القرن السادس الهجري فهذا يوافق حياة محيي الدين ابن العربي الصوفي المتفلسف، وحياة أبي حامد الغزالي الصوفي السني الذي عارض تيار الصوفيين المتفلسفين.
ونوازن بين أفكار الصوفية وبين ما قالته الأفلاطونية وغيرها، فما سنورده الآن هو من تاسوعات أفلوطين، مثل: “النفس التي لا تضاء بضوئه تظل بغير رؤية” في التاسوع الخامس.
فلو أن النفس أضيئت بهذا النور الأسمى لرأت الأسمى نفسه، كما أننا لا نرى الشمس إلا بضوء الشمس، فهذا ما قاله أفلوطين (ت 205م) وما آمن به الفارابي وابن سينا والحلاج والسهروردي وابن عربي وابن الفارض وابن سبعين.
ويقول أفلوطين: “وقد حدث مرات عدة أن ارتفعت خارج جسدي بحيث دخلت في نفسي، كنت حينئذ أحيا وأظفر باتحاد مع الإلهي”، وله أيضا “يجب على أن أدخل في نفسي، ومن هنا أستيقظ، وبهذه اليقظة أتحد بالله” ولا نلقى جهدًا في الشبه بين تلك الأقوال الفائتة وأقوال المتصوفة مثل ابن العربى القائل: “فما أنت هو، بل أنت هو، وتراه في.. عين الأمور مسرحًا ومقيدًا”.
ويقول ابن الفارض في تائيته:
“وغيبت عن إفراد نفسي بحيث لا.. يزاحمني إبداء وصفٌ بحضرتي
وها أنا أبدي في اتحادي مبدئي.. وأنهي انتهائي في تواضع رفعتي”.
خرج ابن الفارض من نفسه كما خرج أفلوطين، حتى ينتهي إلى الرفعة بانتهاء ما كان مقيدًا فيه، ويرى أن هذا مبدأه في الاتحاد، ونرى أنه ابن الفارض الأفلاطوني.
ولا ضرر بعدما كان من قولنا فنقرأ العجب العجاب للجيلي في كتابه “الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل”، في الجزء الثاني منه إذ يقول: “ولقد اجتمعت بأفلاطون الذي يعدونه أهل الظاهر كافرًا، فرأيته وقد ملأ العالم الغيبي نورًا وبهجة، ورأيت له مكانة لم أرها إلا لآحاد من الأولياء، فقلت له: من أنت؟ قال: قطب الزمان وواحد الأوان”، فإن الجيلي قابل أفلوطين المتوفى سنة (205م) أي قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وسلم) ومن هذا نعلم أن الصوفيين خارج المكان والزمان، فيجمعون بين القديم والحديث في الحقيقة، وهذا من ضروب السفه ولا شك.
وزد على ذلك سخفًا أن الجيلى يقول: “أرسطو تلميذ أفلاطون قد تتلمذ على يد الخضر بعد أن لزمه”، فوالله لهذا أشبه بمن قال: “رأيت بعيني زواج أبي وأمي” ولا أنكر عليهم بعد ذلك إن قالوا إن موسى (عليه السلام) من تلامذة الصوفية النجباء، فلنحفظ له موضعًا، ولنضع له وردًا، ولا عجب إن جعلوا فرعون أيضًا متصوف ولكن سيدنا موسى (عليه السلام) قد ظلمه.
ولا نورد أكثر من ذلك في سوق المصادر، ولا نجعل مصدرًا واحدًا هو المتحكم في نشأة الصوفية، أو منبعها، بل نقر بأن الصوفية ما كانت لتقوم على مصدر واحد، وإنما شربت من الهندية حتى تناسخت، وانسلخت، واتحدت، وحلت، وشربت من الفارسية فتشيعت، وأقرت بمعتقدات كثير من الشيعة، بل وقامت بها، وشربت من النصرانية فترهبنت، وتمخرقت، ولبست الصوف، وعزفت عن اللحوم، واعتزلت الناس في صوامعها، ورأت بعين الإيمان ما لا يرى بعين الظاهر.
وأخذت من الأفلاطونية فخرج العارف بالله من نفسه حتى يرى نفسه، فوجد هو هو، ورأى الله فيه فاتحد به فصار هو العابد والمعبود، والعاشق والمعشوق فلو قال: “أنا من أهوى ومن أهوى أنا.. نحن روحان حللنا بدنا” فما كذب، ولو قال عن نفسه: “وإني لأعبدني” فهو المصدق، ولو قال: “أنا هو، فأعبد أنا، ويعبدني” فهو العارف بما نجهل.
فلو سار بعد ذلك مولانا العارف بالله على الماء فلا ننبهر، وإن زنى، وأتى المطية فجامعها فهو الطاهر المبرأ، ولو خطب بين الناس عريان فنقول هو الخلوق ولكننا نرى بعين الظاهر وهو يرى بعين الباطن، ولو رأيناه في فراش عاهرة فلنقل: “ولما كان هو الله، والله فيه، كما أن الله قد اتحد بها فلا عجيب في أن يلتقى الله بالله” ووالله ما كان ما قلته إلا زبيبة فوق جبلٍ من العته، والسخف الذى لا يترك في العقل عقلا.
وللشعراني السبق في الوقوف على كرامات أوليائهم، ومعرفة أحوالهم، والكشف عن علومهم، واقرأوا في أورادهم فتجد الخبل الجارف مثل: وإن رجلًا أنكر مولد سيدنا الإمام العارف بالله، المتوكل على الله أحمد البدوي، فسلب الإيمان، فلم تعد في رأسه شعرة تحن إلى الإسلام، فبالله عليكم لا تنكروا الموالد فإنها قادرة على سلبكم الرزق، والعقل، والولد، والإيمان.
وإن من نظر إلى الإمام التيجاني صاحب الطريقة التيجانية فقد ضمن الجنة، وإن النبي قد ظهر للتيجاني حقيقة فضمن لأهل التيجانية دخول الجنة.